q
العنوسة بصورة عامة يمكن ان نصفها بالمعركة الضارية، وقودها النساء والخاسر الوحيد بها هي الفتاة، فالمجتمع اليوم بحاجة الى استثمار شريحة النساء بصورة أكثر مما مضى من وقت، وهذا الاستثمار لا يأتي الا في حال وجود مؤسسات تنموية قادرة على بناء الفرد البناء الصحيح الذي ينهض بالمجتمع...

كعادتها تدخل هند الى مكان عملها مسرعة لمباشرة أعمالها اليومية، قبل ذلك تؤدي التحية على زميلتها منذ سنوات علياء التي تكبرها بعامين، ردت عليها السلام بتثاقل ولم تزيد عليه بكلمة واحدة، شعرت هند بعدم الارتياح وصمتت قليلا، أخذت تفكر بالأمر لبرهة من الوقت.

حدة ذكائها وطول علاقتها بعلياء لم تشفعا لها لمعرفة ما يدور في خلاجتها، ازداد القلق لدى هند، وتزاحمت الأسئلة في مخيلتها، لم تتمكن من إكمال ما تعودت على تأديته طالما علياء تمر بهذه الحالة المُزرية، فالدموع نقشت ممرها على وجنتيها، مصوبة بنظرها نحو الأرض، ولم تنبس ببنت شفة.

نهضت هند من مكانها والألم يملأ قلبها، اقتربت من علياء وانحت عليها قليلا، ونطقت: "علياء عزيزتي ما بكِ اليوم؟ اراكِ ليس على ما يرام؟" بعد تنهيدات طويلة، أجابت بنبرة يكسوها الحزن والانكسار، "لم انم طوال الليل، ولم يتوقف الدمع عن الانهمار، والسبب وراء ذلك أمي ياهند.. نعم أمي.. لا تستغربي من ذلك فهي الحقيقة بعينها".

عرفت فيما بعد ان أمها رفضت عريس تقدم لخطبتها، خيم الصمت على المكان وانطفئات شرارة الحماس المتوهجة في سريرة هند، كونها تسمع كثيرا بمثل هذه التصرفات، لكنها هذه المرة عاشتها بصورة واقعية، وشعرت بمدى صعوبة الأمر على الفتاة التي تتعرض لمثل هذه الأزمات والتدخلات من قبل الأهل في حياة الابناء وتحديدا الفتيات.

علياء نموذج بسيط عما يدور في المجتمع من ممارسات خاطئة بحق الأولاد، فكثيرا من البنات تقع ضحية تشدد الوالدين وبالخصوص الأم التي تعتبر هذا الخناق يصب في مصلحة ابنتها، التي لا تملك المهارة في اختيار شريك الحياة في ظل التقلبات الاجتماعية الطاغية على الوجود.

وفي هذه الحالة لم تقترف الفتاة اي ذنب سوى انها أذعنت لرغبة أمها، التي كانت سببا بعد لحاق البنت بقطار الزواج الذي توقف بمحطتها فأصبحت عانسا تعيش الأنين بصمت وتمر بشعور لا يعرفه ال من ذاق مرارته، وبذلك لم تظفر الفتيات بتمر شريك يقاسمهن رحلة الحياة، ولا عنب رحمة المجتمع الذي لم يتردّد في ملاحقتهن بالأعين والألسنة التي لا ترحم.

ولم يكن العراق وحده يعاني من تفشي هذه المشكلة، شاركته بذلك سوريا بذات النسبة وهي 70‎%‎، بينما اشارت آخر الإحصائيات الى ارتفاع نسبة العنوسة في لبنان لتصل الى 85‎%‎ متفوقة على جميع البلدان العربية، فيما حلت فلسطين بالمرتبة الاخيرة نتيجة لانخفاض نسبتها التي شكلت7‎%‎.

بالتأكيد بقية دول العالم لم تخلو من هذه الظاهرة لكنها قد تكون بنسب منخفضة الى حد ما مقارنة بما هو سائد بالمجتمعات العربية، ويعود السبب المباشر لذلك هو كثرة الحروب، وضعف الجانب الاقتصادي بصورة كاملة، مما ادى الى غياب فرص العمل التي تكون العامل المساعد على توفير المتطلبات الحياتية ومن بينها الزواج.

اما علم الاجتماع له رأي آخر يرى انه يقف وراء تمدد هذه الظاهرة، اذ تقول الباحثة في علم الاجتماع كريمة الود غيري إن الفتاة العانس تعيش مجموعة من الصعوبات النفسية والاجتماعية، فمثلاً تأخرها في السن يجعلها تشعر بحرمانها من ممارسة الأمومة، أيضا يجعلها محطة للشبهات وللتحرشات، ذلك أن في مجتمعنا لاتزال الثقافة الذكورية مسيطرة رغم التحولات التي يعرفها.

ولايزال مصطلح العنوسة حاضرا بثقله على جميع المستويات، على اعتبار أن المرأة في نهاية المطاف، لابد لها من زوج يصونها وبيت تكون ملكته، والزواج هو الذي سينقذها من الدونية التي يضعها فيه المجتمع.

عندما تكرس الفتاة حياتها للتعليم تصبح هدف واضح لشتى النعوت، وتوصم بأكثر الألقاب قسوة (البايرة)، هذا المصطلح الذي يعتبر من معاول تهديم الشخصية، الى جانب المجتمع، فأصبحت من المشكلات المعقدة والمستعصية التي تدفع إلى وجود حل لها.

العنوسة بصورة عامة يمكن ان نصفها بالمعركة الضارية، وقودها النساء والخاسر الوحيد بها هي الفتاة، فالمجتمع اليوم بحاجة الى استثمار شريحة النساء بصورة أكثر مما مضى من وقت، وهذا الاستثمار لا يأتي الا في حال وجود مؤسسات تنموية قادرة على بناء الفرد البناء الصحيح الذي ينهض بالمجتمع.

اضف تعليق