كان القرن العشرون يمثّل فترة التغيير الصناعي والتكنلوجي السريع في المجتمع، وهو التغيير الذي بدأ بإعادة تعريف دور كل من الفرد والمجتمع. ماكس ويبر وسيجموند فرويد كانا مفكرين ثوريين اعترفا بأهمية هذه العلاقة وحاولا تقرير ما اذا كان ميزان القوى بين المجتمع والفرد يميل نحو احد الاتجاهين دون الآخر.
العالم اصبح باستمرار كابحاً واكثر تعقيدا بحيث اجبر هذين المفكرين ليسألا نفسيهما ان كان المجتمع حقا اصبح قوة شديدة الديناميكية لدرجة لا يمكن للفرد التكيف معها، ذلك ان كان المجتمع حقا هو من يقود الانسان. رغم ان كلا المفكرين يعرضان رؤيتين مختلفتين جذريا حول الثقافة والمجتمع لكنهما يحاولان جاهدين للإجابة على نفس السؤال: هل الفرد يسيطر على المجتمع ام ان المجتمع هو الذي يسيطر على الفرد؟
ربما يجيب المرء على هذا السؤال بشيء من الريبة، بالتأكيد نحن لدينا سيطرة على أنفسنا، لكن هل نحن لا نمتلك السيطرة على قدراتنا في هذه اللحظة؟ اللحظة التي نقرأ بها هذه الورقة، لذلك اذا كان هذا لا يحقق بعض الرغبة الواضحة المباشرة فهو ينجز هدفا من نوع آخر. هذا الهدف هو ربما تحقيق مستوى من التعليم ولكن مرة اخرى نسأل أنفسنا لماذا؟
بالتأكيد جميعنا نريد تطوير قدراتنا وتحسين خبراتنا ولكن الاكثر احتمالا ان هذا له هدف اساسي هو النجاح في المجتمع. المجتمع كشف لنا في اغلب الحالات اننا نحتاج مقدارا كبيرا من التعليم لكي ننجح. لذلك، ربما نطرح السؤال التالي هل حضورنا للدراسة هو نتاج لرغباتنا ام لرغبات المجتمع؟ الغرض من هذا الجدال هو فقط للإشارة لشيء نحن ربما لا نعترف به مباشرةً بصرف النظر عما تمليه رغباتنا الخاصة، نحن لا نستطيع الاّ ان نتأثر بقيم واخلاق مجتمع العصر الحديث. وبسبب هذا التأثير، وما يتبعه من مكافأة وعقوبة، وجد الفرد نفسه حقا استُغل من جانب هذه الهيئة الكبيرة.
السايكولوجي سجموند فرويد يعبّر عن هذه النقطة في انجازه الكبير (الحضارة وسلبياتها)(1). يشير فرويد الى هذا الصراع بين الفرد والمجتمع بقوله".... عمليتا التطور الثقافي والفردي يجب ان يقفا في تضاد معادي لبعضهما.. " (فرويد 106). وبعد وصفه تأثيرات الحضارة كـ "ضرر مقرف" لرغباته، فرويد يستمر ليستنتج ان "... الثمن الذي ندفعه لتقدمنا في الحضارة هو خسارة السعادة من خلال تكثيف الشعور بالذنب"(فرويد، 97). مرة اخرى نرى تناقضا حادا بين رغبات الفرد ورغبات الحضارة. الآن يبدو ان مصطلح "الرغبة الحرة" اسيء فهمه كثيرا لأن رغبة كل شخص بطريقة ما هي مقيدة بالمجتمع.
يصف فرويد الوعي الساحق للمجتمع بـ "الانا الأعلى"راو superego. في دراسته قسم فرويد الذات الى ثلاثة عوالم منفصلة، الهو(id)، حيث مقر الغرائز والرغبات، والانا(ego) او الذات الواعية والانا العليا (superego)، وهي اصل الاخلاق والضمير. وبصرف النظر عن مدى الصلاحية السايكولوجية الاجتماعية لهذا الانقسام في الذات، فان ما يسعى اليه فرويد من تنظير هو معرفة الكيفية التي يفكر بها الكائن البشري. غير ان تأثيرات ومضامين هذا النموذج كانت فريدة من نوعها لأن فرويد اتخذ من هذا النموذج كخطوة للتقدم أكثر وتطبيقه على المجتمع ايضا. "انه يمكننا الادّعاء بان الجماعة، ايضا تخلق ذاتا عليا يجري في ظلها تأثير التطور الثقافي"(فرويد، 106). هذه الذات العليا للمجتمع هي اساس الصراع بين المجتمع والفرد.
ما يشير اليه فرويد هو ان المجتمع يخضع لسيطرة الضمير، تماما كما في حالة الفرد. "نقطة اخرى من الاتفاق بين الذات العليا الثقافية والفردية هي ان الاولى تماما كما الاخيرة، تضع مطالب مثالية صارمة، عدم طاعتها يتزامن مع الخوف من الضمير (فرويد، 107). لذا إذا كان التطور الفردي والثقافي في تصادم مع بعضهما وكل واحد له ضميره الخاص، فماذا سيحل بنا؟ عندما تصبح الحضارة اكثر تعقيدا وتستحوذ على المزيد من حياتنا فطبقا لفرويد يستطيع المرء ادراك ان ضمير المجتمع في الحقيقة هو الذي يأتي قبل الفرد.
السوسيولوجي ماكس ويبر استخدم العلاقة بين الفرد والمجتمع لتوضيح تطور الرأسمالية من الناحية الاجتماعية. نظام القيمة الذي نشأ في مثالية الزهد المسيحي، تدريجيا وجد نفسه جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الغربي (Gramsci’s Hegemony). هذا النظام من القيم، او العقلانية، كان مرتكزا على مفهوم "الاخلاق غير العادية"، التي شخصها ويبر بـ "الروح الاقتصادية، او روح النظام الاقتصادي"(2).(ويبر، 27). هذه الروح هي التي احتوت المجتمع وهي التي استخدمت ببراعة سلاح الرأسمالية بدلا من ان تكون رغبة الفرد. "وهكذا رأسمالية اليوم، التي سيطرت على الحياة الاقتصادية، تلقّن وتختار الموضوعات الاقتصادية التي تحتاجها من خلال عملية البقاء للأصلح الاقتصادية" (ويبر، 55). وبصرف النظر عمن يقبل او يرفض هذا النظام الاقتصادي المفروض من المجتمع، فان اولئك الذين يمتلكون غريزة البقاء لن يكون لديهم اي خيار سوى القبول به.
ورغم ان هذا النظام الاقتصادي المستوحى دينيا ربما كان مرغوبا مرة، لكن ويبر يصفه بـ"القفص الحديدي". مبدئيا، ضمير المجتمع حل محل ضمير الفرد. "البروتستانتي اراد العمل وفق نمط نحن مجبرون عليه. لأنه عندما تغلغلت الزهدية الرهبانية في الحياة اليومية، وبدأت تسيطر على الاخلاق الدنيوية، فانها مارست دورا في بناء نموذج هائل للنظام الاقتصادي الحديث". (ويبر، 181). ولكن ما قامت به حقا هذه "الاخلاق البروتستانتية" هو اجبار الفرد على اعتناق الرأسمالية والاخلاق التي احاطت بها كطريقة في الحياة. المجتمع قرر بانه لكي ننجح يجب ان يكون لدينا عمل ويجب ان نستلم أكبر كمية من النقود، حتى وان كانت لا تنسجم مع سعادتنا. لذا، من حيث المبدأ، يصف ويبر المجتمع بنفس طريقة فرويد. ويبر يستنتج ان الاخلاق البروتستانتية التي اكتسحت المجتمع نجحت اليوم في اختزال العمل الى مجرد وسائل للاكتساب. "اختصاصيون بلا روح، حسيون بلا قلب، هذه التفاهة تتصور انها انجزت مستوى من الحضارة لم تحققه من قبل"(ويبر، 182). الرأسمالية جرى استيعابها لدى القطاعات الرئيسية للمجتمع وقُبلت ليس فقط كعقيدة وانما كاسلوب مقبول وحيد للاكتساب.
السؤال عن طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع لازال قائما حتى اليوم. وبصرف النظر عما اذا كنا نتحدث عن روح الفرد او عن تطوره السوسيولوجي يبدو ان الانسان لا يصعب عليه ادراك ان وجودنا يمكن تبسيطه الى دوافع جنسية وحاجات اقتصادية. وسواء لم يؤمن المرء كليا بفرضيتي ويبر وفرويد، لا شك ان كلا الرجلين يصفان المجتمع الذي يمارس سيطرة كبيرة على الفرد. الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين ونلمس مرة اخرى تصاعد وتيرة التطور التكنلوجي ربما من الملائم توجيه السؤال لأنفسنا عن مقدار القوة التي نمتلكها تجاه حياتنا كأفراد، وعن مقدار الكلفة التي يدفعها الفرد كانسان في المجتمع.
اضف تعليق