صدر حديثاً عن دار تموز في دمشق ــ 2013م ــ كتاب (التخطيط العمراني لمكة قبل الإسلام) تأليف الدكتور عباس التميمي والدكتورة انتصار السبتي. وفيه يناقش الباحثان هذا الموضوع من خلال تحليلهما التاريخي لكتاب (أخبار مكة) للأزرقي المكي.
بعد المقدمة المُستفيضة التي يسوقها المؤلفان والتي ويضحان من خلالها عوامل نشأة المدن قديماً والمؤثرات التي قادت تحديداً لظهور مدينة (مكة) قبل الإسلام، وما هي السياقات التي تم تحديدها في تخطيطها من قِبَل مؤسسها (قصي بن كلاب بن مرة) زعيم قبيلة قريش. حيث يُشير الباحثان إلى قضية غاية في الأهمية هي أن التخطيط العمراني لهذه المدينة لم يستقر، وإنّما جرت عليه عشرات التعديلات منذُ التأسيس، ولأسباب كثيرة منها: زيادة عدد السكان المُستقرين فيها، وهو تغيّر (ديموغرافي)، كذلك تأثيرات السيول الجارفة في مواسم الأمطار، وهو تأثير (طبيعي)، هذا إلى جانب التغيير في بنيتها العمرانية من خلال دمج الدور مع المسجد الحرام، ضمن فترات مُختلفة ولأسباب شتى.
ينتقل بعد ذلك الكاتب لإعطاء نبذة مهمة عن اسم وحياة مؤلف كتاب أخبار مكة، من حيث ولادته وأصلة ونسله والذين قاموا برواية كتاب الأخبار هذا، وصولاً إلى محاولة تحديد تأريخ وفاة المؤلف، بسبب تضارب الآراء في ذلك عند المؤرخين. وبعد ذلك يناقش المؤلف طبيعة كتاب أخبار مكة، انطلاقاً من مفهوم معاصر، يرى ان التاريخ جغرافية الماضي، وان الجغرافية تأريخ الحاضر. أمّا في التمهيد، فكان التعريج مطلوباً لذكر الواقع التاريخي والسكاني لمنطقة الحجاز ضمن الجزيرة العربية، وفيها إشارات إلى ورود اسم (مكة) قبل الإسلام في بعض النصوص والوثائق التاريخية المُثبّتة، سواء عند البابليين أو اليونان وكذلك لدى الرومان، من خلال جملة من الكتابات الواردة عنهم.
يتألف الكتاب من عدة مباحث، يتناول فيها الحديث عن جوانب متعددة وذات مغزى علمي بحت، منها (القرآن ومكة، أول مَن سكن مكة، مكة: المدينة والريف، مكة بلد المؤسسات، مؤسسات مكة ووظائفها)، وتضمنت هذه المواد الكثير من الإشارات البحثية المهمة والفذلكات التاريخية النادرة الورود في مصادر أخرى، وكان أهم ما لفت نظري هي مجموعة المؤسسات التي أوردها الباحثان في سياق حديثهِ، منها (دار الندوة)، شارحاً معناها من حيث التسمية وأصلها، منطلقاً بعد ذلك للحديث عنها إدارياً واجتماعياً وسياسياً، بالإضافة إلى دورها في تنظيم الحركة التجارية لمدينة مكة مع مُختلف المناطق التي تُتاجر معها قبائلها وفي مُقدمتها قبيلة ((قريش)) ذات السيادة والجاه الكبير. وكان هذا وغيرهُ من الأمور قد ورد ضمن المبحث الأول تحديداً، وما ذكرت كان مثالاً على ذلك.
أمّا المبحث الثاني، فتناول التخطيط العمراني لمكة، منطلقاً فيه من خلال توضيح جغرافية المنطقة وحسب وصف ياقوت الحموي ضمن كتابه مُعجم البلدان وكذلك المؤرخ الثبت ابن واضح اليعقوبي في تاريخه. وعرَّج الباحث بعد ذلك للحديث عن خرائط سكن مكة وأحيائها ومُسميات الدور والأسواق والأزقة مظهر الدور الخارجي (أي الواجهات) وأسعارها والسكك (أي الطُرُقات) والمِهن التي كانت سائدة في مكة. ومن بعد ذلك يسترسل الباحث ليتم الحديث عن مؤسسات مكة الأخرى وهي (السجن والحمامات والطواحين ومنتجعات مكة و"صالونات" الزينة للنساء ومصادر الطاقة فيها وأخيراً المقابر). وهنا أذكر بأنّ أغلب المعلومات التي استقاها الباحثان حول هذه المواضيع هي مُستمدّة من كتاب الأزرقي (أخبار مكة)، ففيه معلومات كثيرة وبعضها مهم جداً للباحث المُعاصر، حيث أوضح الباحثين الكثير من الجوانب المخفية الضائعة من تاريخ تلك المدينة التي لعبت دوراً كبيراً في غرب الجزيرة العربية قبل وبعد الإسلام. ففي أحد الجوانب الأساسية، يتحدّث الباحث عن سلسلة من المهن التي كانت في مكة منها المُعلمين والحجامين ومواقع أصحابها، وهناك أيضاً مهنة الحمّارين الذين ينقلون البضائع في الأزقة التي يصعب دخول الجِمال لها. ومن المهن الأخرى الحناطين، وقد استفسر الكاتب عن ماهية هذه المهنة، لعدم وجود توضيح وافي لها، ولم يعثر على ما يدل عليها في أي من المصادر المتوفرة. وهناك القواسين وهم صانعي الأقواس للجيش والصيد. والحذائين والخرازين والبرامين والحاكة والحدادين والروّاسين وهم الذين يُساعدون في عملية إرساء السفينة من خلال حبل طويل يتم جرّه حتى لا تسير وتثبت عند الساحل المُخصص، عند البحر الأحمر. وهناك الغزالين والبزازين واللبانين والحوّاتين الذين يبيعون السمك المجلوب من البحر الأحمر. وغيرها الكثير من المهن والأصناف، مما يؤشر هذا، على اتساع العاملين ضمن القاعدة الاقتصادية وعمودها الفقري في مدينة مكة قبل الإسلام.
وتتضح جوانب تخطيطية جديدة في مكة وضواحيها، من خلال وجود أماكن يقصدها الأثرياء والمُترفين، ذلك ضمن المنطقة المحيطة بمكة. الهدف منها، الترويح والاستجمام لبعض الوقت. حيث يذكر الأزرقي جملة منها، ومن أشهرها (المفجر). ويذكر المؤلف نُتف عن الجوانب اللافتة للنظر في خطط مكة، منها "صالون" (أم غيلان) لتزيين النساء وتجهيزهن عند الزواج. ويذكر الباحث موضوع آخر مهم هو مصادر الطاقة في ذلك الوقت، وهي أماكن الاحتطاب، وأشهرها جبل (ثُبير) المعروف بجبل الزنج، لأنّ زنوج مكة كانوا يحتطبون منه، كما ذكر ابن هُشام في كتابه السيرة. أمّا بشأن المقابر فقد تم الإشارة لأمر جدير بالذكر والتوضيح ألا وهو وجود مقبرة في مكة لأبناء الديانة النصرانية، تقع خلف جبل (المقلع)، مما يُشير إلى سكن بعض العوائل النصرانية مدينة مكة قبل مجيء الإسلام.
في نهاية المطاف، يضع الباحثان جملة من الملاحق، منها ملحق بخصوص شرح وتوضيح بعض المصطلحات الواردة ضمن البحث، وآخر يتناول أسماء أزقة مكة، وثالث لسككها وللردم والأسواق والدور وانتسابها ومواقعها.
اعتمد الباحث التميمي والباحثة السبتي، على جملة مُعتبرة من المصادر الأصلية والمراجع المُتخصصة خلال دراستهما هذه، وكرأي شخصي أراها فريدة في بابها، كونها كانت تُركّز على تبيان واقع مدينة لعبت دوراً مهما في شبه الجزيرة العربية قبل وبعد ظهور الديانة الإسلامية. هذا وقد تم تعزيز الدراسة بمجموعة من الصور التوضيحية وكذلك ببعض الخرائط ذات البعد التوثيقي المتميز. فاتني أن أذكر بأن الكتاب يقع في 195 صفحة من القطع المتوسط.
لقد كانت لنا فرصة مهمة في تقديري، بالاطلاع على هذه الدراسة البحثية والتي امتازت بأسلوب الباحث المُتمكن من فن التقريب اللغوي بين لغة مرحلتين متباعدتين من حيث المكان والزمان، فكان التوفيق واضح المعالم بين اسلوب القرن الثالث الهجري وأساليب العرض التاريخي السائدة هذا اليوم. هذا إلى جانب إيراد البحث لبعض الجوانب النادرة من الأمور والحوادث، والتركيز المُعتبر على جملة من حقائق التاريخ العربي قبل ظهور الإسلام، ذلك باستخدام التحليل واستنطاق النص الوثائقي العائد لذلك العصر.
اضف تعليق