الألقاب لا تعطي الإنسان قيمته، بل ربما تسرقها. ما يجعل الإنسان عظيماً هو صدقه، تواضعه، عطاؤه، ومحبته للآخرين. في لحظات الفرح والحزن، نحن بحاجة إلى أن نتذكّر أن الله خلقنا جميعاً من نفس واحدة، وأن الكلمة التي تسبق أسماءنا لا تضيف شيئاً إلى حقيقتنا...

في كل مناسبة فرح أو حزن نعيشها في مجتمعنا، يطغى مشهد متكرر حتى صار جزءاً من عاداتنا اليومية: مقدِّم الحفل أو المجلس وهو يرفع صوته ليقدّم الحاضرين واحداً تلو الآخر محمّلين بألقاب ثقيلة: "الشيخ"، "الأستاذ"، "الدكتور"، "المهندس"، وكأن قيمة الإنسان لا تكتمل إلا إذا أُلصق به لقب يمنحه وزناً اجتماعياً مصطنعاً.

من الطبيعي أن نحترم المناصب والإنجازات العلمية والاجتماعية، لكن المشكلة حين يتحوّل اللقب إلى بطاقة هوية جديدة تغطي على جوهر الإنسان الحقيقي. في مثل هذه المناسبات، يكاد يُمحى الفرد من ذاته، ويُختزل في كلمة تسبق اسمه. يصبح الإنسان "اللقب" قبل أن يكون إنساناً، مع أن الله خلق البشر سواسية، وجعل معيار التفاضل بينهم هو التقوى والعمل الصالح، لا الشهادات ولا الألقاب ولا الأموال.

هذه الظاهرة ليست مجرد عادة لغوية؛ إنها انعكاس لمنظومة قيم مرتبكة. حين نصرّ على تقديم الأشخاص بألقابهم المهيبة، فإننا نُكرّس بشكل غير واعٍ التمييز بين الناس. فالفقير أو البسيط أو الذي لم يحمل شهادة أكاديمية يُهمّش وجوده في المجلس، حتى وإن كان أكثر حكمة أو تجربة أو صدقاً. بينما صاحب اللقب يحظى باحترام مفرط، قد يصل أحياناً إلى التملّق أو الانحناء الرمزي.

ثقافة التفاخر بدل ثقافة الإنسانية

في مناسبات الفرح، تتحول بعض الأعراس إلى استعراض طبقي غير معلن: "معنا الآن الأستاذ فلان"، "ونرحب بالدكتور فلان"، وكأن العرس لم يعد فرحة مشتركة تجمع الناس على بساطتهم، بل مناسبة لإبراز "من هو أعلى مرتبة" اجتماعياً. وفي مجالس العزاء، حيث من المفترض أن يسود الخشوع والتساوي أمام الموت، نسمع مقدم المجلس يرفع الصوت مكرراً: "حضر معنا الشيخ فلان"، "الدكتور فلان"، "الأستاذ الكبير"، مع أن الموت يساوي الجميع، لا يفرّق بين لقب وآخر.

هنا تكمن المفارقة المؤلمة: كيف نسمح للألقاب أن تسرق منّا لحظات كان يفترض أن تُظهر إنسانيتنا المشتركة؟ كيف ننسى أن الحزن والفرح مشاعر بشرية لا تحتاج إلى تصنيفات أو تفاوت؟

حين يصبح اللقب قيداً

الألقاب ليست مشكلة فقط لأنها تصنع فجوة بين الناس، بل لأنها تحوّل حاملها نفسه إلى أسير لها. "الدكتور" الذي تعوّد أن يُقدَّم بهذا الشكل قد يشعر بالحرج إذا نودي باسمه مجرداً من لقبه. "المهندس" ربما يظن أن مكانته تهتز إذا لم يُذكر لقبه في المجالس. وهكذا يتحوّل اللقب من مجرد تعريف وظيفي إلى جزء من الهوية الذاتية، إلى قيد غير معلن يربط صاحبه بسياج من الغرور أو الحساسية المفرطة.

أصل المشكلة: خلل في الوعي الجمعي

هذه الممارسات تكشف عن خلل في وعينا الجمعي. نحن نبحث دائماً عما يمنح الشخص قيمة خارجية، بدلاً من أن ننظر إلى قيمته الداخلية. نحن نميل إلى صناعة "هالة" حول الأشخاص، بدل أن نحتفي بإنسانيتهم فقط. في مجتمع ما زال يعاني من تفاوتات طبقية وثقافية، تتحول الألقاب إلى أدوات لإعادة إنتاج هذا التفاوت بشكل علني.

نحو بديل أكثر حضارية

ما الذي يمنعنا من أن نحتفي بالإنسان كما هو؟ أن نقول ببساطة: "معنا الحاج فلان"، أو "الأخ فلان"، أو حتى "فلان بن فلان"، من دون حاجة إلى تضخيم أو تهويل. الاحترام الحقيقي لا يحتاج إلى لقب، بل إلى سلوك وأخلاق ومواقف. في الدول الحضارية، على سبيل المثال، تجد أن الحضور يُنادى بأسمائهم مباشرة، بغضّ النظر عن مكانتهم العلمية أو الاجتماعية. الفارق بينهم وبيننا ليس في الإنجازات، بل في الوعي.

الألقاب لا تعطي الإنسان قيمته، بل ربما تسرقها. ما يجعل الإنسان عظيماً هو صدقه، تواضعه، عطاؤه، ومحبته للآخرين. في لحظات الفرح والحزن، نحن بحاجة إلى أن نتذكّر أن الله خلقنا جميعاً من نفس واحدة، وأن الكلمة التي تسبق أسماءنا لا تضيف شيئاً إلى حقيقتنا.

فلنجعل مناسباتنا مساحة لتجديد إنسانيتنا المشتركة، لا ساحة لاستعراض الألقاب. لأن الإنسان، في النهاية، ليس "دكتوراً" أو "شيخاً" أو "أستاذاً"... بل هو إنسان، وهذه أعظم هوية يمكن أن يحملها.

اضف تعليق