حكمٌ يطلقه البعض على الوالدين بأنهما يعيشان الماضي وليس بوسعهما مجاراة التغيرات الحاصلة في الافكار والوسائل، ففي الماضي كان الابناء يصغون الى نصائح وحِكم الكبار ثم يصوغونها منهجاً لحياتهم المستقبلية، أما اليوم فلا تعد ثمة حاجة الى ذلك، إنما التجربة والاقتحام والجرأة هي الوسيلة الأسرع لتحقيق الأحلام والتطلعات...
أن تبلغ مدارج عليا في العلم المعرفة، او تحقق نجاحاً في هوايتك المفضلة، او تتزوج بمن تُحب، او تهاجر الى البلد الذي تعتقد أنه قاعدة انطلاقك نحو التألق والتطور، كل هذا من منتجات الذهن الوقّاد، والنفس الطامحة نحو الافضل، ولا يمسّ الواقع الخارجي في كثير من الاحيان، بينما الأسرة التي يشيّدها الأب والأم سوية تمثل الواقع والحقيقة على الارض، فهي تضم الأفراح والاتراح، والنجاح والفشل، ومن أعظم ما فيها؛ الفرصة المتاحة ليختبر الابناء قدراتهم وأفكارهم وتمحيص الصواب من الخطأ، مما يوفر عليهم عناء البحث والتجربة المكلفة في كثير من الاحيان.
لا يقبلون الجديد
حكمٌ يطلقه البعض على الوالدين بأنهما يعيشان الماضي وليس بوسعهما مجاراة التغيرات الحاصلة في الافكار والوسائل، ففي الماضي كان الابناء يصغون الى نصائح وحِكم الكبار ثم يصوغونها منهجاً لحياتهم المستقبلية، أما اليوم فلا تعد ثمة حاجة الى ذلك، إنما التجربة والاقتحام والجرأة هي الوسيلة الأسرع لتحقيق الأحلام والتطلعات.
في البداية كان التقاطع يتمخض عن شجار بين الآباء والابناء، يسفر عن طرد من البيت، او هروب، بينما اليوم يبدو ثمة اسلوباً أكثر "عصرية" نلاحظه هذه الايام لإدارة المواجهة بذكاء يمتص ما لدى الأبوين من اعتراض، وهو؛ فرض الأمر الواقع، ويساعد على هذا؛ وسائل التواصل الاجتماعي المتوفرة بين يدي الابناء في الغرف المغلقة بعيداً عن العيون، فيكون بالإمكان الاتصال، والسؤال، والبحث، والتجربة، ثم التنفيذ، وفي النهاية الخروج بنتيجة يراها الشباب ملبية للطموح والرغبات، ويتم عرضها على الأبوين بشكل مفاجئ مصحوبة بابتسامة رقيقة بأن "هذا ما وصلت اليه"! فما هو رأيكم؟
على الأغلب يحب معظم الأباء والأمهات تلبية حاجات ورغبات الابناء، بما يشعرهم بقوة مكانتهم، كما يُشعر الابناء بدفء احضانهم، فلا يرغبون بتعكير الاجواء طالما ثمة تحقيق منجز على الارض، مع تفاعل و ابداع يثير المشاعر الايجابية للتشجيع والتحفيز غاضين النظر عن النتائج على المدى البعيد، ومن أراد التحقق اكثر في النوايا، ومن يقف خلف الستار، فان عليه الاستعداد لمزيد من الاصطدام بجدال له أول وليس له آخر، مع عدم ضمان النتيجة المرجوة لهم، اذا كان الشاب او الشابة أبرم الاتفاقيات، وقدم الوعود لاطراف مختلفة، ومضى خطوات بعيدة في مشروعه فمن الصعب ايقافه او إلغاء الفكرة مهما كانت الاسباب.
هنا نسأل ببساطة؟
ما الذي يمنع الشباب من مفاتحة الآباء بأفكار وتطلعاتهم؟
وما هو اساس المقولة بأنهم "لا يقبلون الجديد"؟
الأب والأم، وحتى الاجداد، هم بشر، كما الابناء، يحبون الجديد في الحياة، لاسيما ما يخدم حياتهم اليومية، ومن يتحدث عن هاجس الآباء والاجداد من الجديد والعصرنة، فان منشأه ثقافياً، فهم يعتمدون الافكار والتقاليد والعادات، ولا يتمسكون بالوسائل المستهلكة، ولديهم قناعة بأن ما لديهم من الثقافة يمكن الانطلاق بها في عالم الانتاج والبحث العلمي، فالمهم؛ وجود الإطار العام، أما المحتوى فهو قابل للتحديث، فهل يتعارض مبدأ الاستشارة والنصيحة بين الأب وابنه المتخصص في برمجيات الحاسوب، فيسمع الابن لنصيحة أباه في المضي قدما في برمجة باتجاه معين دون آخر لمعرفته بالفوائد او الاضرار المحتملة؟ وهذا المثال ينسحب على مختلف الافكار الشبابية، ومنها الزواج، او خوض غمار العمل، او الهجرة خارج البلاد، أو قرارات مصيرية اخرى.
اعتقد أن ثمة صورة نمطية سيئة منصوبة في الطريق أمام الشباب توهمهم بصعوبة مجاراة الآباء لهم في افكارهم ومشاريعهم بالحياة، وهذا بحد ذاته يمثل أول مرقاة مهزوزة في سلم الارتقاء تهدد مسيرة الشباب بنهاية غير محمودة عندما يجدون أنهم حطموا كل الجسور خلفهم ولا جدار يستندون اليه في حال الفشل او حتى الخطأ البسيط المتوقع في كل مشروع، سوى ذواتهم المشحونة بنظريات الأمل والثقة والقوة التي لا وجود لها سوى في صفحات بعض الكتب.
الأسرة أول تجربة للنجاح
الرؤية الواقعية للطامحين والمتطلعين نحو النجاح ترى في الأسرة ميدان التجربة الأول لنجاحهم في أي فكرة او مشروع يعدونه تجسيداً لذواتهم، فمن يريد أن يكون كاتباً أو شاعراً او رساماً، او يرنو الى ميادين العلم والمعرفة، كأن يريد ان يكون طبيباً او مهندساً، او طياراً، او محامياً، او حتى مفكراً وفيلسوفاً، فان اختصاصه يحتاج لميدان التجربة، فالنجاح بين يدي الأب او الأم، يعزز المصداقية أمام سائر افراد المجتمع، أما الهاربين من الفشل في علاقاتهم الأسرية، فمن الصعب إقناع الناس بصنع النجاح خارج الأسرة، فمن عجز عن اقناع أبيه بفكرته –مثلاً- كيف يتصور قدرته إقناع اشخاص كثُر في المجتمع بأفكاره وشخصيته؟
ظلال هذا التأثير ينسحب على السلوك أيضاً؛ فالطبيب –مثلاً- أو مدير الدائرة، او الأديب والعالم، عندما ينثر الابتسامة والعفو والاحسان والتواضع على متابعيه والقريبين منه، فان الشكر الجماعي سيتوجه فوراً الى التربية الحسنة للأبوين، وفي اللهجة العراقية ثمة جملة تمثل عنوان الشكر والثناء؛ "رحم الله والديك"، وقطعاً؛ يكون العكس بالعكس.
كل قصص الناجحين تحبكها أيدي الأم او الأب و الزوجة، فمن التحفيز والتشجيع على مواصلة الدراسة، وضخ روح الثقة بالنفس وتذليل العقبات وتوفير أفضل الأجواء النفسية والمادية ليرتقي الأبن المبدع والمتألق سلم النجاح فيكون "أديسون" الذي أخفت الأم رسالة المعلمة اليها بضرورة بقائه في البيت كونه "غبي"! ولم يعلم بها حتى بعد وفاتها وحين أصبح مخترعاً وشخصية تدين له البشرية جمعاء بفضل الإنارة. ويمكن أن نورد مثالاً آخر من تاريخنا الاسلامي في أمٍ –أيضاً- حرصت على ان تكون على طهارة في رضاعة ابنها ليكون فيما بعد ذلك العالم الفذّ والعبقري؛ الشيخ مرتضى الانصاري الذي تدين له الحوزات العلمية في كل مكان بفضل كتابه "المكاسب"، وهو يُعد أحد أبرز المناهج في دراسة الفقه.
ولعل ابناء الجيل الماضي في العراق –تحديداً- يشهدون على تضحيات الآباء والأمهات في سني الحرمان والتخلف والأمية ليكون الابن عالماً في الذرة، او مهندساً معمارياً، او طبيباً ناجحاً، أو خطيباً مصقعاً، كل أولئك تخرجوا بدايةً من بين أبوين أميّين، لا يحسنون القراءة والكتابة –في كثير من الاحيان- قبل ان يتخرجوا من المدارس والجامعات.
وفي الوقت الحاضر حيث انتشار نور العلم والمعرفة في معظم البيوت والأُسر، يفترض ان تتعمق وشائج العلاقة بما يسهّل بشكل كبير حركة الابناء في مسيرتهم العلمية، مع وافر من الحوافز نحو الابداع، والثقة للنجاح.
اضف تعليق