كان لي صديق لا يحب العمل، وأكثر شيء يفضله في حياته هو الجلوس بلا عمل، النوم، التربع على قمة الفراغ، كثرة الأكل، هذه عادات وأشياء مفضلة لديه، وفي الحقيقة كنت في طريقة حياتي أشكل النموذج المضاد له، كنت خفيف الحركة، احب العمل والانتاج بكل انواعه، اكثر شيء أكرهه هو الجلوس وعدم الحركة، كان أبو صديقي يقول لابنه الخامل كن مثل صديقك نشيطا منتجا عاشقا للحركة والعمل، فكنت أشعر بالفخر وانا في مقتبل العمر، وكنت أتألم في سرّي على صديقي الخامل الذي لم تفده النصائح الكثيرة مني ومن ابيه، ولكن في آخر المطاف توفي ابوه (رحمه الله)، ولم يعد لصديقي احد يصرف عليه، ساعدته أنا كم شهر، ثم اخبرته علنا، انا غير مستعد لمساعدتك طول العمر.
خاصمني صديقي وابتعد عني لأنني كنت صريحا معه، لم أعد أراه، لم نكن معا كما كنا في السابق، ابتعد عني، وانا كذلك لأنني تعبت من مساعدته اليومية وكأنني أعيل شخصين أحدهما يكد ويجد ويجتهد والآخر يأكل وهو نائم بلا انتاج، افترقنا سنوات، الى أن التقينا مرة اخرى فوجدته وقد تغير بشكل كبير واصبح صاحب محال، ويمتلك اموالا وسيارة خاصة، وتزوج واصبح لديه اولاد، وعندما سألت عن أسباب التغيير، قالت لي امه لقد تغير كليا بعد وفاة أبيه، لقد بات العمل أكثر شيء يحبه في حياته.
العمل مفردة صغيرة لكنها تبني حياة الانسان وتعمّر الأمم والبلدان والبيوت، ولذلك يعد العمل من أفضل الأشياء في رحلة البشرية الشاقة، حتى حسن النسب لا يتفوق على العمل وما يمنحه للانسان من رفعه وتميّز، لهذا يقول الامام علي بين ابي طالب عليه السلام:
(مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ).
هناك تفسيرات كثيرة لمفردة العمل، ويعرّف المختصون العمل بأنه ما يقوم به الشخص من مجهود إرادي واعي، وهو ما يستهدف منه الإنسان السلع والخدمات لإشباع الحاجات التي تخصه، ومن هذا التعريف يتضح لنا أن مجهود الحيوانات أو مجهود الإنسان يعتبر بغير هدف ولا يعتبر عملا، والعمل هو المجهود الحركي أو ما يسمّى بالطاقة والجهد الذي يبذله الإنسان من أجل تحصيل أو إنتاج ما يؤدي إلى إشباع حاجة ما.
إشباع الحاجات البشرية
ولا شك أن العمل يختلف عن الانتاج من حيث المعنى والمضمون والنوع ايضا، فـ الإنتاج كما يرى احد الكتاب (يشمل مجموع السلع والخدمات وما يصاحبها من جهد بشري لإيجادها من أجل إشباع حاجة ما، ويمكن أن يكون هذا الإنتاج سلعةً، كما أنه خدمة، فإنّ تكييف الطاقة يعتبر من أهم العوامل التي تتجسد في إنتاج السلع والخدمات، مثل النجار، والعامل، والطبيب، والحمال، فإن كلا من هؤلاء يكيف طاقته الإنسانية من أجل إشباع حاجة معينة، من هنا فإن العمل هو الجهد، أو ما يسمّى بالقوة البشرية التي تتفاعل مع مختلف العناصر الأولية من أجل توفير سلعة مادية، أو لإشباع حاجات فكرية ونفسية.
وقد حدّد الإسلام مفهوم الحاجة وما يتبعها من عمل وإنتاج، وبين جميع عناصرها في جملة من النصوص والمفاهيم، وأوضح أن الطاقة الإنسانية بالتفاعل مع عناصر الطبيعة هي التي تنتج السلع التي يشبع بها الإنسان حاجاته المادية المختلفة، ويسد بها نواقص حياته كالطعام واللباس والدواء، وقد وجدت في كيان الإنسان قوى حركية وفنية وعقليةً ضخمة يمكن أن تتفاعل مع جميع عناصر الطبيعة، فالله سبحانه وتعالى قد جعل في كل إنسان القدرة والطاقة التي تمكنه من توفير لوازم الحياة ومستلزماتها).
لقد نهضت الأمم من خلال العمل والانتاج بأنواعه كافة، ولا شك أن العمل هو منهج حياة وطريقة عيش يمتاز بها فرد عن آخر، حسب التربية والنشأة والمحيط المجتمعي الذي يترعرع به الانسان، فهناك شعوب تحب العمل والانتاج مثل الشعب الصيني والهندي، ولا نقصد من العمل كثرة الحركة بلا انتاج او ما يسمى (بالجعجعة بلا طحين)، وانما العمل الذي يسهم في تقدم الفرد والجماعة ويزيد من مواردهم وخبراتهم العملية، ويسهم في تطوير حياتهم، ويضاعف فرص الرفاهية لهم.
ولا شك أن حاجة الانسان هي التي تدفعه الى العمل، (فلولا الحاجة إلى الشيء لما كان هناك سبب عميق في إنتاجه وإيجاده، ولولا الحاجة إلى هذا الشيء لكان وجوده عبثاً لا مبرر له، والسعي من أجله تضييعا للجهد والمال والوقت الإنساني الثّمين، كما أنّ الإنسان في حالته الطبيعية يجب أن يعمل ويكسب لأن العمل هو ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه حتى لا يتخذ من الاحتكار وسيلةً لسلب جهود الآخرين، فيما يعيش هو في حالة كسل وخمول وترهّل على الكسب الشاذ المدمّر لنظام الحياة).
الحياة فاشلة بلا تخطيط
ويوجد نوع من البشر يعيش على الكل والأمنيات، أي أنه يفلح كثيرا في التمني، ولكنه لا يعمل ولا يخطط ولا ينتج أي نوع من انواع السلع، كونه اساس غير غير مستعد لبذ اي جهد من أي نوع كان، هل يوجد هذا النوع من الناس بيننا فعلا؟؟ الجواب نعم ان هذا النوع الخامل من الناس يعيش بيننا، وهو عالة على الآخرين، يعيش على التمني ولا يعمل لأنه يكره العمل.
يقول الامام علي عليه السلام: (أَشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى).
فالانسان اذا اراد أن يكون غنيا عليه أن يترك الأمنيات التي لا تقدم شيئا للانسان سوى التأخر خطوات وخطوات الى الوراء، ولا شك أننا لا نقصد من العمل أن يعيش الانسان عمره كله عاملا باذلا للجهود العضلية والجسدية بغير نظام، فهناك نظام عالمي للعمل، من حيث عدد ساعاته والاجور، وظروف العمل، وهناك نقابات تدافع عن العمال، وهناك قوانين ومنظمات لا تسمح بالتجاوز على العمال، وهناك أنظمة حوافز وتقاعد ومكافآت، ونظام صحي، كلها تسهم في جعل حياة العامل أكثر سهولة وراحة ومتعة ورفاهية.
هذه الضوابط وقفت الى جانب العمال، وهي قد تختلف من دولة الى اخرى، بل احيانا تختلف من مصنع الى آخر، لكن في الحقب الماضية كان العامل يتعرض للظلم اكثر بكثير مما يحدث اليوم، فاليوم هناك من يدافع بقوة عن العمال، أما عندما نتحدث عن الوضع الفردي والحياة العملية الفردية للانسان وطبائعه وطريقة حياته، فإن هذا الأمر سيكون مختلفا من فرد الى آخر، فهناك من يعمل بجد ونجاح، كونه يحترم العمل منذ بواكير حياته، ومن شبّ على شيء شاب عليه، وهناك من يبقى يعيش على حالة الأمل بلا عمل.
يقول الامام علي عليه السلام في احدى حكمهِ المعروفة:
(مَنْ أَطَالَ الْأَمَلَ أَسَاءَ الْعَمَلَ).
في مجتمعاتنا الاسلامية، نحتاج الى من يعمل بصورة فعلية، يأمل ويخطط وينفذ ما يخطط له، ويضيف حجرا جديدا على البناء الذي سبقه، ويسهم في التطوير الاقتصادي للأمة والشعب والبلد، هذه هي الغاية الأسمى من العمل كونه يساعد على تقدم المجتمع، ويدفعه الى أمام كي يتبوّأ مكانا متقدما مع الشعوب والدول التي تقف في المقدمة بسبب إتقانها للعمل والانتاج الأفضل.
اضف تعليق