الاستثمار في المحبّة ضرورة لحماية الصحة النفسية للفرد والمجتمع، يمكننا التحلي بالمحبّة إن وجدنا مَن يتقبلها ويتفاعل معها بصدق، نبّهت على ضرورة تجفيف منابع العلاقات الاجتماعية السامّة مع الناس الذين نكرّر التعامل بالحسنى معهم مرات عديدة، لكنهم يلبثون يكرّرون مواقفَهم الشريرة، كلما أحسنا إليهم أساؤوا إلينا...

لا تستقل المحبّة غير المشروطة عن الرحمة، الأكثر محبّة أكثر رحمة وحنانا، يتسع القلب للرحمة بقدر ما تضيئه المحبّة. كلما اتسع القلب بالحبّ اتسع فيه فضاء الرحمة، وصار القلب منبعاً غزيرًا للحنان والعطف والرفق والشفقة. 

أنا شخصيًا، مع كل هذا العمر وكل الثقة التي أستمدها من المحبين، ما زلت أحتاج إلى الرفق والرأفة والعطف والشفقة والرحمة، بمعانيها الأخلاقية العميقة. أدرك جيدا شيئا من عجزي وأعي مواطن هشاشتي وفقري واغترابي الوجودي. 

أرفض الشفقة لحظة تأتي بمعنى العطف الاستعلائي، الشفقة عندما تصدر من موقع علو تصير غطرسة بلهاء، تمحق أثرها المنشود لعزاء الروح ومداواة جروحها، ويتعطل أثرها كبلسم، ولا يتذوق الإنسان فيها العطفَ والرأفةَ والحنانَ الذي ينشده.

الإنسان في لحظات الأسى يحتاج إلى المواساة والعطف والشفقة أكثر من أيّ شيء آخر، لتكون سندًا يعيد إليه شيئًا من التحمل والأمل والسكينة .

الرحمةُ حالةٌ، الشفقةُ حالةٌ، المحبّة حالةٌ، كلُّ حالةٍ أمر وجودي يتجسّد في موقفٍ وفعلٍ يعبّر عنه. مكافأة الرحمة غير المشروطة التحقّق بالرحمة، مكافأةُ الشفقة غير المشروطة التحقّق بالشفقة، ومكافأة المحبّة غير المشروطة التحقّق بالمحبّة، ذلك ما يسمو بالإنسان ويرتقي به إلى مقام أخلاقي نبيل. 

عندما تموتُ الرحمةُ في القلب، تموت إنسانية الإنسان. الرحمةُ هي الأصل لكلِّ حالات تسامي الروح وإشراقها، فهي ما يمنح الحياة بُعدها الأخلاقي السامي. للحُبّ صلة عضوية بالرحمة، الحُبّ يؤثر ويتأثر بالرحمة، والرحمة تؤثر وتتأثر بالحُبّ. الحُبّ يتجذر بالرحمة، والرحمة تتجذر بالحُبّ، كلاهما يعزّز الآخر ويثريه في سياق التكامل الإنساني. ومع ذلك، لا الحُبّ ‏ولا الرحمة بديلان للعدالة والعقوبات والقوانين والأنظمة والخطط والبرامج الضرورية لبناء الدولة وإدارة شؤون الناس، وحماية الحياة الشخصية والمجتمعية من الشرّ الكامن داخل الإنسان.

المحبّة والرحمة ليستا بديلًا عن القانون العادل في بناء أية جماعة بشرية أو تأسيس أي دولة. الظلمُ مقيمٌ في الأرض، وعيش الإنسان وتأمين متطلباته الحياتية يفرض عليه الكدح والتنافس والصراع. القانون العادل وتطبيقه على الكلِّ بلا تمييز يمنع من أن ينتهي تأمينُ الإنسان لمصالحه ومتطلباته إلى نزاعات دموية وحروب عدوانية مزمنة. 

القانون العادل هو الإطار الذي يُحكم به التنافس والنزاع واحتواء الصراعات المختلفة والخلاص من آثارها الموجعة في تصدع الأمن والسلام. تضيف المحبّة والرحمة بعدًا إنسانيًا يعمّق الروابط ويحدّ من القسوة والعنف، فتتكامل صورة الحياة الجيدة. 

الحُبّ كيمياءٌ تصهرُ عناصرَ متنوعة في حياة الإنسان فتنتج توليفةً كأنها إكسيرٌ يحوّل كلَّ شيء داخل الإنسان إلى نفيس، وكذلك تفعل الرحمةُ عندما تنطقها لغةُ القلب المشفِقة، الرحمةُ تعيدُ ترميمَ كلِّ شيء تتفاعل معه في حياة الإنسان، تشفي جروح الروح، وتبعث طاقة حيوية تعيد بعث الأمل في الأرواح اليائسة. الحنانُ والرحمة والشفقة والحُبّ شجرة واحدة، على الرغم من أن جذر هذه الشجرة المحبّة غير المشروطة، إلا أن كلَّ واحدة منها تعيد إنتاج الأخرى على شاكلتها وتسقيها وتغذّيها.

الحنان شحيحٌ في مجتمعنا، نادرًا ما تجد إنساناً يفيض الحنانَ على من حوله، للحنان سلطة خفيّة تأسر القلوب، وتعيد خلق العلاقات الإنسانية بأجمل صورها، وتحميها من التصدّع والانهيار. الحنان ترياق مدهش تخضع له القلوب طوعاً، وإن كانت قاسية. 

لغة الحنان صوت الله في روح الإنسان. بصمة كلمات الحنان ضوءٌ لا يموتُ لو تشبع فيه قلب إنسان، وهذا ما يخلّد كلمات الأبوين والأم خاصة في قلوب الأبناء، مهما كانت عفوية، كلُّ كلمة معطرة بالحنان لن تموت. ما يمكثُ في القلبِ، مهما امتدَّ عمرُ الإنسانِ، وأعذبُ ما يرثُهُ الأبناءُ من الأمهاتِ والآباءِ، هو كلماتُ ومواقفُ ومبادراتُ الحَنانِ الدافئةِ. 

تظهرُ طاقةُ الحَنانِ في عبورِهِ من جيلٍ إلى آخرَ داخلَ العائلةِ الواحدةِ، إذا كانَ حاضراً بكثافةٍ في حياةِ هذه العائلةِ، ويتربى عليهِ الإنسانُ منذ طفولتِه. قوة أثر كلمات الأنبياء وذوي الحياة الروحية الطاهرة تكمن في أن كلماتهم تذهب للقلب قبل العقل، ما يمنحها قدرة استثنائية على تغيير الإنسان وإيقاظ ضميره وعواطفه. ذوو الحياة الروحية الطاهرة يدركون جيدًا ديناميكية التغيير بلا كراهية وإكراه، فيتلقى تلامذتُهم ومَن يتعلمون على أيديهم الكلمات بمحبّة كقناعات راسخة، خلافًاً لما يفعله غيرهم كالأيديولوجيين والزعماء السياسيين الذين يفرضون أوامرهم على غيرهم.

الحياة شبكة من المصالح المتبادلة، وهذه المصالح أوسع من أن تُختزل في الجانب المادي فقط، فهي تشمل الجوانب المعنوية أيضًا. عاصرتُ أناسًا متغطرسين لا يطيقون التعامل إلا مع من يدور في فلكهم، ولا يتوقف عن التصفيق لهم. هؤلاء يحترفون الذم والهجاء والشتيمة، حتى أنهم لو لم يجدوا شخصًا يستهدفونه، لجأوا إلى شتم أنفسهم. تفوّق هذه الشخصيات الشوهاء الوحيد يكمن في تضييع الأصدقاء وصناعة الأعداء. يعيشون وكأن الله خلق البشر عبيدًا لهم، يسعون للحصول على كلِّ شيء من الناس، دون أن يكونوا مستعدين لتقديم أي شيء في المقابل. 

هناك فرق كبير بين التعامل الاجتماعي مع الإنسان وفهم سلوكه وتناقضاته بعمق. فهم الإنسان يتطلب النظر إليه من خلال عدسة علم النفس، والتربية، وعلم الاجتماع، ومعطيات العلوم والمعارف الحديثة المختلفة. هذا الفهم يُمكّننا من تفسير دوافعه وسلوكياته بعيدًا عن السطحية. أما التعامل الاجتماعي مع الإنسان، فيجب أن ينضبط بالمعايير الأخلاقية، حتى لو كان الشخص الذي نتعامل معه لا يلتزم بهذه المعايير. 

إذا كان كاذبًا، فكن أنت الصادق. إذا كان خائنًا، فكن أنت الأمين. إذا كان مراوغًا، فكن أنت المستقيم. وإذا كان مدلسًا، فكن أنت الواضح. صحيح أن التعامل بالحسنى مع بعض الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية أو أخلاقية حادة قد يبدو أمرًا شاقًا، وأحيانًا لا يُطاق، وقد جربت ذلك مرارًا، مع ذلك، يفرض علينا الضمير الأخلاقي أن نعاملهم بالحسنى، ما دامت العلاقة ممكنة. 

ولكن عندما نصل إلى مرحلة لا نستطيع فيها تحمل هذه العلاقة، يكون من الضروري الابتعاد عن هذه الشخصيات المريضة والسامة حفاظًا على سلامتنا النفسية والأخلاقية.

لا أقبل ما يقال عن ضرورة محبّة الأعداء، ولا إعلان كراهيتهم والانشغال بهم. لا أدعو لما هو غير واقعي في كتاباتي، أتحدث على وفق ما تطيقه الطبيعة الإنسانية. محبّة الأعداء أوهام غير واقعية، المحبّة حالة وجودية لا يمكن إكراه القلب عليها، يمكن ترويض القلب على التحرّر من كابوس الكراهية. الممكن هو كراهية أفعالهم ومواقفهم، والتعامل برفق ولطف ومداراة معهم ما أمكن ذلك. 

ما هو غير واقعي في المحبّة ربما هو متعذّر في غيرها، يمكن أن يكون غير الواقعي في غير المحبّة ممكنًا في بعض حالاتها النادرة، أحيانًا يحدث ذلك لشخصيات استثنائية نادرة من ذوي التجارب الروحية من عشّاق الحقّ تعالى ومخلوقاته ومحبّتهم مهما كانوا. متاعب الحياة أكبر من طاقتنا على تحملها، المحبّة والإيمان يجعلاننا أقدر على تحمل هذه المتاعب مهما كانت. 

الاستثمار في المحبّة ضرورة لحماية الصحة النفسية للفرد والمجتمع، يمكننا التحلي بالمحبّة إن وجدنا مَن يتقبلها ويتفاعل معها بصدق. نبّهت على ضرورة تجفيف منابع العلاقات الاجتماعية السامّة مع الناس الذين نكرّر التعامل بالحسنى معهم مرات عديدة، لكنهم يلبثون يكرّرون مواقفَهم الشريرة، كلما أحسنا إليهم أساؤوا إلينا.

اضف تعليق