q
إنسانيات - مجتمع

المرأة والمستقبل

(وَالأرْضَ وَضَعَهَا لِلأنَامِ) (الرّحمن/ 10)، العالم اليوم، كما يقولون، قرية يتصل بعضه ببعض، وتتواصل شعوبه فيما بينها بالفكر والثقاقة والسياسة والاقتصاد... ويكون كلّ بلد، أو مجتمع ضيفاً على غيره بواسطة وسائل الإعلام وما أنتجهته ثورة الاتصالات، وأفرزته سهولة انتقال المعلومات، وعدم سرّيتها في أكثر الأحيان.

هذا الوضع العالمي الجديد أحدث ثورة بكلّ معنى الكلمة، ثورة تختلف عن الثورات المعهودة التي تنتشر آثارها لتصل إلى البلاد الأُخرى بعد عشرات أو مئاتٍ من السنين، ففي لحظات يمكن أن تغزو العالم فكراً أو تنشر صوراً، أو تروج لسلوك أو ثقافة معيّنة.

فالعالمية باتت أقرب إلى الواقع من أي زمن مضى، كما إنّ أسوار التعصّب وحصون المجتمعات العتيقة تنهار الواحدة بعد الأخرى، ففي كلّ مجتمع اليوم ألوان من قوميات مختلفة وطبقات من أجناس متباينة؛ اختلطت العروق بالعروق، والدماء بالدماء، والماء بالماء، حتى تكون مجتمعات "آدمية" لا تجتمع إلّا في آدم، وتختلف وتتمايز في كلّ شيء...

وليس غريباً أن نجد هنوداً في أوروبا، وروساً في الخليج، وعرباً في أميركا، وفرنسيين وإنجليز في أفريقيا... كما ليس بعيداً أن نجد رؤساءً لدولٍ ينتمون تاريخياً إلى بلاد أخرى، ومرؤوسين في بقاع أتوا من بلدان بعيدة تختلف عن تلك لغة وثقافة وتاريخاً وعقائد وعادات اجتماعية.

وأكثر من ذلك، لقد تداخلت اللغات، وتزاوجت الثقافات، واختلطت الألوان وتنوّعت الأذواق، حتى أنّك تجد ألبسة أميركيةً في الصين وأحياءً صينية في أميركا، وأفارقة بزيّهم وعاداتهم وتقاليدهم في فرنسا، ومتفرنسين في أفريقيا، وربّما أنّ من أطلق مصطلحات مثل عرب أميركا، والعرب المتغرّبين كان ساخراً ومتهكماً، إلّا أنّه لم يبتعد عن الواقع كثيراً، فقد يكون بعض هؤلاء أكثر "ملكية من الملك"، وأشدّ أميركية في الأميركان أنفسهم، فلقد تخلت الأجيال الأميركية الجديدة - وكذا الأوروبية - عن كثير من تقاليدها وعاداتها وغيّرت الكثير من أنماط سلوكها، إلّا أنّ هؤلاء العرب يجدون مثالهم السامي أميركا، يلبسون كما كانوا يلبسون، ويعيشون كما تريد أمريكا، ويعشقون كما الأميركان يعشقون، ولكن مع فارق عشرات السنين، إذ أنّ هؤلاء يهيمون في صور الماضي رأوه في أميركا، أو يتوهّمون صورة الحاضر الذي تمرّ به أميركا، فأميركا اليوم غير الأمس، وباطنها لا يمكن أن تعكسه السيارات الأميركية الفارهة أو ناطحات السحاب المتعالية، ومَن أراد الحقيقة فليفتش عن الواقع الذي تعيشه الأحياء الخلفية لنيويورك، التي تعجّ بالفقر وتضجّ بالجريمة، وليدرس إحصائيات الحوادث وتقارير الكونجرس ومراكز الأبحاث التي تنذر بالخطر وتعيش القلق الدائم.

وعلى أيّ حال، فإنّ العالم يعيش متداخلاً ومتواصلاً، سواء رضي بذلك البعض أم أبوا، ولذا فإنّنا قد نواجه مثلاً مشاكل شرقية في ألمانيا وفرنسا، كما هي مشاكل الأتراك والمغاربة والمهاجرين من شمال أفريقيا، والذين يكونون مجتمعات قائمة في جوف المجتمع الأوروبي، كما قد نجد مشكلات الغرب والحداثة ما بعدها في دول الشمال الأفريقي أو تركيا، لأنّ الأجيال الجديدة لهؤلاء يعيشون الثقافة الغربية أو نمط الحياة الأوربية، فهم غربيون في العالم الثالث.

ولكن هذا التداخل، وذلك التواصل، ليس متوازناً ومتساوياً، لأنّه لم يتم في ظروف طبيعية ولم ينتقل بصورة عادية تدريجية، ولذا فهو يعيش الاضطراب والانفعال بأقصى درجاته، فقد تجد الشاب التركي مثلاً - بالرغم من تركيته - يعيش مشكلات الغرب والشرق معاً، ويعاني من صراع وتناقض في داخل شخصيته، فلا هو شرقي الآفاق، ولا هو غربي الأعماق، وإنّما يعيش الجدل مع نفسه، بين الأصالة والتجديد، بين الالتزام والتحديث، وبحسب الواقع، فإنّ هذا الشاب رجلاً، أم مرأة، يعيش أزمة حقيقية في هُويّته ويواجه معاناة كبيرة في تأقلمه مع الواقع وشق طريقه في الحياة.

ونفس الأزمة والمُعاناة، يواجهها التركي أيضاً في أنقرة أو اسطنبول، عندما يريد أن يكون حداثياً متطوّراً ومتأنقاً في نفس الوقت الذي تربطه بمجتمعه وأهله وتاريخه ووطنه علائق فكرية وثقافية واجتماعية وعاطفية عميقة، لذا فهو متردد دائماً بين أن يصل بكبت، أو ينفصل بتوتّر واضطراب، وهذا الجيل وذاك الجيل كلاهما في أزمة عميقة وتحدٍّ حياتي كبير...

والواقع أنّ لوناً من هذا التناقض وبعضاً من هذا التضاد موجود أيضاً في المجتمعات الغربية، فليست كلّ مناطق الغرب تعيش الحداثة، وليست كلّ طبقات مجتمعاتها منفصلة عن الماضي، أو متقدّمة في أوضاعها المعيشية، فإنّ التطوّر والتغيير يتّضح في العواصم والمدن الكبرى والمناطق الصناعية، وهناك قطاعات كبيرة في أوروبا وأميركا لا زالت تعمل في الزراعة ولا زال لربّ الأُسرة - الأب - الدور الرئيس والقاطع، ولا زالت عادات الريف وأخلاق المجتمعات الصغيرة، وأوضاع الأُسر الكبيرة - التي تتطلّبها الزراعة - قائمة، وقد أكّد هذه الملاحظة، بعض الباحثين الغربيين أيضاً.

فابن الريف الأوروبي - أو الأميركي - هو فلّاح أو اقطاعي، يكد ويعمل معه أبناؤه وهم يعيشون مجتمعين ومتعاضدين، لأنّ بقاءهم يقوم على ذلك، وزيادة الانتاج والمنافسة في السوق تتحسّن كلّما كان عدد أفراد العائلة أكبر وتعاونهم أوسع، والحياة تبدأ مع شروق الشمس وتخمد مع غروبه، تستيقظ مع يقظة الطبيعة: الأشجار والطيور والأبقار وما يربّونه من حيوانات، وترقد مع رقود هؤلاء، ولكلّ هذا نظمه الخاص ووضعه الاجتماعي المناسب له.

لذا فإنّنا قد نجد حالة "أصولية" في قلب أوروبا، كما قد نجد تيارات "حداثية" في وسط آسيا، وكذا الحال شمالاً وجنوباً لسائر القارات الأُخرى.

وحتى في العواصم الكبرى، نجد المهاجرين، سواءً من الريف الأوروبي أو الدول الأخرى يموجون في هذه المدن، ومنهم من يتأقلم بسرعة، ومنهم من يصارع من أجل البقاء، وآخرون لا يستطيعون الالتحاق بركب الحياة الحديثة فيعيشون على الهامش هناك.

- المرأة بين ذي وذاك:

والمرأة، كإنسان، تعيش نفس الصراعات وتعاني من نفس الأزمات، مع إضافة ليست صغيرة، بل كبيرة وخطيرة، وهي أنّها كامرأة لها شأنها الخاص، وخصوصيتها المتميّزة، والتي تجعلها في موقف تواجه فيه مخاطر جدّية وتحدّيات ضخمة... قد تصل إلى تهديد أمنها واستقرارها، وقد تتسع إلى درجة تنذر بالخطر وجودها واستقرارها في الحياة.

وإذا كان الرجل يعيش الأزمة بدرجة ما، فإنّ للمرأة أزماتها المضاعفة لأنّها تحمل الماضي بكلّ ثقله، ويراد منها أن تعيش الحاضر بكلّ تبعاته، فهي هي كما كانت مستهلكة ومنهكة، تئنّ من الظلم وتنزف من التحقير.

لا فرق في ذلك بين الشرق والغرب. العالم النامي أم المتمدن، المتقدِّم أو المتخلِّف...

ألم نقرأ فيما مضى أنّ:

- العنف ضدّ النساء، الضرب وجرائم القتل والاغتصاب، أكثر في أوربا وأميركا من الدول الأُخرى؟

- وأنّه كلّما ازداد دخل الفرد أو تعلّمه كلّها ازداد عنفاً ضدّ المرأة، فنصف مجرمي العنف ضد المرأة في إيطاليا هم من خريجي الجامعات.

- ألم نطلع أنّ الدول الرأسمالية، بعصاباتها "التجارية" هي وراء تجارة الرقيق الأبيض، واستعباد النساء بشكل بشع؟

- وأنّ الأميركان والسوّاح الأوروبيين هم الذي يتاجرون بالأطفال ويروِّجون للاعتداء الجنسي عليهم، ذكوراً وإناثاً؟

وكذلك في العالم الآخر أزماته ومشكلاته التي اطّلعنا عليها فيما سبق. فأين تقف المرأة وسط هذا الطريق الصعب، وما الذي تختاره لمستقبل الأيّام؟

المرأة في الشرق النامي تواجه: التحقير، الاستغلال الاقتصادي والجنسي... وهي باختصار مخلوق ناقص وكريه خلق لمتعة الرجل وخدمته... تعيش من أجله وينتهي دورها إذا قضى منها وطره أو اقترب أجله.

وهي تعيش الحرمان على أكثر من صعيد: من حقوقها السياسية أو مكانتها الاجتماعية، أو موقعها واحترامها داخل الأسرة، أو تسلسلها في عالم الخلق والتكوين.

المرأة يجب أن تعمل ولا تتعلّم، تُهمل ولا تُمهَل، تسمع ولا تتكلّم.. إنّ عليها دائماً أن تبقى في ظلّ الرجل... الرجل، الرجل الذي هو الأصل وله كلمة الفصل، ولا يقوم الاجتماع إلّا به، أمّا المرأة فهي من لوازمه وتوابعه، بل قلّ من ممتلكاته وأدواته، لا غير.

و"مصلحة" المرأة أن تكون كذلك، لذا فهي تنشأ من ضعف، وعليها أن تواصل حياتها بضعف، كالنبات الذي يلين ساقه، فهو لا يحمله ولا ينهض به، بل يختار بين أن يزحف على الأرض أو يتسلّق على الجدران، أو يلتف حول الأشجار... وهذا هو حالها فهي لا قوام لها إلّا بالرجل تلتف حوله وتتكئ عليه أن تعيش في كنفه وظله المديد... هكذا ينظرون إلى المرأة وهذا ما يريدونه منها.

وإذا كانت المرأة في الشرق تعاني من محيطها الخارجي وكيفية التعامل الاستعلائي والاستبدادي معها، إلّا أنّها تنعم على أيّ حال بنوع من الحماية وتستفيد من دفاع الرجل عنها، باعتبارها جزءاً من "حريمه" أو "رعية" من رعاياه، أو بعضاً من ممتلكاته في أسوأ الأحوال.

وقد يُغرم الرجل الشرقي، ذو العواطف الجيّاشة بها، فتكون ملكة أحلامه، وفارسة أيّامه، وقمر لياليه، فتحكم عندها ولا تُحكم، وتُرجى حينها ولا ترجو...

أمّا في "الغرب" فإنّ المرأة مهدّدة في عرينها، ومضطربة في عشها، فهي لا تأمن من أين يأتيها الخطر، ولا تعلم في أيّة لحظة يهجم عليها الهلع والفزع...

ألم نقرأ أنّ أغلب الاعتداءات على المرأة - في الغرب - هي من الأقارب: الزوج، أو الولد، أو الأخ، أو الصديق...؟

ترى إلى أين تلجأ المرأة وهي تجد مخدعها محشواً بالحيّات وبالعقارب، وبيتها ملغوماً بالمخاطر: زوجها سكير لا يعرف إلّا صخباً وعربدة، وفي أيّ لحظة يمكن أن يهجم عليها شتماً وضرباً وجرحاً وقتلاً... فكم من النساء: أُمّهات وبنات يقفلن الباب عليهنّ لدرء خطر الزوج أو الابن أو الأخ المدمن.

إنّ أجاثا كريستي، كانت تتمتّع بالخيال البوليسي الواسع إذ كتبت ما كتبت من قصص رائعة ومثيرة، إلّا أنّها لو كتبت قصصها اليوم لما مجّدها أحد وما وصفها بسعة الخيال، لأنّ ما كتبته يشاهده الناس يومياً على أرض الواقع، خصوصاً ما كانت ضحيّته امرأة، وبطلها أحد الأقارب ممّن يطمعون في إرث أو ممّن يثور بهم الحقد والغضب، عقب جرعة خمر أو بعد تناول عقار أو أفيون.

إنّ أعلى درجات انتهاك لحقوق الإنسان - المرأة - تشهده اليوم أميركا وأوروبا عندما يستعبدون ملايين النساء ويسترقون آلاف البنات الصغيرات في تجارة لم يشهد التاريخ أبشع منها، وفي عالم لم يشهد التاريخ أكثر ادّعاءً منه للمبادئ والقيم وبيانات للدفاع عن المرأة وإعلانات لحقوقها.. إلّا اللهمّ أن نقول أنّ الإنسان الذي يقصدونه، هو إنسان الرأسمال، وهو غير هؤلاء البشر الذين خلقوا ليكونوا سلعاً استهلاكية تدرّ الأرباح على الإنسان المادّي الحديث، القميم في جشعه وطمعه وميوله العدوانية وأخلاقه الشهوانيّة.

ويا ليت الصراع والصدام يكون ضمن حدود البيت ولا ينتقل إلى داخل النفس، كما هو الحال، فالمرأة "الغربية" اليوم تعاني أيضاً من أزمة هُويّة حقيقية وتتألّم من شعور عميق بالحقارة والدونية.

فالمجتمع ينظر إليها بمنظار الشهوة ويتعامل معها بمعايير نفعية: هي في نظره فرصة لذّة في دنيا لا ينتفع فيها إلّا بلذّتها، بفرص لابدّ من اغتنامها قبل فوات الأوان، لذا فإنّ سهام النظرات الطامعة والطامحة بكلّ ما تحمل من شهوانية حيوانية ورغبة في الاستلاب والغنيمة تلاحقها وتغور في عمقها لتجرح كرامتها وتثلم شخصيتها.

المرأة، في هذا العالم، دمية قيمتها بجمالها، ودورها بجسمها، وعمرها بأدائها، ولا قيمة لروحها ولا رجاء لحيائها، ولا مدى لإنسانيتها وعطائها الأنثوي السرمدي للبشرية.

فهي غاية عندما تكون فاتنة ومقصودة عندما تبدو رائعة، ويقلّ اعتبارها ومركزها كلّما تقدّم بها العمر أو انكفأت جاذبيتها.

وإذا ما أرادت المرأة أن تأخذ موقعاً، وقد أرادت، وأن تنافس الرجال في عقر دارهم، فإنّها لابدّ أن تكون امرأة رجلاً، كما يوجد في الغرب رجال نساء...

لابدّ لها أن تقسو بالرغم من لطافتها، وأن تتجلد لتخمد عاطفتها، وأن تغضب دون وداعتها، وأن تبرز عضلاتها بدلاً من نحافتها السحرية... لابدّ لها أن تدخل المعسكرات ومناجم المعادن، لتقلع الصخور وتحمل الأثقال، لابدّ أن تتزاحم مع الرجال أينما حلّوا حتى في ما هو مختص بالرجال، وإن أدّى ذلك إلى أن تهجر ما هو مختص بالنساء.

ولن تكون، كذلك فإنّ المرأة ليست بشعرها وثدييها و... وإنّما هي قبل ذلك بأعماقها الأُنثوية ونفسيتها وسِحرها الداخلي وشخصيتها المُتميِّزة التي لا يمكن أن تتبدّل، وإنّما يمكن أن تتمزّق لتفنى وتتألّم.

وعندها ستكون المرأة "رجلاً"، تدافع عن نفسها وتحمي روحها بروحها، وتأخذ حقّها بيدها، لأنّ تلك المجتمعات لا تعطيها ما تحتاج، ولا توفّر لها ما تريد، ولا تحميها من حيث أنّ حمايتها صيانة لها وهي توفّر الأجواء لاستدامة دورها الأنثوي المعطّر في الحياة.

لقد برزت النساء في الغرب وهنّ "ناصلات اللون"، بأسمائهنّ المستعارة: "لعبة جميلة، حيوان أصيل، يمامة عذبة، نزوة مساء، امرأة الحلم، مخلوق بخاري، تمثال يتعذّر وصفه، سر غامض ذابل، حيوان جميل، راحة المحارب... إلخ".

مواطنها: الغرب وأميركا على وجه الخصوص.

نسخها: في الأفلام والروايات والمجلّات، وهي موجودة بين المغنيات والعارضات والممثّلات، وموجودة في الشوارع والصالونات، والأعمال... ليس - لإحداهنّ - لون ولا رنين... إنّها تبدو على الغالب، شديدة الشحوب، إنّها تشارك في المأساة ولا تعلم، إنّما هي ظل وضباب، وهي موجود لا متمايز.

وظهرت في الغرب أيضاً طبقة بائعات النفس (الهوى)، بلا كرامة ولا إحساس، بل بألم واحتقار وفناء للشخصية: في بُعدها الإنساني المتسامي، وفي عمقها الأنثوي المتعالي.

نساء "لا قيمة لهنّ إلّا الجسد، ولا وجود لهنّ إلّا الدور الوسخ" وحفنة كريهة من الدولارات، إنّهنّ انتحرن منذ اللحظة الأولى، وعدن يقمن بنفس عمل "الأعضاء البلاستيكية"، لا إحساس فيها ولا فيهنّ وإن كنّ من عظم ولحم.

وأكثر حقارة منهنّ، المجتمع الذي تتهاوى فيه الإنسانية إلى هذا الحضيض، والذي يسمح لنفسه أن يرى المرء مذبوحاً في كرامته ومهدوراً في كلّ معانيه الإنسانية.

إنّهنّ ضحايا بلا شك لمجتمع الرأسمال، وإنّهنّ أيضاً شظايا لانفجار المادّية النفعية الشهوانية وانهيار كلّ القيم والمبادئ الأخلاقية.

وطبقة أُخرى من النساء: إنهنّ الكادحات من أجل لقمة عيش، المتفانيات لغرض استدامة الحياة في مجتمع يلهث فيه الجميع على المادّة، والصراع في أشدّه من أجل البقاء، ولكنّهنّ ومع كلّ جهدهنّ ونضالهنّ متعبات منهكات، خائرات القوى.

فهنّ يعملن نهاراً ويجهدن ليلاً من أجل رفاه أبنائهنّ وسعادة أزواجهنّ، وهذا ما جعلهنّ يتحملن عبأين في الحياة، ويشعرن بذلك بالتعب والنصب المستمر الذي حمل إليهنّ أيضاً الكآبة والضغوط النفسية.

وأخيراً، قسم من النساء لعبنَ و"استمتعنَ" بأوقاتهنّ، وقضينَ شطراً من شبابهنّ يسرحنَ ويمرحنَ، من صديق لآخر، ومن نزوة لنزوة، يتناقلنَ بين الحفلات ويتناوبنَ في السهرات... فـ"الحياة حلوة" في أعينهنّ الزرقاوات والخضراوات، ولكن أفّ للدهر، ويا حسرة على الأيّام السعيدة التي لم تدُم، فهنّ اليوم يعانينَ من الأمراض، ويواجهنَ أتعس اللحظات: إنّه الإيدز الفتاك، وإنّها الأمراض الجنسية المؤلمة، وإنّها الحالات النفسية المدمرة... إنّه الفراق والطلاق والغدر من صديق أو الخيانة من رفيق.

إنّ هذه الصور الواقعية رغم مرارتها، ليست بعيدة عن واقعنا المعاش، لأنّنا وكما أسلفنا، نعيش في مجتمعاتنا المختلفة شطراً منها بمقدار ما "اغتربنا"، ولذا فإنّنا نجد لها آلاف المصاديق، تنقلها نشرات الأخبار وتتناقلها الصحف والمجلات.

ولعلّنا نمرّ بما مرّ به الغرب من تحوّل وتغيير قبل عشرات السنين، أو حتى قبل سنين قليلة، فالمراجع لأدبيات الغرب لتلك الفترات يجدها تشترك مع ما نعيشه في الكثير من الصفات... نعم، أوضاعنا تتحرّك بسرعة أكبر لما أسلفنا من التطوّر الهائل في الاتصالات والمعلومات، فقد يشهد العالم تغيّراً في سنة أكثر ممّا شهده لقرن من القرون التي خلت.

والمرأة: الكريمة عند الخالق، العزيزة عند المخلوق، المباركة يوم تولّد... ويوم تُبعَث، هذه المرأة، الإنسانة، العظيمة بكبريائها وحيائها، القديرة بأسرارها الخفية، الجميلة بصفائها الداخلي، المعطاءة بأنوثتها ودورها الإنساني.

هذه المرأة جدير بها أن تنتخب نهجها بين هذه المنعطفات المتعرجة بحكمة، وأن تسير في حياتها على بصيرة، وأن تخطّ طريقها بخطوات مطمئنّة ومستقرّة، لا تتلاعب بها الرِّيح، ولا تقع فريسة لمؤامرات الإنسان الفاقد لمعاني الإنسانية المتلبِّس بالروح الشيطانية.

فأيّ طريق تختار، وأيّة حياة تريد، وإلى أيّ هدف ونحو أيّة غاية تتّجه؟

هذا ما نتركه لها، لأنّ المرأة لو تركت حرّة وفكّرت من خلال عقلها وقلبها، فسوف لا تستبدل أنوثتها بشيء آخر يستحيل أن يزيدها شيئاً بثمنه، كما سوف لا تُفرِّط بإنسانيتها التي ليس فوقها في الحياة قيمة.

اضف تعليق