الإنسان الأرقى قد حرَّر نفسه من قيود والتزامات المجتمع المدني؛ حيث أدرك أنها من نتائج التاريخ، وبالتالي فلا معنى لها وهي فارغة الإنسان الأرقى يُدرك أنَّ التاريخ ليس له معنًى أكبر؛ لأنه محكوم بقانون التواتر اللانهائي. التغيُّر الوحيد الذي له معنًى في المجتمع الإنساني هو التحرك من الحيوية...

«وحده المنذور للثقافة، ذلك الذي علَّق قلبه بحبِّ رجل عظيم» … لسوء الحظ، عندما بدأ العمل في مسرح «بايريث» في ذلك الصيف، بدأت أيضًا شكوك «نيتشة». كانت تلك الشكوك في البداية تجد طريقها إلى مفكرته. «فن فاجنر يتكلَّم لغةً مسرحية … زائفة … لغة رخيصة … وهكذا فإنها -من المؤكد- سوف تُصيب أرقَّ المشاعر بالخشونة.» وأصدر حكمه بأن «فاجنر»: «كان ممثلًا حصل على حب وثقة لا يستحقهما.» وبعد ذلك كان يقول: «لم يكن أحد من مؤلفينا بمثل هذه الدرجة من الفقر الموسيقِي في الثامنة والعشرين كما كان «فاجنر».» ثم في انفجارة أخيرة: «موسيقاه ليست ذات قيمة كبيرة، ولا الشعر ولا الحبكة … التأليف المسرحي مجرَّدَ طنطنة في معظم الأحيان.»٦٠ 

وقد تأكدت أسوأ مخاوف «نيتشة» في أوَّل احتفال في «بايريث» في عام ١٨٧٦م عندما كان جمهوره عبارة عن البرجوازية الحديثة والأرستقراط الذين كان «نيتشة» يحتقرهم، وكان يظن أن «فاجنر» يحتقرهم أيضًا. أما أكبر ضربة دعائية غير متوقَّعة ﻟ «فاجنر» فكانت ظهور الإمبراطور «ولهلم الأول» شخصيًّا … عندما رأى «نيتشة» القيصر وهو يصفِّق في نهاية المشهد، ثم يستدير ناحية مساعديه العسكريِّين لكي يعلِّقوا «بائسة … بائسة». انهار صبر «نيتشة» وقال لنفسه لقد أفلس «فاجنر»، وأصبحت «بايريث» خزانة عرض لكل الأفكار والعواطف الضحلة، والبرجوازية، والوطنية التي كان «نيتشة» يمقتها (رغم أنَّ تلك كانت هي نفس الصفات التي سوف تجذب «لودفيج شيمان»، و«هوستون تشمبرلين»، و«برنارد فورستر» الذي تزوَّج شقيقة «نيتشة»، وتجذب معجبين آخرين إلى مدار «فاجنر»). تقييم «نيتشة» الجديد لمعبوده السابق انعكس في عنوان كتابه التالي: «إنساني … إنساني أكثر مما ينبغي.»

في الوقت نفسه كان القلق قد بدأ ينتاب «جاكوب بوركهارت» على صديقه الشاب. في ٥ أبريل ١٨٧٩م، كتب إلى «نيتشة» يشكره لإرساله نسخة من كتابه «إنساني … إنساني أكثر مما ينبغي» له، ويمدح ما في الكتاب من عمق و«حرية فكر». وبالرغم من ذلك، كان يعبِّر للآخرين عن قلقه لتدهور حالة «نيتشة» الجسمية والعقلية، «نظره الضعيف، الصداع المستمر، نوبات المغص العنيفة المتكررة». وتدهورت حالة «نيتشة» لدرجةٍ اضطرَّته لطلب إجازة من جامعة «بازل» في ذلك الصيف، ولم يَعُد.٦١ نهاية علاقة الأب-الابن مع «فاجنر»، جعلَته يقوم بعملية فحص ذاتي لأفكاره ودوافعه «كيف وقع في هذا الخطأ بخصوص فاجنر؟» ودفعت به في الرحلة الفلسفية التي سوف تستهلك بقية حياته. وصل «نيتشة» إلى اقتناعه بأن فن «فاجنر» كان يعاني من المرض نفسه الذي أصاب «الإنسان الإسكندري» في «مولد التراجيديا» وبقية المجتمع الحديث: وهو التفسُّخ!

ما هو التفسخ؟ الحياة لم تَعُد ساكنةً في الكيان الكلي … التردُّد وحيوية الحياة تراجعَا في المكوِّنات الصغيرة … لم يَعُد الكيان الكلي حيًّا بالمرة … إنه مركب محسوب، متكلف … مصطنع …

وهنا، كان «نيتشة» يردِّد انتقادات «نیسارد» Nisard، و«كوتير» Couture، وغيرهما من النقَّاد المحافظين قبل أربعين عامًا. وقبل ذلك كله فإن العمل الفني المتفسِّخ، أو الشخص المتفسِّخ يفتقد «الأصالة»، وهو الاصطلاح الذي سيجعله «نيتشة» شائعًا. «إنَّ أحدًا لا يجرؤ على أن يظهر كما هو، فهو يتنكَّر في ثياب شخص مهذَّب، مثقَّف، شاعر، سياسي – أو كموسيقِي»، ولكي يُبرهن على سلامة تشخيصه يُشير «نيتشة» إلى شهرة «فاجنر» التي ارتفعت إلى ذرا جديدة بعد وفاة المؤلف الموسيقِي في سنة ١٨٨٣م، «في الثقافات المنهارة، عندما يصبح القرار في يد الجماهير، تصبح الأصالة غير ضرورية، تصبح عيبًا … وحده الممثل (فاجنر) يظل مثيرًا للحماس.»٦٢

جميع أعمال «نيتشة» المؤثرة التالية: العلم المبهج، جينيالوجيا الأخلاق، ما وراء الخير والشر … وعمله الرمزي التأملي: هكذا تكلَّم زرادشت - كانت بمعنًى عميق، بحثًا عن جذور التفسُّخ في الثقافة الأوروبية، وكما لاحظ «بوركهارت» نفسه بذكاء، فإن ما كتبه «نيتشة» لم يكن فلسفةً بالمعنى المعتاد، بقدر ما كان تاريخًا.٦٣ كانت نقطة الانطلاق عند «نيتشة»، هي نفسها عند «بوركهارت»: قيام عصر جماهيري ديمقراطي رأسمالي، يعجِّل بانهيار المجتمع الأوروبي، و«قيمة» (مصطلح آخر سوف يجعله «نيتشة» شائعًا)، ولكن «نيتشة» وصل إلى استنتاج أقرب إلى استنتاج «جوبینو»: أوروبا الحديثة فقدَت قوةَ الحياة الدافعة لخلق قِيَم وخصوبة تؤدي إلى ثقافة قوية حقًّا. قوة الحياة هذه سوف يُطلق عليها «نيتشة»: «إرادة القوة»، كما اكتشف أن الجذر التاريخي «لتفسُّخ حياة» الحداثة، ليس هو تمازج الأجناس (رغم أنه لم يستبعده كقوة مساعدة)، وإنما هو «مولد الأخلاق»؛ ولذلك فإنه سوف يَصِف كل فلسفة بأنها «حملة ضد الأخلاق» واحتفال بإرادة القوة.٦٤

كان «نيتشة» يفهم إرادةَ القوة في الإنسان على أنها شيء أوسع وأكثر شمولًا من مجرد رغبة في ممارسة السيطرة على الآخرين، كما في السياسة أو علاقات العبد-السيد، والأخيرة (علاقات العبد-السيد) ليست سوى تجليات لما هو جزء من الحياة نفسها بمعنى ما، كما يقول الفيلسوف «ريتشارد شاخت» Richard Schacht: «إرادة القوة هي الميل الأساسي لكل القوى، وكل ما تمثِّله - في الإنسان، في المجتمع، في الطبيعة - لأن تبسط نفوذها وتُهيمن على الآخرين». هذه القوى «تؤلِّف بشكل جمعي حقيقةَ العالم، كما هي موجودة بالفعل»، إرادة القوة هي أصل كل ما هو موجود وكل ما صنع الإنسان، من أرقى الأعمال الفنية، إلى أشد الجرائم عنفًا وأكثرها إرهابًا.٦٥ والفرد السليم المفعم بالحيوية والنشاط، مثل المجتمع السليم يُدرك إرادةَ القوة الموجودة فيه، يعيها، ويقول «نيتشة» إنها تمنحه شعورًا «بالكمال، بالقوة المنضبطة، والصلاحية التي تمكِّنه من أن يواجه بشجاعة وروح مرحة، الكثيرَ مما يجعل الضعفاء يرتعدون».٦٦

وعلى العكس من ذلك فإن المرض والتفسُّخ يطردان غريزةَ الحياة والقوة «الحياة التي هي معادل الحيوية تتقهقر في المكونات الصغرى». الكل الأكبر يفقد الطاقة ويتآكل ويدخل مرحلةً «يفقد فيها الشخصُ القدرةَ على المقاومة»، وتحلُّ «عدمية مرهقة»، «وحيثما تنهار قوة الإرادة، على أي نحو، يوجد كذلك التردِّي النفسي … التفسُّخ.»٦٧ وكما يرى «نيتشة» فإن التاريخَ كلَّه يُصبح صراعًا ميتافيزيقيًّا بين مجموعتين: هؤلاء الذين يعبِّرون عن إرادة القوة وغريزة الحياة، وأولئك الذين لا يعبِّرون عنها: هؤلاء ذوو الحياة الفقيرة … الضعفاء …» يفقرون الثقافة، و«أولئك ذوو الحياة الغنية … الأقوياء» يثرونها،٦٨ وكما يقول «نيتشة» فإن الحضارة كلَّها هي من صنع «أصحاب القوة والسطوة الذين ما زالوا يمتلكون إرادة قوة لا تُقهر وشهوة للسلطة، أولئك الذين انقضُّوا على الأجناس الأضعف، الأكثر مدنية أو الأكثر مسالمة، أو على الثقافات القديمة اليانعة التي تعبِّر عن حيويتها الأخيرة بمظاهر تتم على الفساد.»٦٩ 

هؤلاء الرجال أصحاب القوة والسطوة والانقضاض يسميهم «نيتشة»: «الآريون» - اصطلاح «جوبينو» - الذين يُصبحون الطبقة الحاكمة في المجتمع الجديد، وكما يقول: «فإن طبقة النبلاء كانت دائمًا هي طبقة البربرية»؛ لأنهم - بمعنى الكلمة - بشر أكثر حيوية واكتمالًا من المتكلِّفين المتخمين الذين يُنزلون بهم الهزيمة. «الآريون» عند «نيتشة» يتنفَّسون حيوية، كان من السهل أن يُدركها «جوبينو»، والحقيقة أنَّ الدليل على تأثير «جوبينو» على «نيتشة» قد لا يكون مباشرًا، ولكنه مقنع٧٠ مثل «جوبينو»، كان «نيتشة» معجبًا بالأرستقراط كنموذج لقوة الحياة النشطة في المجتمع. كتب: «إنَّ كل ارتقاء بالنوع الإنساني حتى الآن، هو من صنْع المجتمع الأرستقراطي، وسيظل هكذا دائمًا.» ثقافة «نيتشة» الباكرة عن العبقرية والتأمُّل (الثقافة الشوبنهاورية)، مدينة للعالم الحيوي العفوي في الساموراي الياباني، والبطل الهوميروسي، وألمانيا الباكرة، وسكاندينافيا الفايكنج، حيث كانت قِيَم القوة والشرف واحتقار النماذج الدنيا من الحياة هي السائدة.

 على أية حال، فإن «الآري» المفعم بالحيوية والنشاط عند «نيتشة» وهو «الحيوان الأشقر»، ليس نموذجًا عرقيًّا، وإنما نموذج ثقافي، سمتُه الرئيسية هي القدرة المستمرة على «خلق قيم» لنفسه ولمجتمعه، الطبقة الأرستقراطية القوية تخلق تعريفها الخاص للشرف والواجب والجمال (الذي هو دائمًا في الاتجاه الذي يريده الأرستقراط)، كما تخلق نموذجها الخاص للصواب والخطأ وتُقرر ما يعتبر حقيقيًّا وما يعتبر زائفًا. هذه القيم يفرضها الغازي أو المنتصر على المهزوم، تمامًا كما يُصادرون ممتلكاتهم وأراضيهم كغنائم حرب. «نيتشة» لا يأسى لوحشية الفرد في التاريخ، بل هو على العكس، معجبٌ بها؛ لأن «الحياة نفسها بالضرورة، استيلاء وظلم وإخضاع لكل ما هو مغاير وكل ما هو أضعف».

الحيوية والإبداع، بما في ذلك خُلُق القيم «هي امتياز القوى»، أي الغزاة والأرستقراط، ويُضيف إليهم «نيتشة»: «الفنانون». الأخلاق - من جانب آخر - هي من صنع الطبقة الدنيا، وهي وسيلتهم للانتقام من المتفوقين عليهم … الأكثر حيوية. ونموذج «نيتشة» للفرد الحيوي في التاريخ الأوروبي هو نفسه عند «جوبينو»: «سيزار بورجيا»، «نيتشة» يمجِّده ويمجِّد كلَّ مَن هو «بورجيا» تحديدًا؛ لأن ضحاياهم مع الأجيال التالية أدانَتهم كمجرمين وكوحوش ساديِّين. «نيتشة» لا يأبه بتلك الشعارات: كلما كان الفرد أكثر حيوية، سيكون أقدرَ على أن يصدم ويروِّع الأغلبية الخاملة. في المجتمع الأرستقراطي مثل يابان «الساموراي»، أو يونان «هوميروس»، كان يُحتفَى بأعمال المحاربين والقتلة، ويُمجدونهم في الفن والشعر (كما في الإلياذة)، أما في المجتمع المتفسِّخ أو الديمقراطي فالمحارب مذموم. المحارب الآري يخرج من سلسلة مقزِّزة من أعمال القتل والقرصنة والاغتصاب والتعذيب منتعشًا، لا يُزعج روحَه شيءٌ، حتى عندما يكون ضحاياه الممتعضون والأقل شأنًا، يتسامرون سرًّا لإسقاطه، وحيث إنهم لا يستطيعون أن يهزموه في ساحة القتال، فهم يفعلون ذلك عن طريق الثقافة، يُنتجون ما يسمَّى بلغة التنوير «التهذيب» و«المؤانسة»، وهو ما يسميه «نيتشة» «أخلاق العبيد».

في جانب آخر إذن، هناك أخلاق السادة، أخلاق المحاربين من الأرستقراط، وهي تُثمن «الحالات الرفيعة للروح والباعثة على الفخار»، والتي تتم ممارستها مباشرةً عن طريق: «الحرب، المغامرة، الصيد، الرقص، ألعاب القتال، وكل ما يتضمن نشاطًا قويًّا وحرًّا وممتعًا بشكل عام.» أخلاق السادة تشكِّل رؤية للعالم هي بالضرورة٧١ متمركزة حول الذات «هذه الأخلاق هي تمجيد للذات».٧٢

في جانب آخر هناك «أخلاق العبيد» المتولِّدة من «الاستياء»، (يستخدم «نيتشة» هذا المصطلح الفرنسي بكل ما يدل عليه من استجابة ارتكاسية) لدى الذين يتحكم فيهم ويستغلهم المتفوقون عليهم بطبيعتهم وحيويتهم. (أن تكره الخرافُ الطيورَ الجارحة ليس أمرًا غريبًا)، وهكذا تتظاهر الخراف بأن سعادة الأرستقراط ليست حقيقية. وتقول إنَّ السعادة الحقيقية والفضيلة تتوقفان على مساعدة المظلومين، «الشفقة، اليد الحنون الكريمة، القلب الدافئ، الصبر، المثابرة، التواضع، المودة … كلُّ ذلك محلُّ حفاوة من قِبل ضحايا «الآري» (الحيوان الأشقر) لكي تتفوق عليه وتهزمه.»٧٣ 

وفي تناقض واضح مع «أخلاق السادة» فإن «أخلاق العبيد» هي بالضرورة «أخلاق منفعة»، وكلمة «منفعة» هنا حاسمة؛ فكل حضارة مادية وتقدُّم اقتصادي كما يقول «نيتشة»، بما في ذلك حضارة واقتصاد الطبقة الوسطى الأوروبية، تقوم على أخلاق العبيد. إنها تغذِّي فضائل حيوان القطيع الذي «يعطي نفسه مظهرَ أنه النوع الإنساني الوحيد المسموح به، ويمجِّد صفاته التي تجعله مستأنسًا، ومن السهل أن يتقدَّم، وأن يصبح نافعًا لبقية القطيع.» القواعد الاجتماعية الجديدة تصبح هي: العطف، إنكار الذات، الامتثال - والمقدرة المتوسطة - «كل ما يرفع الفرد عن مستوى القطيع ويُخيف الجار يعتبر شرًّا»، عملية التحضر برمَّتها هي انتصار الأغلبية الضعيفة على الأقلية الحيوية، وهي التضحية بالكمال الأرستقراطي من أجل الإنسان العادي. «نيتشة» لم يلجأ إلى رجوع «جوبينو» للاندماج البيولوجي العرقي لكي يشرح عملية الإفساد هذه، بدلًا من ذلك، فإن القطيع يُضعف ويُلوِّث قِيم المجتمع الثقافية عمدًا. ولكن المجتمع أيضًا يدفع ثمنًا قاتلًا، فهو بتمدينِ نُخَبِه الأرستقراطية يسمح بدخول «إرادة إماتة الحياة» إلى الكيان الكلي، وهي مبدأ «للانحلال والتآكل».٧٤

مسئولية «انتفاضة العبيد» هذه تقع على المسيحية تمامًا، ومثل «جوبينو» يخلص «نيتشة» إلى أنَّ المسيحية «هي الدين النقيض للآرية بامتياز»، ولكن ليس لأسباب عِرقية مرة أخرى، وبدلًا من ذلك، فهو مثل معلِّمه «شوبنهاور» يرى «نيتشة» أنَّ روح المسيحية وعقيدة التنوير في التقدم المادي «مبدأ المنفعة» شيء واحد، كلاهما يقيِّد ويقلِّص الإرادة الإنسانية بدلًا من إطلاق الطاقات الإبداعية وإنتاج قِيم جديدة، إنهم يُديرون إرادة الحياة ضد نفسها لكي تُنتج الذنب والعار، «إنَّ تصميم المسيحية على أن تجد العالم قبيحًا وسيئًا جعل العالم قبيحًا وسيئًا، المتوسطون فقط هم الذين ينتعشون، بينما يخفق النوع الأرقى. وعندما يُواجَه بهذه الحضارة المزعومة يفقد شجاعته ويستسلم.»٧٥ «الأخلاق تنفي الحياة». استنتاج «نيتشة» ليس مجردَ حكم أخلاقي أو فلسفي ولكنه حكم تاريخي. انهيار الحضارة ليس حركةً للخلف نحو حالة بدائية وحشية بربرية بتعبير «بوركهارت»، وإنما هو حركة للأمام نحو التفسُّخ واللامعنى. «لا نستطيع أن نرى اليوم شيئًا يريد أن ينموَ ليصبح أعظم، نشك في أن الأشياء سوف تواصل الانحدار … أسفل … أسفل … تصبح أكثر نحافة، ذات طبيعة أفضل، أكثر تدبُّرًا، أكثر راحة، أكثر توسطًا، أكثر لا مبالاة، أكثر صينية، أكثر مسيحية - لا شك في أنَّ الإنسان يصبح «أفضل طوال الوقت» - سريان هذا السم في «ثنايا جسد البشرية كله يبدو عصيًّا على المقاومة» وبالتحديد؛ لأن الجماهير تعتقد أنَّ هذا القمع لغريزة الحياة هو التقدم.»٧٦ 

وبتبنِّيها للمسيحية والعلم وللروح الإنسانية الليبرالية، فإن الثقافة الغربية تتبنَّى دمارها، «منذ مدة، وثقافتنا الأوروبية تتحرك نحو كارثة»، الغرب الحديث «مريض» … اصطلاح يستخدمه «نيتشة» بالمعنى الحرفي التشخيصي، «ألسنا ضائعين في عدم لانهاية له؟ ألَا نشعر بالفراغ نفسه؟ ألم يصبح الطقس أكثرَ برودة؟ ألَا يُخيِّم علينا ليلٌ طويل؟» عندما انتهى من «جينيالوجيا الأخلاق» في سنة ١٨٨٧م، كان مرض نيتشة يشتد عليه، وكان يدمِّر عقله وجسده (وكان يدرك ذلك). كان يجلس إلى مكتبه، وجهه ونظارته ملتصقان بالورق، يكتب بكثافة عن «حالات الوجود النشطة والقوية» لأرستقراطية آرية متلاشية، ومباهج الحرب والصيد، ثم يقضي ثلاثة أيام متواصلة في الفراش مع معاناة رهيبة من الصداع الحاد والقيء، إلا أنه كان مقتنعًا بأن هناك - وما يزال - مخرجًا للثقافة والإنسانية، وهو أن يواصل رحلةَ تفسُّخ الحضارة الحديثة حتى القاع، أن ينزل إلى «الأعماق»، أعماق اللامعنى والعدمية، الأمل الأخير للإنسانية، معلَّق الآن على أعداء القيم التقليدية - «أولئك الذين يجدفون على الله (اللاأخلاقيِّين، البدو من كل نوع، الفنانين، الموسيقيين) - في القاع، كل الطبقات غير المحترمة من البشر … نحن اللاأخلاقيين أقوى قوة اليوم.» العدمي واللاأخلاقي يخترقان الواجهة الزائفة للخير والشر، «الكفر الكامل مثال لأعلى درجة من الضعف … إلى هذا المدى، العدمية كنكران لعالم صادق للوجود، قد تكون طريقًا مقدسًا للتفكير.»٧٧ 

ثم يُشرق فجر جديد كما أوضح «نيتشة» في أشهر كتبه وعمله الروائي الوحيد: «هكذا تكلم زرادشت»، وبينما كانت كتب «نيتشة» الأخرى نتاجَ صراع، وتعبيرًا معذبًا عن الذات، كان «زرادشت» عملًا ملهمًا بمعنى الكلمة، كتبه بسرعة لا تُصدَّق، انتهى من كلٍّ من الأجزاء الثلاثة الأولى في عشرة أيام فقط في سنة ١٨٨١م، (الجزء الرابع والخاتمة أنجزهما بعد ذلك بعام)، والكتاب أمثولةٌ للبشرية في نهاية الحضارة الحديثة، ومثلما كشفت «رباعية الخاتم» عند «فاجنر» موت عالم تحكمه الآلهة، وبداية عالم يحكمه البشر، يصف «نيتشة» هنا موت «الإنسان الأخير»، الإنسان الغربي.٧٨⋆

اختار «نيتشة» النبي الفارسي القديم «زرادشت» كشخصية رئيسة، «زرادشت» نادَى بأن الكون مقسَّم إلى نور وظلام، حياة وموت، وهو بالنسبة لتفكير «نيتشة» رمزٌ على حيوية الدين الآري القديم، وهو في القصة «نيتشة» نفسه، (مثل نيتشة بعد عشر سنوات من زياراته لفاجنر في تریبشين)، يعود «زرادشت» إلى عالم البشر ليُعلن أنَّ «الله مات»، العقل والعلم قتلاه، الثقافة الحديثة تعتمد على قلب من الكفر … غيبة الإيمان، فقدان الإنسان الحديث للإيمان حطَّم طاقته على التقييم وقدرته على خلق قيم جديدة لتحلَّ محلَّ أسطورة المسيحية الميتة، في رحلته يقابل «زرادشت» الإنسان الأخير، المنتج النهائي الفظيع لمجتمع برجوازي متعفن، حشرة، مقارنة بأسلافه، «جنسه متعذر استئصاله، إلا أنه بفضل سيطرته على عالم المادة ومبدأ التقدم فإن الإنسان الأخير يعيش أطول»، «زرادشت» يأتي إلى ساحة السوق، رمز تفاهة الإنسان الحديث وقيمه الجوفاء، «حيث كل واحد يريد الشيء نفسه، كل واحد هو مثل الآخر نفسه، أما مَن يريد شيئًا مختلفًا فليس أمامه سوى مستشفى المجانين».

ورغم أنَّ الإنسان الأخير يزعم أنَّ الإنسان الحديث «اخترع السعادة»، فإن ما فعله في الواقع هو أنه دمَّرها عن طريق استبعاد ونفي إرادة القوة: البذل والإبداع والمجاهدة. إنه مجتمع «بلا راعٍ … وقطيع واحد»٧٩ «زرادشت» كذلك يلتقي بآبائه (المجازيين) السابقين، مثل «شوبنهاور» و«فاجنر» كنماذج ثقافية، الساحر «فاجنر» يلجأ في البداية لزرادشت طلبًا للمساعدة، ثم بعد ذلك يدَّعي أنه في همٍّ وحزن. «كُفَّ عن ذلك أيها الممثل، أيها المزيف، أيها الكذاب القادم من الحضيض.» يصرخ فيه «زرادشت» مستعيدًا وصفَ «نيتشة» ﻟ «فاجنر» بأنه «ممثل في المكان الخطأ».٨٠ بعد ذلك يعترف الساحر بأنه أيضًا في انتظار «زرادشت» ليقول له كيف يعيش في عالم بدون إله، بدون حقائق أخلاقية مؤكدة.

العرَّاف «شوبنهاور» يبشِّر بعقيدة «السأم العظيم»، يرتِّل «الكل يريد الشيء نفسه، لا شيء يستحق، العالم بلا معنى، والمعرفة خانقة.» والحقيقة أنَّ عدميته لها ما يُبررها في المجتمع الحديث «أصبح العالم صغيرًا … الإنسان الأخير يجعله صغيرًا»، إلا أنَّ ذلك كله على وشك أن ينتهيَ … «زرادشت» يأتي بأخبار عن نهاية الإنسان الأخير وميلاد الإنسان الأرقى Übermensch. إنَّ شعار الإنسان الأخير هو «لا يوجد إنسان أرقى … كلنا سواسية أمام الله»، ولكن «زرادشت» الآن يمكن أن يُخبرهم بالحقيقة المرعبة، «أمام الله؟! ولكن «ذلك» الله قد مات!» «الأخلاق دمَّرت كلَّ إيمان بمبادئها، وما كان ذات يوم مصدر يأس، أصبح اليوم مصدر خلاص، أيها البشر الكبار، ذلك الله كان الخطر الأعظم عليكم … ومنذ أن رقد في قبره … بُعثتم … الآن فقط طلع النهار، الآن فقط أصبح الإنسان الأرقى سيدًا.»٨١

الإنسان الأرقى هو «الأرقى» بمعنى أنه قد تغلَّب في داخله على تلك الصفات التي تجعله مكبَّلًا بالزمن، تجعله جزءًا لا حول له ولا قوة من مدِّ وجزر التاريخ، و«الحيوانية» الموصوفة بمثل هذا الاشمئزاز في المقالات الأولى ﻟ «نيتشة».

الإنسان الأرقى ينتصر على الحضارة المتفسِّخة، ليس بالمعنى الفيزيايقي الذي هزم به «الآريون» العصور القديمة، وإنما بالمعنى النفسي والثقافي. لقد هزم فوضى عواطفه كما كان «نيتشة» يقول عن «جوته»: «لقد ضبط نفسه على الكمال … خلق نفسه»، إنه يخلق قِيَمه الخاصة، أخلاقه الأساسية الخاصة؛ حيث إنَّ أخلاق العالم تُصبح غشًّا، هو الإنسان الكامل، روح أصبحت حرة.٨٢ وفوق كل شيء، فإن الإنسان الأرقى قد حرَّر نفسه من قيود والتزامات المجتمع المدني؛ حيث أدرك أنها من نتائج التاريخ، وبالتالي فلا معنى لها … وهي فارغة … الإنسان الأرقى يُدرك أنَّ التاريخ ليس له معنًى أكبر؛ لأنه محكوم بقانون التواتر اللانهائي. التغيُّر الوحيد الذي له معنًى في المجتمع الإنساني هو التحرك من الحيوية، من وفرة إرادة القوة والطاقة إلى التفسُّخ وانحسار تلك الطاقة. وحيث إنَّ مجمل الطاقة في الكون يظلُّ دائمًا كما هو، فإن «نيتشة» يُصرُّ على أنَّ الحركة لا بد أن تكون دائرية، قانون «التواتر اللانهائي» هو صيغة «نيتشة» الحيوية من «دائرة الهلاك» اليونانية. معناها أنَّ كل الأحداث تتكرَّر إلى ما لانهاية، أن لا خطةَ ولا هدفَ هناك ليُعطيَ معنًى للحياة أو للتاريخ … التواتر اللانهائي هو خلاصة: «حكاية يرويها أبله، مليئة بالصوت والغضب، لا تدلُّ على شيء»، والإنسان الأرقى الحقيقي، قد روَّض نفسه على هذه الحقيقة الجرداء.

يقول «زرادشت»: «أعود ثانيةً مع هذه الشمس، هذه الأرض، هذا النسر، هذه الحيَّة … لا إلى حياة جديدة … حياة أفضل، أو حياة مشابهة. أعود إلى هذه الحياة نفسها …» «حيث إنه ليس هناك هدف نهائي فإن خيار الفرد فقط هو المهم.» «عِشْ (هكذا) لكي ترغب في أن تعيش ثانية …»٨٣

ويقول زرادشت: «حانت ساعتي … هذا صباحي … هذا يومي يُشرق … ابزغ.

الآن … ابزغ … أيها النهار العظيم.»

لقد نمت … نمت …

أفقت من حلم عميق …

العالم عميق … أعمق مما تخيل النهار …

في خريف ١٨٨٨م كتب «نيتشة» إلى أحد مراسليه: «هذا هو موسم حصادي العظيم»، «بالنسبة لقضايا التفسُّخ، أنا أعلى محكمة استئناف.» في ذلك الصيف، انتقل إلى «تورین» في إيطاليا «ضاحية ومدينة رحيمة»، كان المدينة التي مات فيها «جوبينو» قبل ست سنوات كما كان «نيتشة» يعرف (سأل الناس عن المنزل الذي كان يعيش فيه «جوبينو» قبل وفاته)،٨٤ مع الهجمة الأخيرة لمرضه كانت قبضة «نيتشة» على الحقيقة تضعف، في عمله الأخير المنشور: «عدو المسيح»، أخذ هجومُه على المسيحية شأوًا بعيدًا، كان يسمِّيها «وصمة البشرية الخالدة»، «جعلت من كل قيمة لا قيمة، ومن كل صدق كذبًا.» أعلن أنه هو نفسه عدوُّ المسيح؛ «حيث إنَّ الإله القديم قد مُحِيَ، فأنا جاهز الآن لكي أحكم العالم.»٨٥

في ١٥ مايو ١٨٨٨م احتفل «نيتشة» بعيد ميلاده الخامس والأربعين، «لم تكن هناك في التاريخ لحظة أكثر أهمية … الناس جميعًا ينظرون إليَّ كأنني أمير … هناك تميُّز ما في فتح الأبواب لي … وإعداد الموائد.» والحقيقة أنَّ إقامته في «تورين» كانت عزلةً شديدة، كان يجلس وحده بالساعات في ردهة المنزل الذي يُقيم فيه يعزف على البيانو، وكان معظم ما يلعبه من موسيقى «فاجنر»، كما تقول ابنة صاحب المنزل.٨٦ في طريق رحلته الفكرية الطويلة المعذَّبة، انحرف «نيتشة» بشكل كبير عن طريق اثنين من معلِّميه: «فاجنر» و«شوبنهاور»، ولكنه لم يقطع صلته أبدًا بالأب المعلم «جاكوب بوركهارت»، كان مستمرًّا في إرسالِ نُسَخٍ من كُتُبِه إليه حتى النهاية، حتى عندما كان «بوركهارت» قد أصبح لا يستطيع أن يعترف أو يعرف صديقه الشاب في الفلسفة العدمية التي اعتنقها. مع آخر عمل له «قضية فاجنر»، كتب إليه في الإهداء … وبنغمة مثيرة للشفقة: «كلمة واحدة منك كفيلة بأن تُسعدني»، ولكن «بوركهارت» وجد أنه لا يمكنه أن يردَّ عليه.

 في آخر خطاب من «نيتشة» إلى «بوركهارت»، كتبه بعد انهياره العقلي الأخير في يناير ١٨٨٩م، يعترف: «أنت أعظم عظماء معلِّمينا.»٨٧ شبحُ «نيتشة» يخيِّم على تاريخ فكر القرن العشرين، إنه نبيُّ «التشاؤمية الثقافية» العظيم، وبمعنًى مهمٍّ فإن تشاؤمَه ينبع من نظرة «بوركهارت» الباكرة لمصير الحضارة الحديثة. التشاؤمية التاريخية عند «بوركهارت» نابعةٌ من نظرة إلى المجتمع وَرِثها عن «رانكه»، نظرة ترى المجتمع كيانًا عضويًّا كاملًا لا بد من أن يُواجه الاضمحلال والموت في النهاية مثل كلِّ كائن حي. وعندما واجهَته القُوى الجديدة غير المألوفة للقرن التاسع عشر، (الديمقراطية، الرأسمالية الصناعية، اتساع وقسوة الدولة-الأمة)، استنتج «بوركهارت» أنَّ ذلك كله كان بمثابة الانهيار لتوافق اجتماعي مختلف حتى ولو كانت طبيعتُه ما تزال غامضةً ومن الصعب التنبُّؤ بها، كان مجردَ نذير بالفوضى المستقبلية، المتشائم التاريخي يرى أنَّ الحاضر المتفسِّخ أو الفاسد يقوم بتخريب وتفكيك إنجازات الماضي على نحوٍ منظَّم، المتشائم الثقافي النيتشوي يرى أنَّ الحاضر مجردُ امتداد لقِيَم الماضي الفاسدة التي لا معنًى لها في ذاتها، ويقول إنَّ الصحة الثقافية الحقة تتطلب رفضَ الاثنين معًا، الانهيار الوشيك لحضارة متفسِّخة ليس مأساة، وإنما هو مدعاة للاحتفال والاحتفاء، إنه يفسح الطريقَ لشيء جديد غير مسبوق، لنظام ثقافي متجدِّد مشيَّد على مبدأ جديد تمامًا، المبدأ الجديد يمكن أن يكون عِرقيًّا، وبعد كل شيء فإن فلسفة «نيتشة» انطلقَت من الافتراضات الحيوية ذاتها كما كانت عند «جوبينو»، كلاهما يقول إنَّ كل حضارة تعتمد على مخزون من قوة الحياة العضوية لوجودها، أو: إرادة القوة.

ولكن التأثير الحاسم ﻟ «نيتشة» لن يكون على المفكرين العرقيِّين، وإنما على نقَّاد الثقافة والفنانين. سوف يُلهمهم لكي يفكِّروا في أنفسهم كقوةٍ مضادة لنظام اجتماعي متفسِّخ. الفنان الحديث لم يدَّعِ أنه مُخلِّص المجتمع الحديث أو منقذه (كان الشاعر «بیرسي بوشي شیللي» يُسمِّي الشعراء ﺑ مُشَرِّعي المستقبل للبشرية)، حيث لا يوجد شيء يستحق الإنقاذ، بل إنَّ «نيتشة» على العكس من ذلك، كان يشجِّع فكرةَ أنَّ الهجوم على التراث الثقافي والأخلاقي الغربيَّين، كان في ذاته تعبيرًا عن الصحة والتجدُّد.

كان المفهوم النقدي، في نظر «نيتشة» هو المرحلة الأولى في «إعادة تقييم كل القيم».٨٨ الناقد المعادي للمؤسسة، الفنان، و«اللاأخلاقي» - من «بیكاسو» و«برتولد برخت» إلى مسدسات الجنس، و«مادونا» - يشكِّلون أرستقراطية حيوية جديدة في الفراغ الثقافي الجديد، لا أحد منهم على أيِّ حال، يأمل أن يجد له موضعَ قدمٍ لو لم يكن المتشائم التاريخي قد أعلن عن وفاة التراث القديم، أو على الأقل أنه في حالة احتضار، وكمعلِّم ﻟ «نيتشة»، كان «بوركهارت» قد تنبَّأ بظهور الإنسان الأخير قبل «نيتشة» بعقدَين تقريبًا، ومثل «نيتشة» ومَن جاء بعده من المتشائمين الثقافيِّين، كان «بوركهارت» يرى الديمقراطية «قبولًا ملفقًا»، والجماهير مجرد أدوات لمصالح أكثر قوة مثل المؤسسات الصناعية والدكتاتوريات العسكرية. ولم يطرأ على تفكير «بوركهارت» أبدًا إمكانية أن تكون المشاركة الشعبية والوفرة المادية المتنامية بمثابة عائق في طريقِ نموِّ الدولة٨٩ الشمولية، وبدلًا من ذلك كان يقول: «أعرف التاريخ بما فيه الكفاية، ولدرجة تجعلني لا أتوقَّع من استبداد الجماهير سوى الطغيان الذي سيكون نهاية التاريخ.» فلسفة «نيتشة» كانت تُدين بأسًى نفسَ توجُّهات القرن التاسع عشر التي كان «بوركهارت» يُدينها، مثل القومية والرأسمالية الصناعية، ونموِّ الثقافة الجماهيرية، ولكن على العكس من ذلك، فإن فلسفة «نيتشة» عن إرادة القوة وأخلاق السادة كانت تبدو ﻟ «بوركهارت» مشيرةً إلى الاتجاه نفسه بالتحديد، أي نحو الوحشية والاستبداد، تحريف «نيتشة» لقول «بوركهارت» إنَّ «السلطة شرٌّ بطبيعتها»، إلى عقيدة إيجابية أصابه بالفزع، كان «نيتشة» يقول إنَّ مصير الحضارة يعتمد على قوًى حيوية موجودة «بمعزل عن الخير والشر» Jenseits von Gut und Bôse، وكان «بوركهارت» ما زال يؤمن مثل «توكفيل» بضرورة القيود والقواعد الاجتماعية، وبحاجة البشر إلى ضمير وشعور بالتحفُّظ الأخلاقي والإرادة الحرة.

ومع ذلك فإن «بوركهارت» لم يستطع إلا أن يُوصيَ بالانسحاب، في مواجهة ما كان يراه اتجاهًا بغيضًا للحداثة. كان «بوركهارت» يحيا في جامعته حياةً لا تعكِّر صفوَها أحداثٌ أو مؤثرات اجتماعية من أيِّ نوع، حياة هادئة، محاطًا بطلاب العلم والفن والموسيقى والجمال، إلا أنه كان قلقًا بشأن التطورات التي تحدث وراء بابه، والتي كان يشعر بأنه لا يملك شيئًا حيالها، وكما اعترف لأحد أصدقائه: «أقول لنفسي كل يوم تقريبًا إنَّ ذلك يمكن أن ينتهيَ في ظرف ساعة من الزمن.» كان أمله الوحيد أنه في يوم ما من المستقبل البعيد، قد يكتشف البشر الثقافة الإنسانية لأوروبا القديمة مرَّة أخرى، المكان الذي «تنبع منه كلُّ المكونات الثرية، مكان جميع التناقضات، حيث تجد كلُّ فكرة صوتًا وتعبيرًا.»٩٠

* مقتطف من كتاب (فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي) لمؤلفه آرثر هيرمان وترجمة طلعت الشايب-المصدر: مؤسسة هنداوي

...........................................

٦٠ Quoted in the Introduction to Nietzsche, Untimely Mediations, pp. xxvi-xxvii.

٦١ Burckhardt, Letters, pp. 187; 186. How much of Nietzsche’s collapsing health was due to physiological causes, including syphilis, as some historians have claimed, and how much to psychological ones, such as the loss of faith in his hero, Richard Wagner: The evidence for this theory to presented in Gregor-Dellin, Wagner, pp. 451–55.

٦٢ Nietzsche, “On the Uses and Disadvantages of History for Life,” in Untimely Meditations, p. 84; Nictzsche, Case of Wagner, pp. 170, 179.

٦٣ Letter of 13 September 1883 in Burckhardt, Letters, p. 209.

٦٤ Nietzsche, Ecce Homo, p. 290.

٦٥ Schacht, Nietzsche, p. 220.

٦٦ Nietzsche, Will to Power, p. 450.

٦٧ Nietzsche, The Anti-Christ, p. 127.

٦٨ Nietzsche, Will to Power, p. 30.

٦٩ Nietzsche, Beyond Good and Evil, pp. 201-02.

٧٠ CF. Boisseul, Comte de Gobineau, p. 259: W. D. Williams, in Nietzsche and the French (Oxford, 1952), p. 140, stresses the influence of The Renaissance. Nietzeche’s sister, Elisabeth Förster-Nietzsche, also mentions her brother’s interest in Gobineau in her Life of Nietzsche, Vol. 2, pp. 382-83. Of course, Elisabeth’s testimony regarding her brother’s intellectual preferences are not always to be taken at face value, and the fact that Nietzsche does not mention Gobineau in any of his published works has led others to doubt Gobineau’s role in Nietzsche’s thinking (e.g., Kaufmann, Nietzsche, p. 296, n. 97). Nonetheless, it is interesting that while Nietzsche accepted the Aryan Indo-European theory of civilization, he deliberately distanced himself from any notion of Aryan-Teuton equivalence-which suggests his source was Gobineau himself, rather than his German nationalist followers.

٧١ Nietzsche, Beyond Good and Evil, pp. 41, 203.

٧٢ Ibid., pp. 204, 205.

٧٣ Nietzsche, Genealogy of Morals, p. 33.

٧٤ Cf. Nietzsche, Genealogy of Morals, pp. 30-31; Beyond Good and Evil, p. 209.

٧٥ Nietzsche, Twilight of the Idols, trans. R. Hollingdale, p. 58; Gay Science, Aphorism 130 (on Nietzsche’s hatred of racial anti-Semitism, see Kaufmann, Nietzsche, pp. 42–46; Will to Power, pp. 22-23.

٧٦ Nietzsche, Genealogy of Morals, pp. 44; 36. The reference to Chinese is again significant, since it closely follows Gobineau’s observation in The Inequality of Human Races that the Chinese constitute the perfect middle class.

٧٧ Nietzsche, Will to Power, pp. 14-15.

٧٨ ⋆التشابه مثيرٌ بين خاتم «فاجنر» و«زرادشت» نيتشة، وهناك من الأسباب ما يجعلنا نصدِّق أن «نيتشة» كان يتمنى أن يكون كتابُه مادةً لعرض طقسي سنوي مع موسيقى ومناظر في أحد المواقع المقدسة مثل «بايرث» فاجنر.

٧٩ Nietzsche, Thus Spake Zarathustra, p. 18.

٨٠ Ibid., p. 255.

٨١ Ibid., p. 286.

٨٢ Nietzsche, Twilight of the Idols, quoted in Kaufmann, Nietzsche, p. 316.

٨٣ Danto, “Eternal Recurrence,” in Solomon, ed., Nietzsche, pp. 316–21; Kaufmann, Nietzsche, p. 327; Gay Science, Aphorism 341.

٨٤ Cf. Förster-Nietzsche, Life of Nietzsche, Vol. 2, pp. 382-83; Verrecchia, La Catastrofe di Nietzsche a Torino, pp. 60-61.

٨٥ Nietzsche, The Anti-Christ, trans. R. Hollingdale, pp. 186-87; Ecce Homo, p. 344.

٨٦ Hayman, Nietzsche: A Life, pp. 302–04.

٨٧ Ibid., p. 326: Selected Letters of Friedrich Nietzsche, ed., C. Middleton (Chicago, 1969), pp. 345–47.

٨٨ Nietzsche, Will to Power, pp. 1, 71: 14-15.

٨٩ Burckhardt, Letters, p. 209.

٩٠ Quoted in Trevor-Roper, Introduction, On History and Historians, p. xx.

اضف تعليق