هل عليه احترام الجار والآخر، أم أنّ الأفضل له إظهار الخشونة والجفاء كي يُهاب أو يُصبح مُهاب الجانب؟، وبعيدا عن المثاليات لابد أن نكتشف الإجابة الصحيحة التي يمكنها أن تحفظ مكانتنا وتزيد من حضورنا وقوتنا وعلاقاتنا ونجاحاتنا، ففي النهاية أكثر ما يبحث عنه الإنسان هو النجاح وتجنب الفشل...
منذُ باكورة العمر، ومع فاتحة الوعي، نسمعُ من أهلنا، آبائنا، أمهاتنا، أصدقائنا، جملة تتردد كثيرا على الألسنة: عليك أن تحب جارك كي يحبك، وعليك أن تقدِّر الآخرين كي يقدروك، وهناك دعوات مضادة لهذا المعنى، أي هناك كلمات نستمع لها بصورة أقلّ تقول عليك أن تتعامل بخشونة وجفاء مع الآخر حتى تفرض رأيك عليه، ولكي يخشاك أو يهابك، فأي الاتجاهين أعلاه على صواب، وماذا على الإنسان أن ينتهج؟
هل عليه احترام الجار والآخر، أم أنّ الأفضل له إظهار الخشونة والجفاء كي يُهاب أو يُصبح مُهاب الجانب؟، وبعيدا عن المثاليات لابد أن نكتشف الإجابة الصحيحة التي يمكنها أن تحفظ مكانتنا وتزيد من حضورنا وقوتنا وعلاقاتنا ونجاحاتنا، ففي النهاية أكثر ما يبحث عنه الإنسان هو النجاح وتجنب الفشل، لأن الأول يعني الثراء والمركز والقيمة والجاه، والثاني يعني الإحباط والسقوط في حضيض اليأس والفقر نتيجة للفشل.
في كتاب الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، يقول مؤلّفه (زيغمونت باومان): إن (القبول بمحبة الجار كمبدأ يعني ولادة للإنسانية). فهل ينطلق الكاتب من فهم خاص للعلاقات الإنسانية، أم أنه مثالي في طرح كهذا؟ في الحقيقة نحن يمكننا أن نكتشف من خلال احتكاكنا بالآخرين في عمل أو أي نشاط آخر، بأن الإنسانية تكمن في محبتنا للآخر وتعاوننا معه، وحتى لو كانت الفائدة له في البداية، لكننا بالنتيجة سوف نحصد معه الفوائد الأخرى على المدى البعيد، لأننا نشترك معا ونتعاون في بناء بيئة إنسانية قائمة على الاحترام، ومع أننا نحب أنفسنا ونحرص على ذواتنا من خلال حماية حياتنا وتجنب المخاطر ومحاولاتنا للحصول على فوائد أكثر، إلا أن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون تعاون مشترك مع الآخر.
لذلك نقرأ في كتاب بومان أيضا: (إن حب الذات يحفزنا لأن نلتصق بالحياة، وأن نسعى جاهدين لنبقى أحياء بغض النظر عن النتائج، وأن نقاوم ونحارب كل ما يهدد الحياة بنهاية مبكرة ونحمي ما هو أكثر من ذلك لتزيد، ذلك الاستعداد والحيوية التي نأمل أن تجعل المقاومة وكذلك الحماية فعالة).
إننا يمكن أن نكتشف بسهولة أن محبتنا لأنفسنا لا يمكن أن تأتي من فراغ، صحيح هنالك غريزة تدفعنا نحو حب الذات، ولكن بالنتيجة نحن نريد أن نرى إعجاب الآخرين بنا ساطعا في عيونهم، نعم نحن نحتاج بقوة إلى محبة الآخرين لنا لكي نحبّ أنفسنا، ونسعى لتمجيدها وحمايتها، هل يمكنك أن تتخيل كراهية الآخرين لك وماذا ينتج عنها، إنك في ظل بيئة الكراهية لا يمكنك أن تجد قيمة لنفسك، لذلك فأنت في حاجة كبيرة وحاسمة كي يحبك جارك، أو من يقاسمك العمل والطريق ومقعد الدراسة والحياة، أنت تحتاج أن يمنحك الآخر قيمة، حتى تجعل منها منطلَقا لمحبتك الذاتية وتقديرك لشخصك.
يقول بومان (حب الذات يولد من الحب الذي يمنحنا إياه الآخرون، لابد للآخرين أن يحبونا أولا لكي نبدأ في حب أنفسنا).
لا يمكن لإنسان ما أن يعيش محبّا لنفسه وهو في عزلة عن الآخرين، كيف تعرف قيمتك إذا لم يعبأ بك الآخرون ويبدون الاهتمام بك، يحاورونك وينظرون لك باعتزاز أو عكس ذلك باستخفاف، (كيف لنا أن نعرف أنه قد تم تجاهلنا أو جرى التخلص منا على أننا حالة ميؤوس منها ولا قيمة لها؟ كيف لنا أن نعرف أن الحب آتٍ، قد يأتي، وسيأتي، وأننا جديرون به حقا؟ إننا نعرفه، نعتقد أننا نعرفه، ونجد ما يؤكد لنا أن اعتقادنا ليس خاطئا حين يتحدث الآخرون إلينا ويستمعون حين يُنصت إلينا باهتمام، اهتمام يشير إلى استعداد المستمع للرد. ندرك عندئذ أن ما نفكر به، نفعله، أو ننوي فعله بهم. أن لنا اعتبارنا. أن بقاءنا أحياء يمثل أهمية. أننا نستحق أن يُعتنى بنا) هذا ما يقولوه بومان، وهو أمر يمكن لكل منا أن يلمسه ويشعر به ويراه، لهذا من الطبائع البشرية الثابتة أن كل إنسان يغيب عن الجماعة لأي سبب كان سيترك فراغه بينهم، حتى أولئك البسطاء، أو غير المنتجين المتميزين، لا يُمحى مكانهم في حال غيابهم، موتهم أو رحيلهم أو انتقالهم من مكان إلى آخر.
فلكل إنسان دور، قد يكون ذا فائدة قليلة، أو أنه لا يتحلى بالتفرد والإبهار، وقد تكون عوائده النفسية على الآخرين واطئة، ولكن أنت لا يمكنك معرفة مكانتك إذا لم تلمس احترام الآخرين لك، لذا عليك أن تكون بصفاتك المختلفة مكملا للآخرين وليس مقارعا لهم، فـ (إذا كان الآخرون يحترمونني فمن الواضح إذا أنه لابد أن يكون (في) شيء لا يمكن لغيري أن يقدمه للآخرين، ومن الواضح أن هناك آخرين سيسعدهم أن يُقدم لهم ما لديّ وسيكونون ممتنين لو حدث ذلك. أنا مهم، وما أفكر به وأقوله وأفعله مهم أيضا. لستُ صفراً، يمكن استبدالي والتخلص مني. وجودي (يُجِد فرقا) وليس ذلك لنفسي فحسب. ما أقوله وما هو أنا وأفعل له أهمية، وليس مجرد خيالي المجنح. مهما كان الذي حولي في هذا العالم، فإن ذلك العالم سيكون أكثر فقرا، أقل متعة، وأقل وعدا لو أنني اختفيت فجأة من الوجود).
نحن إذا مطالبون باكتناز قيمتنا الإنسانية من الآخرين، عبر التعاون والتكامل معهم وليس العكس، فحين تحب جارك، فليس الهدف هو حب الجار فقط، بل أنت تريد أن تحب نفسك، لأن جارك سوف يحترمك وهذا الاحترام متأتٍ من حبك للآخرين واحترامك لهم، هكذا تكون علاقتك بالجميع أشبه بدائرة يدور بها الجميع معك، لذلك نقرأ في كتاب بومان: إن (حبنا لجيراننا كما نحب أنفسنا ستعني، عندئذ، احترام بعضنا لتفرّد كل واحد منا إدراك قيمة اختلافنا الذي يثري العالم الذي نسكنه معاً ويجعله مكاناً أكثر إدهاشاً ومتعة).
اضف تعليق