شبكة النبأ: تواعدت مع احد سائقي سيارات الأجرة للذهاب إلى المطار.. التاسعة والنصف صباحا سأكون عندك.. مرت عشر دقائق ولم يحضر.. سأصل قريبا، هكذا أجابني عند الاتصال به.. الساعة العاشرة، سأصل قريبا، العاشرة وعشرون دقيقة: أنا قريب منك في المنطقة الفلانية.. العاشرة والنصف وصل مصحوبا بهبة عواصف من الأعذار.. طيلة الوقت الذي كنت انتظره لم يكلف نفسه عناء الاتصال وتطييب الخواطر عن تأخره، وكأنها مسألة طبيعية لا تستحق أن يشغل باله بها، وهي طبيعية جدا لديه وغيره، بغض النظر عن مفارقتها للأمور الطبيعية والعادية اذ هي تتحول إلى قاعدة وليس استثناء في حياة الناس.
طبعا هو لم يعتذر عن تأخره لساعة كاملة، بل ساوم على زيادة في الأجرة التي اتفقنا عليها معللا سبب ذلك بالازدحامات التي يفترض أنها ستصادفه في السيطرة الأخيرة قبل الوصول إلى المطار.
هذا السائق ليس وحده من يقابلك بعاصفة من الأعذار اذ يتأخر عنك وعن اخرين عن موعده المتفق عليه مع غيره، بل هي حالة عامة وسط المجتمع العراقي، لا تلاقي اي احتجاج او اعتراض من قبل من يتعرض لتلك المواقف، ويكون قد تم انتهاك زمنه واعصابه على صفيح من انتظار وترقب ساخن.
ربما ما يجعل من ثقافة الاعذار مقبولة وواسعة الانتشار هو موروثها الكبير والواسع في منظومتنا الثقافية والاجتماعية، وليس بعيدا من ذلك المثل الشهير عراقيا (الغيب عذره ويّاه) والتي تتيح لهذا الغائب التاخر في الحضور او حتى عدم حضوره لان الاعذار دائما معه، وتعفيه من ادنى مسؤولية عن التأخر وعدم الحضور، أذن هو معذور ولوم عليه.
ما هي تلك المسؤولية التي أتحدث عنها؟
انها المسؤولية الأخلاقية عن التأخر مهما كان حجم الضرر المترتب عليه، ولا يشفع لصاحب الاعذار ازدحام الطرق (متى كانت غير مزدحمة؟) او التعلل بعدم الاستيقاظ، او عدم سماع صوت المنبه، او اتصال هاتفي من طرف اخر ذكره بموعد مسبق يتضارب مع موعده الجديد المتخلف عنه.
ثم ان تلك المسؤولية الاخلاقية تتطلب نوعا من ثقافة اخرى هي الاخرى مفقودة لدينا واعني بها ثقافة الاعتذار وتقديمها على الاعذار بجميع اشكالها والوانها.
هل تتذكرون صخرة عبعوب الشهيرة؟ والتي غرقت بغداد بسببها بعد زخات مطر متوقعة، لكن تلك الصخرة لم تسد المجاري وحدها، بل سدت الطريق عن الاعتذار لما اصاب الناس بسببها، وبالتالي خلصت صاحبها من مسؤوليته الاخلاقية امام الغرقى.
وهي الصخرة نفسها التي تقطع الطريق على مسؤولين وسياسيين اخرين بجميع اطيافهم من الاعتذار للعراقيين عما لحق بهم من مصائب وويلات..
ينصح الخبراء وعلماء النفس دائما بالاعتذار اولا ثم التبرير للخطأ المرتكب، لذلك من الأفضل أن يعتذر المرء أولا فى حال عدم قدرته على الالتزام بشىء ما ، ثم يقول بالتبرير فيما بعد ، وفى بعض الحالات قد تكون رسالة الاعتذار إحدى الوسائل الجيدة لتجنب الارتباك والإحراج امام الطرف الثاني، وتفادي استيائه الشديد. وفى جميع الأحوال فإن الاعتذار خطوة ضرورية لتصحيح وتعزيز العلاقات الاجتماعية مع الآخرين وعدم ترك المجال لأية ضغينة بينهم. ويستطيع الفرد أيضا حتى وإن كان لديه مبرر حقيقي، أن يعوض الطرف الثاني فى فرص أخرى ، ويحقق التزامات لم يستطع القيام بها من قبل ، وكلما كانت الفرصة قريبة ، كان بالإمكان تسوية الأمر بشكل أفضل بين الأشخاص.
متى يكون العذر أقبح من الذنب؟
يتناول علماء النفس مسألة الأعذار التي يتعلل بها الناس كثيرا، بأن هناك ما لا يجب استخدامه منها ، كأن يقول الفرد ( أنا مشغول جدا) لان هذا لا يسوغ عدم القدرة على الالتزام بأى شىء وفى جميع الأوقات ، فالجميع مشغولون على الأغلب، ولكن بشكل دائم. ومن ناحية أخرى وعندما يختلق المرء أعذارا غير صادقة للناس فإنهم يستطيعون ان يشعروا بالأمر ، حتى لو لم يصرحوا بذلك فى الوقت نفسه، وحينها قد يكون العذر أقبح من الذنب، وفي المثل لكنه هذه المرة من العربية الفصحى (لا تعدم خرقاء عِلَّة) : يُضرب لمن لا يُحسن عملَه فيتخلّق الأعذارَ الكاذبة.
اضف تعليق