مسلسل الموت المستمر بشكل مريع في اوروبا والولايات المتحدة يستوقفنا للنظر الى الموقف الراهن انسانياً، بعيداً عن خلفيات الوباء، وكيف وصل هذه البلاد المتطورة علمياً والمتقدمة في نظامها الصحي؟ ولماذا عجز علماؤهم عن احتوائه والسيطرة عليه؟ فقد بلغ أسماع العالم نداءات الاستغاثة من أوروبا وحتى الولايات المتحدة...
"الناس صنفان؛ إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق".
أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب، عليه السلام
عندما أطاح فيروس "كورونا المستجد" بعشرات الآلاف من البشر في البلاد الغربية، وما يزال، فانه أطاح في الوقت ذاته بصور كبيرة شيدها المنظرون والمفكرون الغربيون طيلة عقود من الزمن عن نظامهم السياسي والاقتصادي والصحي بأنه المثالي والمتكامل في العالم، وأنه الأقدر على توفير الحياة السعيدة للانسان فعندما يصاب هذا الانسان –والحال هكذا- بنكبة او يتعرض لأزمة، فانه قادر بنفسه على تجاوزها والتغلب عليها، ولن يكون بحاجة مطلقاً الى الآخرين ممن يقال عنهم "العالم الثالث" للتدخل وتقديم المساعدة له، فضلاً عن الترويج الهائل للنموذج الرأسمالي في الاقتصاد، وللانسان الحر، وسيادة القانون والنظام في كل شيء، مما يستهوي شعوب العالم الاخرى للاقتداء بهم.
مسلسل الموت المستمر بشكل مريع في اوربا والولايات المتحدة يستوقفنا للنظر الى الموقف الراهن انسانياً، بعيداً عن خلفيات الوباء، وكيف وصل هذه البلاد المتطورة علمياً والمتقدمة في نظامها الصحي؟ ولماذا عجز علماؤهم عن احتوائه والسيطرة عليه؟ فقد بلغ أسماع العالم نداءات الاستغاثة من ايطاليا واسبانيا وفرنسا وبريطانيا وحتى الولايات المتحدة، ومدّ يعد العون بالممكن والمتاح من المساعدة لمواجهة هذه الجائحة، للتقليل من حجم الإصابات على الاقل.
ربما تكون الفكرة بعيدة عن الواقع نظرياً، ولكن من الناحية العملية بالامكان خلق واقع جديد من شأنه تغيير كثير من الصور الذهنية والنمطية الخاطئة لدى الانسان الغربي عن المسلمين، والتأكيد على إمكانية فعل الكثير لخدمة الشعوب الغربية من منطلق انساني بحت، ليجدوا المصداقية العملية لما رفعته الأمم المتحدة على مدخل بنايتها من المقطع الشهير لوصية لأمير المؤمنين، عليه السلام، الى مالك الأشتر: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"، ولكن؛ يحتاج الأمر، بدايةً؛ الى معالجة قضية مهمة قبل التوجه الى هذه المهمة الحضارية الكبرى.
الجدار الوهمي الفاصل بين الشرق والغرب
هناك تصور خاطئ ابتلى به كثير من الناس في الشرق، كما ابتلى به أقرانهم في الانسانية بالغرب، ففي الشرق ينظرون الى العلم الاميركي –مثلاً- على أنه مصدر مشاكلهم، لانه كان يرفع على الدبابات وعلى السفارات، وعلى أذرع الجنود الأميركان، ومرسوماً على الطائرات التي تلقي الحمم على الابرياء. لذا يجب حرقه وسحقه تحت الاقدام، علماً أنه علم يحمل خمسين نجمة تمثل الولايات المتحدة التي يعيش فيها حوالي اربعمائة مليون انسان، ومعروف عن الشعب الاميركي أميته السياسية الى حد كبير، فهو لا يتابع اخبار الشرق الاوسط، ولا يعرف اسماء الحكام، واين تقع ايران –مثلاً- او اليمن او سوريا من خارطة العالم، بخلاف التسييس والتثقيف الموجود لدى المواطن في بلادنا المأزومة.
وفي الجانب الآخر، فان نظرة الغربيين الى الانسان العراقي –مثلاً- او المصري أو الايراني، او اليمني، مشحونة بالسلبيات والمخاوف، فهو تجسيد للتخلف والفوضى، وفي وقت لاحق، وبعد أحداث ما يسمى بـ"11ايلول" لم يبق للمواطن في اوربا وأميركا أدنى شك بأن من يدخل المسجد للصلاة في بلادهم، او يكون مظهره بشكل خاص، بل كل من يتحدث عن الدين والاحكام الاسلامية، فانه "ارهابي" يشكل خطراً على السلم الأهلي لابد من التخلص منه.
وإذن؛ ليست هناك عقول وأدمغة مبدعة، وليست هناك ثقافات وتقاليد وآداب وكل ما تحمله الحضارة الطيبة لبني البشر، كل شيء يدعو الى التنافر والتباعد الى حد الكراهية الشديدة والعدائية المطلقة، ولكن! في مناسبات معينة، او زيارات بين الشعوب يتضح إن كل هذه الصورة الذهنية والنمطية ما هي إلا محاولات تشويه تقف ورائها دوائر مخابراتية وإعلامية متخصصة في تمزيق أواصر الانسانية بين الشعوب، وإذكاء روح العداوة والبغضاء فيما بينهم بدعاوى التفوق والاقتدار في كل شيء، فالشعوب الاسلامية ورثت السلام وحب الخير للآخرين من تراثها الحضاري، أما العنف والتطرف والكراهية فهي من صنع افراد كانوا يعانون مشاكل نفسية داخل مجتمعاتهم، وكانوا محرمون من أحضان العطف والحنان، ومن التعليم الجيد، وفرص العمل الكريمة، كما إن الجرائم التي ارتكبتها الحكومات الأميركية والعواصم الاوربية بحق الشعوب، ليس بالضرورة ان تكون المرأة والطفل والرجل المتقاعد والكبير في السن في البلاد الغربية مسؤولاً عن كل هذه الاعمال التي ربما لم يسمع بها.
النظام الصحي أم النظام الاجتماعي؟
خلال متابعتنا لتطورات ومسلسل انتشار "كوفيد19" قلما نسمع من يتحدث عن النظام الاجتماعي، وآداب الطعام والشراب، وحتى المناعة، وهي من الناحية العلمية، تشكل الجهاز الدفاعي الأول والأقدر على تدمير أي فيروس يخترق جسم الانسان، إنما الذي يملأ وسائل الاعلام الحديث عن الانظمة الصحية في المستشفيات والمراكز الصحية والبحثية بين نجاح وفشل مساعي دؤوبة للبحث عن أنجع الطرق لمكافحة هذا الوباء او على الاقل تطويقه والحدّ منه، ولا أشك أن علماء الطب والباحثين في هذا المجال بالغرب يتغافلون عن البحث في اسباب الانتشار السريع للوباء عندهم، فيما هو بطئ في الدول العربية والاسلامية، بل نجده مسيطراً عليه في بلد مثل العراق، وهو يتحدى بذلك كل التوقعات والتكهنات بانهياره أمام كورونا المستجد من أول اصابة له في شهر شباط الماضي!
ما يحتاجه الغربيون ليس الشفاء من كورونا المستجد وحسب، إنما "التغيير الحقيقي والشامل للمناهج في الغرب"، (كيف يمكن نجاة الغرب- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي) فالذي دفع المجتمع الغربي الى هذه الهاوية ليس هذا الفيروس وإنما الثقافة الاجتماعية والصحية الخاطئة، وهذا إن كان يصدق على الغرب، فانه يصدق على الشرق الصيني ايضاً الذي انطلق منه الوباء، كما نشأت من قبل أوبئة عديدة في السنوات الماضية.
وفي كتاب سماحة الامام الشيرازي ثمة اشارة مهمة وجوهرية الى مسألة التقاطع مع الفطرة الانسانية السليمة في الجانب الصحي حيث جرّبت الشعوب الاوربية مختلف اشكال الامراض الوبائية والمزمنة الناتجة عن الفوضى في العلاقات الجنسية، و ايضاً عن تناول مختلف اشكال الاطعمة والمشروبات وتحدي الاضرار المحتملة، والغريب معرفة كثير من الاوساط العلمية بأضرار لحم الخنزير –مثلاً- وأضرار المشروبات الكحولية، الامر الذي تسبب في زعزعة قدرة الجهاز المناعي في جسم الانسان الغربي على مواجهة هذا الفيروس الغريب.
ولذا نجد الامام الشيرازي في كتابه هذا يعد النجاح في مهمة مساعدة الغرب في وجود عمل مؤسسي، وليس مجرد مبادرات فردية من منطلق انساني، بما يؤكد الحرص على تحقيق أكبر قدر من النجاح في هذه المهمة الانسانية والحضارية، بعد الالتفات الى جملة مسائل:
أولاً: تسليط الضوء على جوهر المبادئ والقيم.
عندما يجري الحديث عن نشر الاسلام في العالم، يدعو البعض الى أولوية التطبيق الكامل في البلاد الاسلامية قبل التحرك الى البلاد الاخرى، فعندما نتحدث عن الأسرة والمرأة والزواج، والتعاملات اللاربوية، وعديد القيم الاخلاقية، فان اللازم أولاً؛ تطبيقها بشكل كامل في البلاد الاسلامية، بدعوى إضفاء المصداقية عليها! في حين يغيب عن هؤلاء أن الاسلام المنتشر في بلاد العالم البعيدة وصلها في وقت كان الظلم والانحراف يسود بلاد اسلامية عديدة، وقد حسم الأمر أمير المؤمنين، عليه السلام، عندما دبّت الشكوك في عهده بكيفية معرفة الحق والحقيقة في ظل الحروب والفتن التي أحيطت به، عليه السلام، فقال: "الحق والباطل لا يعرفان بالناس، أعرف الحق تعرف أهله".
إن المجتمع الغربي اليوم بحاجة الى النظم السليمة والبدائل الناجعة لانقاذه من محنته، ولا يهمه ما اذا كانت هذه البدائل عبارة عن فرص ذهبية يهدرها اصحابها ولا يستفيدون منها فهذه مشكلتهم.
ثانياً: الغرب يحتاج كل شيء
ربما يقول البعض ان الغرب لا يحتاج الى ما لدى الشعوب الاسلامية لمساعدته على مواجهة الوباء، بينما أزمة بهذا الحجم تجعل الابواب كلها مشرعة أمام أي نوع من المساعدة، لاسيما من قبل بلد مثل العراق الذي يعد من أوائل البلدان التي سيطرت على الوباء، واليوم يخوض ابناؤه غمار العمل الجاد لانتاج الكمامات والمستلزمات الطبية، فمع بساطة المنتج إلا ان روح العطاء التي تغلف هذه المساعدة لها وزن ثقيل جداً، "فالخدمة أهم ما يقرب القلوب ويخضع الارواح"،كما جاء في كتاب الامام الشيرازي، قد استشهد سماحته بنماذج عملية من هذا اللون من العطاء من عهد الرسول الأكرم، ثم عهد أمير المؤمنين، ثم عهد الامام الحسين، وكيف تعاملوا مع أعدائهم. كما "إن الإنسان بشكل عام يحب الخدوم الذي ينفعه ويخدمه مهما كان بينه وبين الخدوم بون أو شحناء، قال الإمام علي، عليه السلام: الإنسان عبد الإحسان".
ثالثاً: محض العمل في سبيل الله
يد المساعدة والعون التي تمد الى المواطن الايطالي او الاسباني –مثلاً- وحتى الاميركي، إنما تحمل ايضاً رسالة السماء لنشر الرحمة للعالمين، كما هو رسول الله، صلى الله عليه وآله، فالغاية سامية لا ترتقي اليها السياسة، او مصالح معينة، او مزايدات او نوع من التفضّل والتمنّن الذي نهى عنه الإسلام بشدة، إنما العمل لوجه الله –تعالى-، وهذا سيتحد مع التوجه المعنوي للشعوب المنكوبة بكورونا في اوربا ويخلق موجة عالمية مشتركة لتوجه البشرية الى السماء، بعد موجة الجفاء طيلة عقود او قرون من الزمن.
إن الانباء المفجعة عن البلاد المنكوبة بكورونا تنذر بكارثة بشرية تحصد الملايين من البشر مع تصاعد أرقام المصابين والوفيات بشكل مستمر، مما يجعل الناس هناك في وضع نفسي غاية في الصعوبة، فهم لا يعيشون في بداية القرن العشرين، حيث لا معدات طبية، ولا تقدم علمي في الطب، وإنما في زمن القفزات والثورات في عالم الطب، حيث بات العلماء يتحدون كل المستحيلات في معالجة أمراض وإجراء عمليات جراحية معقدة وبنجاح، ثم اليوم يجدون انفسهم أجساد ممدة في المستشفيات يشكون قلة اجهزة الاوكسجين ليستمروا في الحياة، او كمام بسيط يحول دون انتشار العدوى وغيرها من الوسائل والمستلزمات.
انها ليست فرصة للظهور، بقدر ما هي مسؤولية اخلاقية وانسانية على الدول القادرة على تقديم المساعدة بأي شكل من الاشكال، ولتكن مثل صدقة السر تقدم لصاحبها في جنح الظلام، ولا يكتب على الشُحنات اسم البلد، او من الذي بذل الجهد وانتج وقدم الهدية.
اضف تعليق