نظرية الانحلال قدَّمت صورةً تشاؤمية للنظرة إلى الحضارة الحديثة يمكن أن تكون في النهاية أكثرَ تأثيرًا من أي شيء آخر كان يُروج له «جوبينو» أو «نيتشة» وتلاميذهما. وبنهاية القرن، كانت نظرية الانحلال قد هزَّت كثيرًا من ثقة الليبرالية الأوروبية في المستقبل وتركَتها مكشوفةً معرَّضة لأعدائها، وكان الانحلال أو التفسُّخ...
«لقد اعتدنا أن نعتبر أنفسنا في حالة تقدُّم بالضرورة … وأنَّ المقدَّر لنا أن نتقدَّم أكثر … علينا أن نتذكر أننا خاضعون للقوانين العامة للتطوُّر، وأننا يمكن أن نُصابَ بالانحلال كما يمكن أن نتقدَّم … كلاهما وارد.» إدوين لانكستر، «الانحلال: فصل في الدارونية» ١٨٨٠م
«صديقي الطيِّب … جون، دعني أحذِّرك … إنك تتعامل مع رجال مجانين … كل الرجال مجانين على نحوٍ أو آخر.» برام ستوكر، «دراكيولا» ١٨٩٧م
في شهر نوفمبر من عام ١٨٧٠م كان طبيب إيطالي شاب يُدعَى «سيزار لومبروزو» Cesare Lombroso يستعد لفحص جثة في أحد مستشفيات «بافيا»، لم تكن عمليةَ تشريح عادية؛ فقد كانت جثة اللص الشهير «فيليلا»، «جاك السفاح»، الإيطالي الذي دوَّخ السلطات، وألقى الرعب في قلوب الجماهير لعدة عقود قبل أن يُلقَى القبض عليه ويُنفَّذ به حكم الإعدام. كانت عملية التشريح بالنسبة ﻟ «لومبروزو» أكثر أهمية من ذلك، كان شديد الاهتمام بالعلاقة بين السلوك المنحرف وملامح الوجه ومظهره الخارجي، وكان قد لاحظ أنَّ كثيرًا من المجرمين شديدي العنف يحبُّون الوشم المتقن الذي كان غالبًا ما يتَّخذ «تصميمات بذيئة»، كما لاحظ أنَّ أحد السفاحين الساديِّين الذين فحصهم ذات مرة، كان يعبِّر عن وحشية تنتمي لجزر بحر الجنوب أكثر منها لإيطاليا الحديثة، ولكنه الآن، عندما كان يعمل في ذلك المساء الكئيب من الخريف، لاحظ شيئًا آخر، اكتشف في الجزء الخلفي من جمجمة «فيليلا» انبعاجًا واضحًا عند اتصاله بالعمود الفقري، هو ذلك الانبعاج نفسه الموجود في الحيوانات الدنيا بما فيها القوارض. رفع «لومبروزو» عينَيه عن الجثة قائلًا: «بدَت لي فجأةً وبكل وضوح مشكلة طبيعة المجرم، وهي أنه كائن يعود إلى صفات الأسلاف، يُعيد إنتاج غرائز الإنسانية البدائية الوحشية والحيوانات الدنيا في شخصه.» فقد كشفت له جثة القاتل عن الخواص المميزة التي يشترك فيها: «المجرمون والمتوحشون والقردة»، وكانت هذه الخواص تضم ضخامةَ الفكَّين، بروز عظام الخد، عدم الإحساس بالألم، حدَّة البصر، الوشم، «الكسل الشديد، حب العربدة، والتوق غير المسئول للشر في حدِّ ذاته.»١
كان «لومبروزو» مقتنعًا بأنه قد وجد مفتاحًا لقضية كانت قد بدأت تُقلِق آخرين في المهنة الطبية، وهي الخوف من «الانحلال» أو التفسُّخ، أو احتمال أن يكون سكان أوروبا لم يعودوا قادرين جسمانيًّا على الاحتفاظ بمتطلبات الحياة المتحضرة. كان «جوبينو» قد استخدم المصطلح نفسه للإشارة إلى نتائج الاختلاط العرقي أو تمازج الأجناس، كما كان الإنسان الحديث بالنسبة له قد أصبح شخصًا متحلِّلًا متفسِّخًا بسبب التهجين بين الآريِّين والأجناس الأخرى الأقل حيوية منهم.
هذا الخوف الجديد من الانحلال، استولى كذلك على الدوائر الليبرالية نفسها، التي كانت ترفض نظريات «جوبينو» الوهمية عن العرقية، أما بالنسبة للمراقب الخبير، فإن التقدم الاقتصادي والاجتماعي في القرن التاسع عشر بدا فجأةً وكأنه يعمل ضدَّ التقدم الإنساني أكثر مما يعمل من أجله. نظرية الانحلال قدَّمت صورةً تشاؤمية للنظرة إلى الحضارة الحديثة يمكن أن تكون في النهاية أكثرَ تأثيرًا من أي شيء آخر كان يُروج له «جوبينو» أو «نيتشة» وتلاميذهما. وبنهاية القرن، كانت نظرية الانحلال قد هزَّت كثيرًا من ثقة الليبرالية الأوروبية في المستقبل وتركَتها مكشوفةً معرَّضة لأعدائها، وكان الانحلال أو التفسُّخ يُعرَّف بأنه الانحراف الشديد عن نموذج أصلي، «عندما يُصبح أيُّ كائن حي ضعيفًا بسبب أي مؤثرات ضارة من أي نوع، فإن خلفاءه لن يكونوا مثل النموذج الصحي العادي … وإنما سيُشكِّلون نوعًا فرعيًّا جديدًا»، وهذا النوع الجديد بدوره، سوف يُمرِّر خواصه إلى ذريته،٢ فهل يمكن أن يحدث هذا الضعفُ للإنسان الحديث في ظلِّ هذه الظروف الملائمة لذلك؟ كان أول مَن أطلق صفارة الإنذار هم: الأطباء، وعلماء البيولوجي، وعلماء الحيوان، وعلماء الأجناس -الأعضاء القياديون في المهن العلمية الحديثة- وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، كان هناك إجماعٌ متزايد على أنَّ مدًّا من الانحلال كان يجتاح المشهد في أوروبا الصناعية، مخلِّفًا مجموعةً من الارتباكات، من بينها: زيادة نسبة الفقر، والجريمة، والمسكرات، والانحرافات الأخلاقية، والعنف السياسي.
أما العلماء الأكثر قلقًا بسبب هذا الانحلال -باستثناءات قليلة- فكانوا من التقدميِّين، أو بالأحرى الاشتراكيِّين، في آرائهم السياسية، كانوا أبعدَ من أن يكونوا مدافعين عن الحالة الراهنة محافظين عليها كما يُقدمهم المؤرخون دائمًا.٣ «لومبوزو» مثلًا كان عضوًا في وقت ما في الحزب الاشتراكي الإيطالي، وبنَى عمله على محاربة الفقر وسوء التغذية بين أفقر المزارعين في إيطاليا، مما أكسبه العداءَ الدائم للأرستقراطية وكبار ملاك الأراضي،٤⋆،٥ لم يكن خصومُ نظريته التي تقول إنَّ الوراثة هي التي تحدِّد السلوك الاجتماعي من بين اليسار الإيطالي، وإنما ممن قد يُطلَق عليهم اليوم اسم اليمين الديني، الكنيسة الكاثوليكية وحلفاؤها التقليديون، كان: «ماكس نوردو» Max Nordau مؤلِّف الكتاب الشهير «الانحلال»، ديمقراطيًّا من المؤمنين بالمساواة، ومن المعجبين بالثورة الفرنسية. كان يمقت الأرستقراطية والنفاق الاجتماعي والدين والثروة الموروثة، بقدر ما كان يحب العلم والتفكير المنطقي. ويمكن أن يقال ذلك أيضًا عن الكثيرين من علماء «اليوجينيا» - تحسين النسل - الذين استمدوا قوتهم الدافعة لذلك من نظرية الانحلال.
«إرنست هايكل» Ernst Haeckel كان عضوًا مؤسِّسًا في رابطة السلام الوطنية وجمعية الصحة العرقية، بينما كان «كارل بیرسون» Karl Pearson رئيس «مختبر جالتون» من الاشتراكيِّين، وبالفعل كان خطر الانحلال قد أصبح إحدى القضايا التي أجمع عليها بشدة: الاشتراكيون، والراديكاليون، والليبراليون، في أواخر القرن التاسع عشر.٦⋆،٧
الخوف من الانحلال أثار إمكانيةَ أن يخلق المجتمع الصناعي الحديث «بربرية داخلية» جديدة، واضطرَّ الليبراليون إلى الوصول إلى استنتاج مشابه لاستنتاج زملائهم الاشتراكيِّين، وهو أنَّ التحوُّلات الاجتماعية والاقتصادية العادية للحضارة الحديثة لم تَعُد تمثِّل تقدُّمًا … بل العكس، وأنَّ المجتمع الحديث لن يظلَّ قائمًا من دون تدخُّلٍ قويٍّ من العلم الحديث والدولة البيروقراطية.
دارون: التقدم في مواجهة الاضمحلال في التاريخ الإنساني
قد يبدو هذا الاستنتاج مناقضًا لأهم نظرية بيولوجية في القرن التاسع عشر، وهي نظرية التطوُّر عند «دارون» Darwin. نظرية «دارون» كانت تؤكد على أنَّ جميع الأجناس بما في ذلك الإنسان تتطوَّر من خلال الانتخاب الطبيعي. البقاء للأصلح طبقًا لقدرته على التكيُّف مع البيئة، ملامح وسمات القابلية للتكيُّف تنتقل إلى الذرية وتؤدي في النهاية إلى التطوُّر المطَّرد من الأنواع الأدنى والأبسط إلى الأنواع الأعلى، مثل الإنسان بوصفه نوعًا بيولوجيًّا، كان التشابه بين التطوُّر والحضارة بالمعنى الليبرالي الكلاسيكي كعملية تحسُّن مستمرة واضحًا ومحددًا،٨ بيد أنه كان هناك أيضًا جانبٌ أكثر ظلامًا في نظريات «دارون» يغفل عنه النقَّاد المحدثون كثيرًا، وإن كان معاصروه قد فهموه في حينه. كان التطوُّر يعني أنَّ التاريخ الطبيعي للأنواع بما في ذلك البشر، لم يَعُد ثابتًا أو غير قابل للتغيُّر، ونظرية التطوُّر يمكن أن تتبع صعودَ الإمبراطوريات والحضارات القديمة واضمحلالها وسقوطها أيضًا، وليس ارتقاء الأنواع عبر الزمن فقط.
إنَّ نوعًا من الأنواع يجد نفسه عند نقطة معينة من تاريخه، يُخلي مكانه لنوع آخر أفضل منه تكيُّفًا مع البيئة الموجودة، أو أنَّ الظروف الخارجية قد تتغير فجأةً وبشدة، لتجعل ملامحَه وخواصَّه التكيُّفية الأصلية قديمة وغير صالحة، وقد جاء الدليل على ذلك مع نموِّ دراسة أحافير الديناصور بالإضافة إلى اكتشاف آثار «إنسان نياندرتال»٩⋆ عام ١٨٥٦م كلاهما كان مخلوقًا قويًّا، سيد المخلوقات على طريقته، إلا أنَّ كليهما انقرض،١٠⋆ والحقيقة أنَّ الاهتمام الشديد بالديناصورات بدأ مع «الدارونيِّين»، أصبحت الديناصورات حكايةً تحذيرية للمجتمع الحديث، وهي المُعادِل الحيواني لسقوط الإمبراطورية الرومانية؛ حيث تؤدِّي «العظمة المفرطة» إلى الاضمحلال والانقراض.
«توماس هكسلي» Thomas Huxley، تلميذ «دارون» قاد عمليةَ بحث رائدة عن أحافير الديناصورات، جعلَته يستنتج أنَّ:
«من الخطأ أن نتصوَّر أنَّ التطوُّر يعني نزوعًا مستمرًّا إلى الكمال المطرد. إنَّ التحوُّل أو الانمساخ يمكن أن يكون تقهقرًا كما يمكن أن يكون تقدُّمًا للأمام.»١١ أما الآلية الكامنة وراء هذا الانمساخ فهي ليست سوى الانتخاب الطبيعي، الصراع الذي لا يهدأ بين الأفراد من أجل البقاء. وفي هذه العملية خلقوا نوعًا متأقلمًا مع بيئته، ويمكن بالطبع أن ننظر إلى الانتخاب الطبيعي كعملية أدَّت حتمًا إلى تحسُّن النوع. كانت تلك هي النظرة المتفائلة للانتخاب الطبيعي، المرتبطة دائمًا بالدارونية الاجتماعية، والتي بناء عليها «كانت أفضل أنواع الجنس البشري تتواصل، وتنشر جنسًا من البشر لا يتوقَّف عن التحسُّن والاكتمال.» كما يقول «د. ر. جريج» أحد علماء البيولوجيا في القرن التاسع عشر.١٢
ولكن في التطوُّر عند «دارون» لا تقوم البيئة بتحسين قابلية الجنس أو النوع للتكيُّف بشكل مباشر، بدلًا من ذلك، فإن كل شيء يتوقف على الخواص الفطرية للأفراد أنفسهم، مَن بقيَ منهم ينقل تلك الخواص إلى ذريته. ومن ناحية أخرى، فإن البيئة يمكن أن تُحدث ضررًا بالغًا بالتدخل في التنافس على الموارد، أو النصف الآخر (الزوج أو الزوجة) المرغوب فيه أو بمنع الأنواع الأفضل من أن تكون في الصدارة. وقد كان ذلك صحيحًا على نحوٍ خاصٍّ عن البيئة التي صنعها الإنسان، والتي جلَبت عواملَ صناعية جديدة إلى معادلة التطوُّر. في كتابه «أصل الإنسان»، الذي جاء بعد ذلك في عام ١٨٧١م، عبَّر «دارون» نفسه عن شكوكه عمَّا إذا كان نموُّ الحضارة يمكن أن يساعد على التقليل من شأن الانتخاب الطبيعي.١٣
في الوقت نفسه، فإن الوراثة لم تكن ثابتة، كانت هي الأخرى في حالة تطوُّر، وكل دارس للوراثة حتى قبل «جريجور مندل» Gregor Mendel، كان يعرف أنَّ التكاثر عملية تشابه معقَّدة يُنتج بواسطتها البجع الأبيض بجعًا أبيض، ولكنها في الوقت نفسه عملية تنوُّع، يُنتج بواسطتها البجع الأبيض بجعًا أسود من وقت لآخر.
وبالنسبة للمؤمنين بنظرية «دارون» فإن تفاعل التنوُّع والتشابه كان يُظلله حقيقة لا شك فيها، وهي أنَّ: كل الكائنات الحية، بصرف النظر عن جنسها أو وصفها الثقافي كانت من أصل قردة.
وقد فتح ذلك إمكانية أن تكون الصفات والسمات الجسمية والعقلية، التي مكَّنت الإنسان من التكيُّف مع البيئة البدائية سواء في الماضي البعيد (الصيَّاد النياردنتالي)، أو في الحاضر (المحارب الواتوسي)١٤⋆ يمكن أن تنتقل دون تعمُّد إلى نسلِه الحديث المتحضِّر، وقد شرح عالم الحيوان الداروني «هنري مودسلي» Henry Maudsley ذلك مع ملاحظة عابرة، وهي أنَّ هناك بالفعل «مخًّا بدائيًّا داخل مخ الإنسان» يجعل بالإمكان «تتبُّع البدائية والوحشية في الحضارة، كما يمكن تتبُّع الحيوانية في البدائية الوحشية»١٥ ويُطلق علماء «البيولوجيا» في القرن التاسع عشر على هذا البقاء الوحشي مصطلحَ «التأسُّل» Atavism.١٦⋆
«التأسُّل» يُشير إلى أنَّ هناك مواصفات معينة «مفقودة» في كل كائن، يمكن أن تعاود الظهور في ظروف خاصة ويمكن أن تنتقل للذرية. كانت نظرية «التأسُّل» هذه موجودة قبل «دارون»، ولكن نظريته في التطوُّر جاءت لتؤكدها، كما فعلت «الوراثة» عند «مندل» فيما بعد، كما أنها (التأسُّل) ستُصبح حجرَ الأساس لنظرية الانحلال أو التفسُّخ. لم تظهر نظرية «التأسُّل» فقط في تلك الصورة المخيفة للأسرة السليمة من الطبقة الوسطى، التي تجد بين أبنائها فجأةً فردًا متوحشًا، نتيجة الارتداد لصفات السلف القديم كما في الأسطورة القديمة للطفل المتبدل («هيثكليف» في «مرتفعات وذرنج»، وطفل «روزماري»، تنويعات حديثة على هذا الموضوع)، ويتفق معظم المنظِّرين على أنَّ هذا النوع من «التأسُّل» حدثٌ نادر، عالم الأنثربولوجيا الإيطالي «مورسيللي» Morselli، وهو أحد معاصري «لومبروزو» قام بحساب تلك الاحتمالات، ويقول إنها لا تزيد عن حالة واحدة في كل ثمانية ملايين حالة.١٧
ولكن … ماذا لو أنَّ ظروفًا محددةً أظهرَت تلك الصفات المفقودة كلها فجأة، وفي النوع بكامله، والتي ينقلها إلى ذريته؟ عملية «الوراثة» ستعمل فجأةً ودون تفسير، ضدَّ مصالح الأنواع، حينئذٍ ستُصبح عملية الانتخاب الطبيعي فخًّا، وسوف تُنتج أسوأ سلالة بشرية، قريبة من حالة «فوضى أو هیولية الشعوب» Volkerchaos التي يقول بها «هوستون تشمبرلين». والحقيقة أنَّ تشاؤمية «جوبينو» العرقية لم تلعب أيَّ دور في نظرية الانحلال، أي على الأقل ليس في البداية، ولكن «الدارونية» والانحلال (كنظريَّتَين) قد وضعتَا نهايةً لأيِّ مفهوم غامض عن أنَّ الحضارة يمكن أن تساعد في عملية ترقية أو تحسين الأنواع. وفي النهاية، فإن المؤسسات الرسمية في الحياة المتحضرة لا تقوم بأيِّ دور مهم في تشكيل مصير الإنسان، بل إنَّ مصير الإنسان يتحدَّد عن طريق عمليات بيولوجية خفية، ويعبِّر عن ذلك «لومبروزو» بقوله: «نحن محكومون بقوانين صامتة لا تكفُّ عن العمل، وهي تحكم المجتمع بسلطة أكبر من القوانين الموجودة في التشريع.» لقد وُوجِهَ الإنسان الغربي باحتمال وجود مزيج متفجِّر من البربرية والقسوة تحت سطحه المشمس المتحضر، وأصبحت هناك صورةٌ قوية تؤرق الخيال الليبرالي، وهي أنَّ بداخلِ كلِّ إنسان وحشًا نائمًا يمكن أن يقفز فجأةً من عرينه إذا أخفقَت الظروف.
«لومبروزو» والثورة اللومبروزية
كان «سيزار لومبروزو» يزعم أنَّ ذلك المولود الذي يحمل سماتِ الأسلاف الوحشية هو في الحقيقة، المجرم الحديث، ونتيجة لقيامه بتشريح جثة «فيليلا»، امتدَّ بحثُه بسرعة ليشمل مئاتِ السجناء والمجرمين الذين صدرَت ضدَّهم أحكام، بمن في ذلك من سيدات وجنود في الجيش الإيطالي، وقد استخدم في عمله كلَّ الأساليب والأدوات التي كانت أحدثَ بدعة في الأنثروبولوجيا والنظرية العِرقية. استخدم «الكرانيوميتر» و«المسماك» لقياس عرض الجمجمة وحساب الفهرست الجمجمي، و«الأيسثيتوميتر»، و«الألجوميتر» لاختبار حساسية اللمس، هذا إلى جانب «الديناموميتر» و«الكامبيميتر»، وغير ذلك من الأجهزة العلمية، (بما في ذلك نموذج باكر من «البوليجراف»، وقد أصبحت كلها أجهزةً في علم الجريمة على النمط «اللومبروزي».)١٨⋆،١٩
وجمع «لومبروزو» بين دراساته التشريحية وإيمان سحري بالبيانات التراكمية؛ فكان يفترض هو وتلاميذه بعد حساب عدد مرات ظهور مواصفات معينة، أنَّ العالم سيكتشف شيئًا مهمًّا عن سبب ظهورها. وقد أصبح هذا الوابل الكمي أهمَّ جزء في نظريات «لومبروزو»، كما كان هو الأكثر إقناعًا بالنسبة للمراقبين غير المتعمقين. كان يُردد بيانات رقمية ويعرض رسومًا وجداولَ معقَّدة … ويضع فهارسَ ومعادلاتٍ رياضيةً جديدة بلا نهاية، وعلم الجريمة عند «لومبروزو» يكشف عن مدى اهتمام العلم الحديث بالأرقام في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، وهو ما سوف يظهر أيضًا في الاقتصاد وفي علم الاجتماع (دراسة «إمیل دوركايم» الإحصائية عن «الانتحار» عام ١٨٩٧م)، ويُعَد ذلك في علم «اليوجينيا» (تحسين النسل) وعلم الأجناس. كان الافتراض الأساسي عند «لومبروزو» مثل الافتراض الأساسي عند علماء الأنثروبولوجيا الجنسية.
الخواص الفيزيائية (الجسمية مثل طول وشكل الجمجمة وملامح الوجه، هي مفاتيح الفروق والاختلافات الثقافية أو النفسية)، ومثل العلماء الآخرين في حقبته، كان «لومبروزو» يفترض أنَّ البيض أرقى من غيرهم بالوراثة، إلا أنه استخدم نموذجًا تطوُّريًّا يسير خطوة خطوة - استمدَّه من «دارون»، رغم أنَّ «دارون» لم يكن مصدره الوحيد - ليفسِّر الفروق العِرقية، وذلك بدلًا من النموذج الانتشاري أو نموذج «جوبينو». كان «لومبروزو» يعتبر الأفارقة البشرَ الأصليِّين، وبعد ذلك سار النوع في عملية تطوُّر حتمية إلى أعلى، من الأسود والبُني إلى الأصفر والأبيض، التطوُّر العرقي يتوازى مع مسار الحضارة من البدائية إلى الحداثة.
الأوروبيون البيض كانوا هم - عنده - قمة التطوُّر في النوع البشري والتجسيد لمواهب الإنسان الفكرية والأخلاقية. كتب «لومبروزو» سنة ١٨٧١م في كتابه «الرجل الأبيض والرجل الملوَّن»:
«نحن البيض فقط، الذين وصلنا إلى التناسق النهائي في شكل الجسم»، وكان بذلك يردِّد ما قاله «جوستاف كليم» Gustav Klemm قبل ثلاثة عقود: «نحن فقط الذين منحنا حق الإنسان في الحياة، واحترام كبير السن والمرأة والضعيف.»٢٠ ومع ذلك، كانت تلك الإنجازات المتحضِّرة عرضةً للهجوم من الردة البيولوجية. من وقت لآخر، كان يظهر بين جموع البشر أفرادٌ من المتأسِّلين (الحاملين لسمات وصفات الأسلاف)، وكان سلوكهم البدائي الهمجي واللاعقلاني يضعهم بمعزل عن نموذج التطوُّر العادي. انحرافهم عن هذا النموذج جعلهم مجرمين في مجتمع متحضِّر، بينما في مجتمع بدائي متوحِّش، ما كانوا ليجذبوا إليهم اهتمامًا كبيرًا.٢١⋆
«لومبروزو» يعتبر الجريمة في الحضارة الحديثة مفارقةً تاريخية، وهي سلوك بقيَ من عصر أكثر بدائية، فالمجرم تظهر عليه أعراضٌ تشريحية محدَّدة، كان «لومبروزو» وأتباع نظرية الانحلال يسمُّونها «سلوكًا لا اجتماعيًّا»؛ لأنها لا تكترث ببنية أو احتياجات المجتمع الحديث المتحضِّر. المجرم المولود أو المولود مجرمًا بعيدٌ عن الإنسان الحديث المتطوِّر مثل حازز الرءوس في «بورنيو»، كلاهما عودة إلى مرحلة سابقة باكرة من التطوُّر البشري.
كان «لومبروزو» يستطيع أن يقول عن شخص يقوم بتشريح جثته: «وُلِد مجرمًا لأنه وُلِد بدائيًّا.» وكان يعني ذلك حرفيًّا٢٢ ولكن كيف يمكن أن نميِّز أولئك البدائيِّين بيننا؟ كان «لومبروزو» يُشير إلى سمات جسمية معينة أو سمات تشخيصية stigmata تكشف للمراقب المدرَّب عن عودة المجرم المولود «المخبول أخلاقيًّا» إلى سمات الأسلاف. وكانت تلك السمات تشمل: «الجبهة الخفيضة المنحدرة، العيون القاسية المراوغة، الآذان الكبيرة التي تُشبِه مقابض الأبواب، الأنوف الفطساء أو المقلوبة لأعلى، البروز الأمامي للفك (كما عند الزنوج والحيوانات)، قواطع الأسنان (الوسطى) الكبيرة، أصابع الأقدام والأقدام الملتوية كأنها مجهزة للامساك بشيء (مثل ذيل القرد)، الأذرع الطويلة (كالقردة أيضًا)، اللحية الضئيلة … والصلع.»٢٣⋆
المجرم المولود، مثل الإنسان الهمجي أو البدائي لا يشعر بالألم (كان «لومبروزو» يحب دائمًا أن يرويَ قصةَ رجال القبائل الأفارقة الذين رأوا أحذيةً لأول مرة، فقطعوا أصابع أرجلهم لكي تكونَ على قياسهم) ولديه ميلٌ للانتقام والكسل والخيانة. المجرم ينظر إلى الحياة نظرةَ شكٍّ، وذكاؤه منخفض بشكل عام، وقد وضع «لومبروزو» قائمةً بمواصفات فيزيائية (جسمانية) محددة مرتبطة بجرائم بعينها: اللصوص بشكل عام، أنوفهم ملوية أو فطساء (مثل الزنوج)، بينما أنوف القتلة مستقيمة ومعقوفة (مثل منقار الجوارح)، السفاحون والمغتصبون حواجبهم كثَّة، بينما يتميَّز المزوِّر أو المزيِّف بعينَين صغيرتَين وأنف كبير، كما كان يزعم أنه يستطيع أن ينظر إلى مجنَّد في الجيش الإيطالي فيتنبَّأ ما إذا كان سينتهي به الأمر في المعتقل.٢٤
من الصعب أن نتعامل مع أفكار «لومبروزو» بجدية، أو أن نأخذها على محمل العلم، كما يجب أن نتذكر أنَّ معظم معاصريه كانوا مدركين لذلك،٢٥ ولكن عندما ظهر كتابه «الإنسان المجرم» في سنة ١٨٧٦م، وجد جمهورًا يتلقاه في الدوائر الفكرية والسياسية التقدمية داخل وخارج إيطاليا. كانت نظرياته تناقض المجرم المتحلِّل بفرد (مذكر) أوروبي «عادي»، هو النتاج الفخور للتقدُّم الليبرالي، ولكن بين تلك الأنماط العادية التي كان «لومبروزو» يدعوها ﺑ «إخواننا المواطنين»، كان هناك أناسٌ ما زالوا يحملون علامات الماضي البدائي المتخلِّف، وحيث إنَّ «لومبروزو» كان يعيش في الجنوب الإيطالي الفقير، فقد كان على وعيٍ بالهوَّة التي تفصل بين المزارع الريفي ورجل الأعمال في: «تورين»، أو المحامي في الشمال الصناعي مثلًا، وكان بعض معاصريه يشبِّهون ساكن الأحياء الحقيرة في «صقلية» أو «نابولي» بأنه المعادل العرقي للزنجي الأفريقي.٢٦
لم يكن «لومبروزو» ونظراؤه يعتقدون أنَّ التمييز الذي وضعوه بين «المنحرف» و«العادي» كان شيئًا مثيرًا للاستياء أو اعتباطيًّا؛ إذ يبدو في نظرهم نابعًا من قوى التطوُّر التاريخي. الإنسان الحديث المتحضِّر كان يقف عند نقطة تقاطع بين عمليَّتَي تطوُّرٍ صعبتَين: ارتقاؤه البيولوجي من القردة، وتطوُّره ككائن اجتماعي من البربرية إلى التحضُّر. كان الجدل الكبير في القرن التاسع عشر بين الطبيعة والتنشئة من صميم نظرية الانحلال، ولكنَّ أحدًا لم يزعم أنَّ إحداهما كانت تستبعد الأخرى. كان علماء البيولوجيا والأنثروبولوجيا على وعيٍ كافٍ بأهمية التاريخ وبالإنسان كمنتج تاريخي عن طريق التطوُّر لدرجة لا تجعلهم مصرِّين على إجابة مفردة، وكان «لومبروزو» كوضعيٍّ متشدِّد، ومؤمن بالتقدم، يرى التداخل بين الإنسان وبيئته الحديثة أمرًا غير ضار بالضرورة، ونظريته التي تميل إلى أنَّ الإنسان يُولَد مجرمًا لم تستبعد أثرَ البيئة التي يصنعها الإنسان. وقد ناقش فكرةَ أنَّ الأسرة المحطَّمة وغير الشرعية والفقر يمكن أن تُقوِّيَ من الجريمة، رغم أنه يقول إنَّ الاهتمام بالفقر أمرٌ مبالغ فيه، وكان شديد الاهتمام بإدمان الكحوليات كمفجِّر للعودة إلى سمات الأسلاف والجريمة،٢٧⋆،٢٨ إلا أنه كان مصرًّا على أننا يمكن أن نحصل على أفضل النتائج بالتركيز على طرف الطبيعة أكثر من طرف التنشئة في المعادلة.
كان يعتقد أنَّ الانحلال أو التفسُّخ شيء ثابت، ومحدود المدى، وأنه يمكن القضاء عليه بالوسائل العلمية الحديثة مثل الجريمة. المجرم المولود والشخص الذي يرتدُّ إلى صفات الأسلاف و«غير العاقل أخلاقيًّا»، لا يختلفون عن الناس العاديِّين، ولكن يوجد بداخلهم عوامل بيئية مختلفة يمكن أن تفجِّر استجابات ردَّة للسلف. ويرى «لومبروزو» أنه لا يمكن أن نفعل أي شيء بالنسبة للمولود مجرمًا سوى أقصى عقوبة وهي الإعدام، حقيقة أنَّ هناك كائنات مثل المولودين مجرمين، المهيَّئين للشر بشكل عضوي، ونماذج متكرِّرة من المتأسِّلين الذين ارتدُّوا إلى صفاتِ أشدِّ الحيوانات ضراوةً وليس الإنسان البدائي فقط … هذه الحقيقة تُجردنا من كل شفقة … فنشعر أنَّ هناك مبرِّرًا لإعدامهم.٢٩
أما في حالة المجرم العادي أو العرضي، فهناك فرصة لاستجابة أكثر إنسانية وعلمية، حركة «لومبروزو» لإصلاح قانون العقوبات في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، كانت تدعو لعدم تطبيق عقوبة السجن على المخالفات البسيطة أو الجرائم العاطفية، وإلى نظام وصاية وعقوبة يؤكِّد على إعادة التأهيل والعلاج أكثر مما يؤكِّد على العقاب، وإلى إعطاء اهتمام خاص للإناث (وقد كان ذلك موضوع كتاب مستقل بعنوان «الأنثى المذنبة» في عام ١٨٩٨م.)
كما كان يدعو إلى نظام قضائي مستقل للجانحين، وبمساعدات قانونية تُقدِّمها المحكمة للمذنبين الفقراء. والحقيقة أنه كان يدعو لكل الإصلاحات التي تحقَّقت في قوانين العقوبات على مدى المائة سنة التالية، وأصبحت نظريات «لومبروزو» هاجسًا بين السياسيِّين من ذوي العقول التقدمية والمثقفين في إيطاليا وإنجلترا والولايات المتحدة بخاصة.٣٠ لقد أوحى للجميع بأهمية العلاقة بين الوراثة والسلوك الإجرامي، وهو الأمر الذي سوف يشغل علماء الاجتماع لمدة نصف قرن على الأقل، وتحت مظلَّة «لومبروزو» اتَّسع مجال السلوك الوراثي اللااجتماعي، أو السلوك المرتد لصفات الأسلاف، ليشمل العقم والعادة السرية والشذوذ الجنسي، حتى الاضطرابات العصبية والهستيريا. وطبقًا للمنهج «اللومبروزي» فإن كل تلك الأشكال من الانحرافات كانت تعتبر أمراضًا مثل الصرع. المجرم أو المنحرف الاجتماعي يحتاج علاجًا وليس عقابًا، أما الدافع «لعقاب» المجرم أو المذنب بسبب سلوكه، فهو في حدِّ ذاته غريزة بدائية، كما كان يقول «لومبروزو»، وليس لها مكانٌ في مجتمع متحضِّر.
مات «لومبروزو» عام ١٩٠٩م ولم يُقدَّر له أن يعيش ليرى أفكاره تدخل الممارسة القانونية، ولكنَّ مساعده «إنريكو فيري» Enrico Ferri سوف يلعب دورًا رئيسيًّا في إعادة صياغة مجموعة القوانين في إيطاليا تحت حكم «بنيتو موسوليني». وفي عام ١٩٣٠م، كانت مجموعة القانون الفاشستي بتركيزها «اللومبروزي» على «علاج» وإعادة تأهيل المذنبين، من بين الأمور الجديرة بالإعجاب والأكثر تقدُّمية في إصلاحات «موسوليني».٣١ وفي التحليل الأخير، فإن سلوك المجرم أو المذنب لم يكن خطأه. وبفضل أنثروبولوجيا الجريمة الحديثة، فإن المسئولية الأخلاقية تختفي من العلم العقابي،٣٢ كما كان يقول أحد تابعي «لومبروزو» في عام ١٨٨٤م، وبدلًا من ذلك فقد حلَّت جرعة كبيرة من «الحتمية»٣٣⋆ determinism محلَّها، إلى جانب توجه لعلاج الأسقام الاجتماعية، كما انتقلت إلى مجالات أخرى في الحياة الحديثة.
اضف تعليق