حيوية وقيمة حضارة ما، تعتمدان بالكلية على قدرة تلك الحضارة على توليد أشكال السلطة والسيطرة الضرورية، التي تميل الاعتبارات الأخلاقية الحساسة (سريعة التقلب) أو المفرطة في الاحتشام إلى تعويقها، والإخفاق في اتباع إملاءات القوة سواء بالاحتفاظ بهوية المرء العِرقية أو قتل عدو مأسور، يعني أن الأسس...
عندما ظهر «فصل المقال» كان ردُّ الفعل هو اللامبالاة التامة، أو هكذا كان الأمر يبدو بالنسبة ﻟ«جوبينو»، وقد روَّعه كثيرًا فشلُ الكتاب في أن يُثير عاصفةً من الجدل حوله. علماء الأنثروبولوجيا الفرنسيون وأصحاب النظريات العِرقية كانوا فاتري الحماس إلى حدٍّ بعيد، وربما كانوا معادين لطرح «جوبينو». والأكثر مدعاةً للارتباك، هو أنَّ المؤلفين الذين كانوا مصادره الرئيسة بمن فيهم «کاروس»، و«أوجست بوت»، أدانوا عمله واعتبروه قاصرًا وتحت العنوان الخطأ.٤٦ ومن ناحية أخرى، كان «جوبينو» يرفض تلك الانتقادات ويعتبرها متوقعةً، وأنه يمكن التنبُّؤ بها. فقد أخبر أحد أصدقائه المقرَّبين: «لم يَدُر بخلدي قط أنني يمكن أن أقول للناس اليوم: أنتم في حالة تفسُّخ تام، وحضارتكم مستنقع، وذكاؤكم مصباح ذابل، ودخان من غير نار، وأنكم في منتصف الطريق نحو القبر… دون أن أتوقَّع منهم بعضَ الاعتراض.»٤٧
ولكن حيث إنَّ الكتاب لم يحقِّق انتشارًا على مستوى القراءة في فرنسا، ولم يحقِّق له شهرةً كفيلسوف أو مؤرِّخ كبير، فقد أصابه ذلك بخيبة أمل أيضًا. كان «جوبينو» يعتقد أنَّ «فصل المقال» كان عملًا من أعمال العلم الدقيق، بوصفه شيئًا ثوريًّا مثل اكتشاف «كوبرنيكوس» أنَّ الشمس وليست الأرض هي مركز المنظومة الشمسية، وأنه قد أرسى إلى الأبد المبادئ العِرقية التي يعتمد عليها التاريخُ كلُّه، والتي قد تدفع الناس الآن لإعادة النظر في كل ما عرفوه أو تصوروا أنهم عرفوه عن قيام وسقوط الحضارات. كتب: «نحن في حاجة لأن نُدخل التاريخ في الطبيعي من العلوم الطبيعية، ونعطيه كلَّ الدقة العلمية لهذا النوع من المعرفة.» والشبه بين «جوبينو»، و«کارل مارکس» الذي كان يكدح في المتحف البريطاني في ذلك الوقت وهو يكتب المسودة الأولى من «رأس المال» تشابهٌ مثير: «لو أنَّ للتاريخ أيَّ قيمة، فلا بد أن تكون هي قيمته كعلم؛ بسبب قدرته على التنبُّؤ بالأحداث إلى جانب تحليلها.»٤٨ على أن تلك المزاعم بقدرة التاريخ على التنبُّؤ والإحاطة بكل شيء، لم تترك انطباعًا قويًّا لدى ظهير «جوبينو» السابق وراعيه «ألكس دو توكفيل». كان «توكفيل» نتاج تراث ديمقراطي ونظرة مختلفة تمامًا عن تلك التي لدى «جوبينو». كانت عائلته من طبقة النبلاء النورماندية القديمة. آل «توكفيل» يعود نسبُهم إلى القرن الثاني عشر، خدموا العرش الفرنسي بالسيف لمدة تربو على سبعمائة عام. لم يكن الوسط الذي نشأ فيه «ألكسيز دو توكفيل» وسط ادعاءات فقيرة أو ذكريات أليمة، كان وسط مسئوليات عملية وواجبات مدينية.٤٩ في الأمور السياسية، كان «توكفيل» ليبراليًّا، ولكن ليبراليته - مثل والده - كانت مخفَّفة باحترامٍ للتقاليد والعادات، وبها مسحة من «أدموند بيرك». كتابه «الديمقراطية في أمريكا» ١٨٣٥م كان يناقش فكرةَ أنه: بالرغم من أن قُوَى التغيُّر الاجتماعي والاقتصادي قد تكون مدمرة، إلا أنَّه من الممكن الاحتفاظ بأفضل ما في الماضي؛ وذلك من خلال الانتباه الواعي والإصلاح. والحقيقة أن «توكفيل» توصَّل إلى أنَّ المجتمع الحر بحق، يحتاج الأمرين معًا. وعلى العكس من رومانسية «جوبينو» المفرطة في الذاتية وتصوير الذات، كانت إطلالة توكفيل - بالتأكيد - مثل نظرة التنوير: عقلانية… شكوكية… ساخرة أحيانًا، إلا أنها مليئة بالأمل في المستقبل. وكما كتب إلى «جوبينو» بعد ذلك بسنوات: «نعم! أحيانًا يُصيبني اليأس من البشرية… ومَن منَّا لا يصيبه ذلك! وكنت أقول دائمًا إنه قد بات من الصعب علينا أن نحافظ على الحرية في مجتمعاتنا الديمقراطية الحديثة. كان الأمر أسهل من ذلك بكثير في مجتمعات أرستقراطية معينة في الماضي، ولكنني لن أجرؤَ على الاعتقاد في استحالة ذلك.»٥٠ وأرسل إليه «جوبينو» نسخةً من «فصل المقال»، رغم أنه كان يعرف حتمًا صعوبةَ أن يكون هناك أيُّ ردٍّ مشجع، وكما قال «توكفيل»: «عالم كامل يفصل بين معتقداتنا.» وكان ذلك أكثرَ صدقًا مما يعرف؛ فالمقال وردُّ «توكفيل» عليه يمثِّلان خطًّا فاصلًا في الروح الأوروبية بين تراث التنوير وليبراليته العقلانية التي صارت الآن في موضع الدفاع، ونظرة جديدة سوف يلعب فيها تشاؤم «جوبينو» العِرقي دورًا يتزايد في أهميته. كان نفور «توكفيل» شديدًا قبل كل شيء، من منظور «جوبينو» العِرقي، والذي كان يراه بحقٍّ رفضًا وإنكارًا لفكرة سواسية البشر جميعًا أمام الله. كان «توكفيل» يفهم - أيضًا - أنَّ الإيمان بتفوُّق عِرقي كان نتيجة وليس سببًا، لظروف تاريخية محدَّدة. «أنا واثق من أن يوليوس قيصر لو تيسَّر له الوقت، لكتب كتابًا يُثبت فيه أن الهمج الذين التقاهم في بريطانيا لا ينتمون إلى نفس الجنس مثل الرومان، وأنَّ الرومان كان مقدَّرًا لهم بالطبيعة، أن يحكموا العالم، بينما كان الهمج مقدَّرًا لهم أن يقبعوا في إحدى زواياه.»٥١
وبعد ألفَي عام، حدث العكس بالطبع، حيث كانت إنجلترا الصناعية متسيِّدة على القارة الأوروبية… بالإضافة إلى معظم العالم. ثم كانت بعد ذلك قضية تشاؤمية «جوبينو» المحمَّلة بالهلاك. «توكفيل» كان يُقلقه أن شعورًا باليأس من مستقبل الحضارة، وخاصة بعد اندفاعة ١٨٤٨م، يمكن أن يُصبح نبوءةَ تحقيق للذات. وكان يعترف بأنه ربما كان لدى القرن السابق إيمانٌ وثقة بالتقدم أكثر مما ينبغي. الآن وعلى أية حال، فإن إخفاقات الحملة الفرنسية وأحداث ١٨٤٨م «قد أوصلَتنا إلى أقصى الطرف الآخر، وبعد أن كان لدينا اعتدادٌ بالنفس زائد عن الحد، أصبح شعورنا برثاء الذات هو الزائد عن الحد، كنَّا نعتقد أننا يمكن أن نفعل كل شيء، والآن نعتقد أننا لا نستطيع أن نفعل أيَّ شيء.» كما نبَّه إلى أنَّ «التشاؤم قد أصبح علَّة عصرنا الكبرى.» وكان «توكفيل» يعتقد أن «جوبينو» بإعلانه أن تدهور أوروبا كان مقدَّرًا لأسباب عِرقية، فإنه (أي جوبينو) يقوم بتشجيع حتمية تقوض طاقة الثقة وإرادة الإنجاز. يقول «توكفيل»: «لو جاء طبيبي ذات صباح ليقول: من الأمانة أن أُخبرك بأن حالتك الصحية ميئوس منها، وأن لا أمل من أي نوع في شفائك، فلن يكون أمامي سوى أن أضعَ رأسي تحت الغطاء… وأستعد للحياة الأبدية…»٥٢ إلا أنَّ «الجبرية المتحجِّرة» كانت هي الجانب الذي أزعج «توكفيل» أكثر من غيره في مقال «جوبينو»، تلك الحتمية العِرقية التي تلغي الحرية الإنسانية. الأفراد لهم مكانةٌ ضئيلة في المقال، مقارنةً ﺑ «القوانين الثابتة» لتاريخ العِرق، والطبيعة البهيمة التي تقتادهم «كالعبيد العميان» وتُملي عليهم اختياراتهم، وحسب صيغة «جوبينو» فإن الحياة العضوية لمجتمع أو حضارة ما، تقف بمعزلٍ تامٍّ عن البشر الذين يصنعون ذلك المجتمع أو تلك الحضارة. ليس للأفراد أيُّ دور واعٍ، سواء في صنع المجتمع أو الحفاظ عليه.٥٣
وحيث إنَّ الإنسان لا حول له ولا قوة في مشروع «جوبينو»، فهو كذلك ليس مسئولًا عن الكارثة حتمية الحدوث، «جوبينو» يستنتج أن «لا شيء هناك» في مصير حضارته يمكن أن يكون مسئولًا عنه… لأنه لا يوجد شيء يمكن أن يفعله. والافتراضان روَّعَا «توكفيل»، فكان يقول: «المجتمعات الإنسانية عندي مثل الأشخاص، تُصبح شيئًا له قيمة من خلال استخدام حريتها… فقط.» فالهبة العظمى للمجتمع المتحضِّر هي الحرية، الحرية بمعنى المسئولية الأخلاقية للفرد عما يحدث له مثلما يحدث للآخرين. أما «جوبینو» فقد ألغى تلك الحريةَ بضربة واحدة… من الحتمية البيولوجية. والحقيقة أن «توكفيل» كان يشعر بأن «جوبينو» قد ألغى الحرية الفردية؛ لأنه كان يخاف منها على نحوٍ عميق. وكان ردُّ فعل «جوبينو» حادًّا… فكتب:
«أنا لا أقول للناس «إنكم أبرياء»، أو «مذنبون»، أنا أقول لهم إنكم «تموتون»، ما أقوله هو أنكم قد أضعتم شبابكم وأنكم الآن تقتربون من سنِّ الاضمحلال… شيِّدوا الممالك، الإمارات، الجمهوريات، ما يحلو لكم… قد تكون تلك أشياء ممكنة، وقد تكون حتمية… ولكن في الحساب الختامي فإن أسباب وهنكم تتجمع، ولن يحلَّ محلَّكم في العالم أحدٌ بعد تفسُّخكم وتحلُّلكم…»
ويُضيف… «إن كنت مخطئًا فلن يبقى شيء من كتبي الأربعة، وإن كنت محقًّا فلن يقمع الواقعَ رغباتُ أولئك الذين لا يريدون أن يواجهوه.»٥٤
لم تكن لدى «جوبينو» رغبة في تغيير العالم، مقاله وأعماله التالية تبقى في صميمها أعمالًا من أعمال التمرُّد الرومانسي، هي علاماتُ احتجاجٍ وتحدٍّ موجَّهة ضد ما كان يراه نظامًا اجتماعيًّا مرفوضًا، تسيطر عليه البرجوازية.
إلا أنَّ «جوبينو» قد وضع تمييزًا حادًّا وقاتلًا في نظر «توكفيل»، بين القابلية الاجتماعية للبشر والقوى النفسية الجمعية التي قادَتهم لصنع حضارات عظمى، وبين «الصفات التي تجعل الحقائق الأخلاقية فعَّالة»، الأمانة، النزاهة، التراحم، الوعي الأخلاقي بالصواب والخطأ. القابلية الاجتماعية عند «جوبینو» تعتمد على القوة الحيوية النابعة من الدم والعرق. ومن جهة أخرى، فإن الصفات الأخلاقية اعتباطية وغير أصيلة، ويمكن الاستغناء عنها في النهاية. في نظام «جوبينو» للأشياء، لا علاقة لموقف الإنسان الأخلاقي بعملية التاريخ الأكبر.
كتب «جوبينو»: «المجتمع أو الحضارة، لا يحمل أخلاقيات من أي نوع فهو ليس فاضلًا ولا شريرًا، هو موجود فقط.» لم يكن «جوبينو» مجرَّد ناكر لأي صلة بين السلوك العام الهادف وما تُمليه الأخلاقيات العادية، إلا أن «ميكيافيللي» كان قد قال بذلك قبل ثلاثمائة عام. كان يؤكد على أنَّ السلوك العام وممارسة القوة ليس لهما أيُّ مضمون أخلاقي من أي نوع، وأنهما من إملاء الدم والعرق والبيولوجيا. إن حيوية وقيمة حضارة ما، تعتمدان بالكلية على قدرة تلك الحضارة على توليد أشكال السلطة والسيطرة الضرورية، التي تميل الاعتبارات الأخلاقية الحساسة (سريعة التقلب) أو المفرطة في الاحتشام إلى تعويقها، والإخفاق في اتباع إملاءات القوة سواء بالاحتفاظ بهوية المرء العِرقية أو قتل عدو مأسور، يعني أن الأسس الحيوية للمجتمع قد تعفَّنت. المبادئ الأخلاقية هي نقيض الحيوية والإبداع، وهي ما سوف يُطلِق عليها «فردريك نيتشة»: «إرادة القوة». في كتابات «جوبینو» التالية وفي كتابه «النهضة» (۱۸۷۷) بخاصة، نجد أن القوة الإبداعية الحقيقية تُزيح قضايا الأخلاق دائمًا وتكنسها من طريقها. وكما يقول، فإن النهضة كانت الانتصار الأخير للأرستقراطية الآرية الأوروبية على قوى البرجوازية التي قامت ضدها، وكانت النتيجة انفجارًا سريعًا أخيرًا للحيوية، وليس في المجال الفني فقط. «مايكل أنجلو» Michelangelo، و«دافنشي» Davinci، و«رافائيل» Raphael، وإنما في السياسة متمثلة في «سيزار بورجيا» Cesare Borgia، «وميكيافيللي» Machiavelli كذلك.
البطل الثقافي عند «جوبينو» فاقد لحسِّ المسئولية الأخلاقية تمامًا. أما القيود والضوابط التقليدية سواء في الفن أو في الأخلاق فهي من أجل الضعاف والجبناء…
«ولتعلم إذن أن قوانين الحياة العادية معكوسة تمامًا بالنسبة لأولئك الذين اختارهم القدَر لكي يُهيمنوا على الآخرين. الخير والشر ارتفعَا إلى منطقة أخرى أعلى… إلى مستوى آخر… دَعِ الكسل والتردد للعقول الصغيرة.»
بعد ذلك كتب «جوبينو» إلى «ريتشارد فاجنر» Richard Wagner يقول: «القوة هي كل شيء، هي المفتاح الرئيسي، إنها تدمِّر كلَّ ما في طريقها ولا تترك شيئًا وراءها.»٥٥ وهي «أبعد من الخير والشر» كما سيقول «نيتشة» فيما بعد.
مات «جوبينو» في «تورين» في ١٤ فبراير عام ۱۸۸۲م.٥٦⋆
كان توقُّع ذهاب الحضارة إلى الهاوية يبدو أنه أصاب «جوبينو» في نهاية حياته بنوع من المرض الرومانسي الخرافي يُسمَّى Schadenfreude، أو الاستبشار والفرح لمصائب الآخرين! قبل موته مباشرةً، كتب في مقدمة الطبعة الثانية من «فصل المقال…» «تيهور ضخم من الصينيِّين والسلاف مرقش بالتتار وجیرمان البلطيق سوف ينهار ليضع نهاية لكل الأفكار البلهاء، بل لكل حضارة أوروبا في الحقيقة… لقد تنبَّأت بهذه الظواهر الغريبة وكنت أتوقعها منذ سنوات، لكنني لا بد أن أعترف بأنني لم أتصوَّر أبدًا أن تحدث تلك الأشياء بهذه السرعة.»
«جوبينو» و«الجوبينوويون» الجدد في ألمانيا
أطلقت الهزيمة الساحقة لفرنسا في عام ۱۸۷۰م على يد الإمبراطورية الألمانية الجديدة والحرب الأهلية وكوميونة٥٧⋆ العام التالي، موجة من المخاوف بخصوص الاضمحلال القومي الفرنسي، وهي إن لم تكن مستمدةً مباشرة من «جوبينو»، إلا أنها جعلَته يبدو مصيبًا أكثر منه مخطئًا، ولكن أحدًا في فرنسا لم يعتبره أبدًا مُنظِّرًا عرقيًّا، أو ربط بين أيِّ منظورٍ محدَّد عنده وبين لغة الاضمحلال.
كانت جذور لغة الاضمحلال موجودة في مكان آخر، في ذلك النوع «العلمي» و«الوضعي» من النظرية العرقية الليبرالية التي كان «جوبينو» يُنكرها. وبالرغم من ذلك، فإن «جوبینو» الذي كان حزينًا لفشل مقاله عن لا تساوي الأجناس في فرنسا، كان يتوقَّع أن تكون الاستجابة في ألمانيا أفضل… وقد حدث. وكان نجاح «جوبينو» هناك يرجع إلى شخص واحد. أصبح «ريتشارد فاجنر» Richard Wagner مهتمًّا بأعمال «جوبینو» في سنة ١٨٧٦م، عندما كان يقوم بالتحضير لأول حفل يقيمه في «بايريث» Bayreuth، تقابلَا بعد ذلك بوقت قصير وسرعان ما أصبحَا صديقَين حميمَين. وصف «فاجنر» صديقه «جوبينو» لزوجته «كوسيما» Cosima ذات مرة بقوله: «إنه معاصري الحقيقي الوحيد.»٥٨ وبالرغم من أنَّ أفكار «جوبينو» العِرقية ظهرت في فترة متأخرة عن أن يكون لها أيُّ تأثير على أوبرا «فاجنر»، إلا أنَّ الموسيقار الكبير كان يلفت الأنظار ويروِّج بلا هوادة لنظريات الكونت الفرنسي بين حلقات الفنانين والموسيقيِّين والمثقفين الشبان في «بايريث».
اثنان على وجه التحديد، هما «لودفيج شيمان» Ludwig Schemann، و«هوستون ستيوارات تشمبرلين» Houston Stewart Chamberlain، سوف يتبنَّيان أفكار «جوبينو»، ويحوِّلانها إلى إنجيل سياسي من أجل ألمانيا جديدة ليكون مصاحبًا لإنجيل «الفاجنرية»٥٩⋆ الفني.
كان «لودفيج شيمان» في السابعة والثلاثين عندما قرأ كتاب «النهضة» لأول مرة، وأخذه هذا الكتاب إلى «فصل المقال»، الذي سيقول عنه للجميع بعد ذلك إنه غيَّر حياته، وقد تأثَّر على نحوٍ خاصٍّ بذلك التشابه بين أفكار «جوبينو» وأفكار أهم رموز الحركة الجيرمانية المغالية في القومية وهو «بول أنتون بوتشر» Paul Anton Böttcher، والذي كان «شيمان» وغيره يعرفونه باسمه المستعار - ذي النغمة الفرنسية - «بول دو لاجارد» Paul de Lagarde، والذي كانت أفكاره خليطًا مشوشًا من أفكار «هيردر» Herder، و«فيخته» Fichte، و«الأخوين جريم» Grimm، وفلسفة الحياة Lebensphilosophie الرومانسية الألمانية، والتي تركت تأثيرها على «جوبينو» كذلك. كتب يقول: «جوهر الإنسان ليس عقله، بل إرادته، والقوة الدافعة هي الحب.» كان يعتقد أن الأمة الألمانية لها إرادتها الخاصة للتعبير عن روحها الجمعية Seele. وفي حالة ألمانيا، كانت المادية تقوم بتدمير تلك الروح، جشع الطبقة الوسطى، التصنيع الذي يجتاح المنظر الطبيعي لوديان «الراين» و«الروهر». وعندما أصبحت ألمانيا أمةً موحَّدة وتحرَّكَت في المسار الحديث، كان «لاجارد» يحذِّر وينبِّه إلى أنَّ ألمانيا الحقيقية، المتجذِّرة في العادات والتقاليد الريفية للناس الحقيقيِّين مشرفة على الغرق. والنتيجة هي أزمة ثقافية يمكن أن تؤدِّيَ إلى حرمان الشعب الألماني من تراثه الفريد ومن هويته الفريدة. كانت رؤية «لاجارد» للمستقبل قاتمةً وكئيبة بالمعنى الرومانسي، بل حسب مفهوم «جوبينو». كتب في سنة ۱۸۸۱م يقول: «لقد أصبحنا وجهًا لوجه مع الإفلاس الروحي.» «سنغرق جميعًا في العدم.» كان «لاجارد» يعبِّر عن مرارة خلفاء الرومانسيِّين المحافظين «الألمان»، الذين كانوا يرَون التقدم حصان طروادة في مستقبل برجوازي لا روح له: الميكنة، المادية، الاشتراكية، الليبرالية… كلها نسيج واحد، أما السلامة الروحية الحقيقية فتعني الهرب من الآثار الخبيثة لذلك كله. كما كان «لاجارد» يرى أن الثقافة الألمانية الحقيقية واقعةٌ تحت هجوم مباشر من الليبراليِّين (بإصرارهم على الفردانية individualism على حساب التضامن الشعبي)، ومن اليهود، ومن الكنيسة الكاثوليكية، ومن رجال الصناعة، ومن مجموعة عوامل وعناصر أخرى «غير ألمانية».
كتب «لاجارد»: «في ألمانيا الجديدة هذه، ألمانيا القوية، الليبرالية، والتي ليست ألمانية بالمرة… نحن نعبد آلهةً أجنبية، وهذا هو سبب ما نحن فيه من خراب.»٦٠ وعلى الفور، أدرك «شيمان» أنَّ ما كان «لاجارد» وآخرون يحاولون تحديده بلغة ثقافية وقومية، كان «جوبينو» قد فَهِمه بلغةٍ عِرقيةٍ. كانت الروح القومية الألمانية عند «لاجارد» في الحقيقة، هي هويتها الآرية، تراث يعود قديمًا إلى غابات ومستنقعات أوروبا الشمالية وإسكاندينافيا الممتدة حتى المجتمعات الريفية وتقاليد الشعب الألماني. أصبح «شیمان» مهووسًا بالفكرة، وكما كتب فإنها كانت «أداةً لقوى عُليا»، ورغم أنه لم يلتقِ ﺑ «جوبینو» أبدًا، إلا أنه كتب قصة حياته في مجلدين (فعل الشيء نفسه عن «لاجارد» بعد ذلك)، وقام بتحرير مقالات الأرستقراطي الفرنسي غير المنشورة، وأنشأ «أرشيف جوبينو» في «ستراسبورج»، والذي يضم أكثرَ من ستة آلاف كتاب عن العرق ونظرياته. في سنة ١٨٩٤م اجتمع «شيمان» ومجموعة من المتحمِّسين للأفكار ذاتها في مقر إقامته بجامعة «ستراسبورج» ليؤسِّسوا «جمعية جوبينو» وليجمعوا الاشتراكات لإصدار ترجمة جديدة ﻟ «فصل المقال»، كما قدَّم أفكار «جوبينو» عن الآرية العِرقية لرابطة «كل ألمانيا»، وهي جماعة قومية يمينية ضاغطة، شرعَت في توزيع نسخ من «فصل المقال» على كل المكتبات الفرعية،٦١ ورغم أن «جمعية جوبينو» لم يتحقق لها حجم عضوية كبير، (في سنة ١٩١٤م كان عدد أعضائها الرسميِّين ٣٦٠ عضوًا) إلا أنها جذبَت انتباهَ السياسيِّين والمثقفين الألمان، كما أصبحت تُمارس نفوذًا متفاوتًا على المسائل الثقافية، إلى جانب أنها أعطت دفعةً عرقية جديدة للشعور القومي الألماني العام. «شيمان» و«الجوبينويون» الجدد، سيُعلنون أنَّ ألمانيا، وألمانيا وحدها، هي التي تقف ضد التفسُّخ والانحلال الثقافي والاجتماعي والعرقي لأوروبا الحديثة، وأنَّ الثقافة الشعبية الألمانية هي البقية الباقية للشعوب الهندو جيرمانية الآرية، وأنَّ الألمان هم الذرية والورثة الوحيدون. وكأعضاء في حلقة «بايريث»، كان «الجوبينويون» الجدد يعتبرون أوبرات «فاجنر»، و«مجموعة الجرس» Ring Cycle بخاصة، بعثًا جديدًا للأساطير الآرية الأصلية، وأصبحت «بايريث» مهرجانًا سنويًّا يشارك فيه الجيرمان الآريون ﺑ «طقوسهم البدائية»، ويعيدون اكتشاف أصول ثقافتهم Kultur، ويعودون إلى الصحة الروحية.٦٢ أصبحت قضية الاستعادة والتجدُّد حاسمةً بالنسبة «للجوبینوويين»، وعلى أيدي «شيمان» وخليفته المؤثر «هوستون ستيورات تشمبرلين» حصلت خرافةُ «جوبينو» على نهايتها السعيدة: الآريون الشقر، عريضو المناكب، الممتلئون بالحيوية… لا يضمحلون. إنهم يصبحون «التيوتون» Teutons، ذرية اليوم للقبائل الجيرمانية القديمة، ولكن الثقافة الحديثة ظلَّت في أزمة بالطبع. خوف «لاجارد» و«جوبينو» من أنَّ «كلَّ ما له قيمة يضمحل»، كان له تأثيره من الناحية النظرية بحيث لا يمكن التغاضي عنه، على أنَّ عملية الاضمحلال وتدمير الروح في الحضارة الحديثة يوجد لها الآن ترياق… وهو السعي وراء النقاء العرقي. كانت عملية تحويل «جوبينو» إلى شخصية مركزية في البانثيون٦٣⋆ الجيرماني تتطلَّب التمويه على بعض النواحي المزعجة. يأس «جوبینو» بالنسبة لوطنه الفرنسي، لم يكن يُعادله سوى احتقاره الشديد لكلٍّ من ألمانيا وبروسيا. كان دائمًا يصوِّر الألمان الجدد على أنهم «ماديون… برجوازيون… يفتقرون لروح الدعابة.» مستخدمًا اللهجة الشاجبة القاسية ذاتها، التي سوف يستخدمها «نيتشة» فيما بعد. فكرة أنَّ «ألمانيا ولهلم» كانت تعكس فضائلَ وحيويةَ الآريِّين القدامى، كانت فكرةً سخيفة ومضحكة في رأيه، وهذا بالتحديد ما كان «شيمان» والمدافعون عن الآرية يجادلون فيه.٦٤ المعجبون ﺑ «جوبينو» من الألمان، ضيَّقوا كذلك منظوره التاريخي مسقطين العواملَ النسبية النابعة من دراساته الاستشراقية. التراث الآري الآن، يخصُّ أوروبا وحدها، بل أوروبا الغربية و«إسكاندينافيا» تحديدًا، حتى مصطلح: «آري» Aryan، بالرغم من صلته الواضحة بالهند الفيدية، بدأ يحلُّ محلَّه مصطلحُ: «نورديك» Nordic، أو «الإندوجیرمان» Indo-German،٦٥ وسوف يطرد كلٌّ من «شيمان»، و«وتشمبرلين» أفكارَ «جوبينو» الخاصة بالأصول الآرية لحضارات الصين وما قبل كولمبوس، ويعتبرانها شطحات خيال. السلف الأعلى للحضارة كانوا جميعًا - وبكل تأكيد - أوروبيِّين بيضًا… وألمانًا بالتحديد! وبينما ظلَّت كتابات «شيمان» مقصورةً على جمهور قليل، (رغم تميزه) فإنَّ «هوستون ستيورات تشمبرلين» وصل إلى جمهور أوسع، وكإنجليزي محب للألمانية ومتزوج من ابنة «فاجنر»، أصبح «تشمبرلين» الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في دائرة «بايريث» و«الجوبينوويين» الجدد. في سنة ۱۸۹۹م نشر «أسس القرن التاسع عشر»، وهو مسح عام وشامل للتاريخ الأوروبي، يهدف كما قال إلى أن: «يجعل الماضي جزءًا من الحاضر»، كان دَيْنُه لكتاب «جوبينو» «فصل المقال…» واضحًا وعميقًا، إلا أنَّ الاختلافات بينهما ترجح أوجه الشبه. في «أسس القرن التاسع عشر»، الحضارة الأوروبية كلها من إنتاج الجنس الآري الذي يُعرف اليوم ﺑ «التيوتون»، أو الألمان العرقيِّين الجدد… الآري غير الأصيل أسقط العجرفة الأرستقراطية واستبعاد الآخرين وهي الأفكار التي يقول بها «جوبينو»، وبدلًا من ذلك، فإنه يُفصح عن فضيلتَين بارزتَين، هما: «الحرية» و«الولاء»، بمعنى الولاء لنفسه مثلما هو للآخرين، من خلال مقدرة طبيعية للحفاظ على هويته العِرقية واستقلاليته.
الشعوب الجيرمانية تظهر في نهاية الإمبراطورية الرومانية، مثل «سيجفريد» وهو ينطلق في رحلته في أوبرا فاجنر Götterdämmerung: «ناشرين الصحة الجسمية والقوة والذكاء العظيم والخيال الخصب والدافع الذي لا يكلُّ من أجل الإبداع، مشرقين بحيوية الشباب… أحرارًا، لديهم كل الصفات التي تؤهلهم لأرقى منزلة.»٦٦ كتب «تشمبرلين»: «الجنس التيوتوني دخل التاريخ كطفل، وليس كواحد من البرابرة.» ولكنَّ ثقتَهم العليا وبراءتَهم البكر، كانت هي سببَ سقوطهم. «كل القوى تحرَّكت لكي تخذلهم «مثل طفل يقع في أيدي مجموعة من الفاسقين».» الأوروبيون القدامى، - اللاتين، الغال، إغريق البحر الأبيض، واليهود - تآمروا ضد القادمين الجدد… الجيرمان، وعلى مر الزمن، خُدِع الغزاة بعناق أعدى أعدائهم، ولوَّثوا «دمهم النقي بالاختلاط بالأجناس غير النقية من نسل العبيد.» ومع بداية «التنوير» واجه الدم التيوتوني الأصلي للشعب الألماني الضعف والنسيان وحضارة أوروبية معلقة وغير منجزة.
كان ذلك كله يبدو مألوفًا منذ «جوبينو»، ولكن «تشمبرلين» الآن يُدخِل عنصرًا مفسدًا آخر: اليهود، الوغد الرئيسي وراء تدمير الحيوية التيوتونية. معاداة «تشمبرلين» للسامية نبعَت من «فاجنر» ومن المفكرين الشعبيِّين (Volkish) مثل «لاجارد»، وليس من «جوبينو»٦٧⋆ كان «فاجنر» مثل «کارل مارکس» يحتقر اليهود ويعتبرهم رموزًا للمجتمع التجاري.
القزم «ألبيريش» ذو الأنف المعقوف في «مجموعة الجرس» - أوبرا فاجنر - والذي كان يتخلَّى عن الحب والجمال بسبب جشعه من أجل الذهب، أصبح هو الرمز الثابت لليهودي عدو الطبيعة… عدو الروح.
لمسَت آراء «فاجز» وترًا ولقيَت استجابةً من أعضاء دائرته في «بايريث» (والغريب أنها كانت تضم يهودًا كثيرين)، وأصبحت حجرَ الزاوية في النظرية العرقية «للجوبينوويين» الجدد.٦٨⋆
كان اليهود في رأْي «تشمبرلين» جنسًا آسيويًّا هجينًا، ومثل «فاشر لابوج» Vacher Lapouge (وكان هو الآخر جوبينيًّا متشائمًا)، عرف «تشمبرلين» الجنس اليهودي بأنه نتيجة هجين للتزاوج بين البدو والحيثيِّين والسوريِّين والعموريِّين والآريِّين في الهلال الخصيب في العهد القديم، وكما يقول فإن «وجودهم جريمة في حق قوانين الحياة المقدسة». ونتيجة لذلك فهم نقيض Lebensgefuhl والحيوية، اليهود «وُلدوا عقلانيِّين… العنصر الخلَّاق… الحياة الجوانية الحقيقية لا وجود لها فيهم.»
ومقارنةً ﺑ «حياة الآريِّين الدينية شديدة الثراء»،٦٩ فإن عقيدة اليهود «صارمة»، «شحيحة»، «عقيمة»… وباختصار فإن اليهود «بلا روح»،٧٠ وهكذا أصبح اليهود بالنسبة للجوبينوويين الجيرمان الجدد، كما كان الأوروبيون في تلك الأيام بالنسبة ﻟ «جوبينو»: «جنس ملوَّث مدرك للَّعنة التي يحملها»، اليهود يعملون بوعي من أجل تلويث الحضارة التي بناها «التيوتون» الأرقى منهم، الرأسمالية، والنزعة الإنسانية الليبرالية، والعلم العقيم «العلم اليهودي» كما كان «تشمبرلين» يُطلق عليه (مشيرًا إلى «ألبرت أینشتاين» Albert Einstein والمكونات الأخرى للنظرية الجديدة للنسبية) كانت كلها أشكالًا من التلوُّث العرقي، والأدوات الجديدة التي ينتقم بها اليهود. تاريخ أوروبا لم يعد دورة «جوبينو»… أي دورة للغزو والإفساد وإعادة الغزو، ولكنه أصبح صراعَ قوة عنيفًا وغامضًا بين التيوتون الآريِّين، وأعدائهم اليهود.
ويصف ناقد إنجليزي معاصر کتاب «تشمبرلين» بأنه «إلياذة الآريين ضد اليهود» وملحمة شاملة للصراع العرقي، بها أبطال آريُّون رائعون؛ مثل «مارتن لوثر» Martin Luther، و«دانتي» Dante، و«يسوع المسيح» (الذي يُثبت تشمبرلين أنه كان «آريًّا» وليس يهوديًّا)، ومجموعة متنوعة من الشخصيات الشريرة المعادية للآرية؛ مثل: «أجناتيوس ليولا» Ignatius Loyola (الباسكي٧١⋆ المتفسِّخ مؤسس الجيزويت).٧٢⋆
حيثما توجد القوة والحيوية والإبداع والابتكار، كما كان الأمر في مسيحية القرون الوسطى أو في عصر النهضة، يمكن أن نجد أيضًا التيوتونية Teuotonism كقوة عِرقية تاريخية، وحيثما لا يوجد سوى الآثار المشئومة للهيولية التاريخية والعِرقية أو اﻟ Volkerchaos يُعيدنا تفكير «تشمبرلين» إلى الصورة التي رسمها «جوبينو» للتفسُّخ العِرقي في «فصل المقال»، والذي ينتهي «بالعجز الكامل ويجرُّ المجتمع إلى هاوية العدم.» ومع ذلك يظل هناك في توصيف «تشمبرلين» طريق افتدائية للهرب. الحضارة تنتهي بمرحلة أخيرة من التجدُّد، عملية داخلية لإعادة الميلاد، تتحوَّل فيها طبيعة الإنسان الأساسية من الموت إلى الحياة. النقاء العرقي مسألة استعادة للشباب تجدُّد شخصي، إلى جانب كونها عملية خلاص اجتماعي، وقد استطاع «تشمبرلين» أن يَصِل إلى هذا الادِّعاء الكاسح؛ لأنه لم يَعُد يعرف العِرق على ضوء الوراثة فقط. العرق قوة روحية أكثر منها فسيولوجية، «كل» معقد متداخل مكوَّن من صفات جسمية وذهنية وحيوية. الانتماء إلى جنس يعني أن تمتلك «أسلوبًا خاصًّا في التفكير والشعور». لكي يكون الإنسان يهوديًّا، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن يُولد يهوديًّا: «من الضروري فقط أن تكون هناك تعاملات متكررة مع اليهود، أن يقرأ الصحف اليهودية، أن يعتاد الفلسفة والأدب والفن اليهودي»، ويستنتج «تشمبرلين» أنه بوجود هذه الإمكانيات للتلوث الثقافي «يُصبح من حقِّنا ومن واجبنا أن نتخذ - دون أي عداء - الاحتياطات الحاسمة ضد شخص مغاير… خطر كهذا.»
«حيث لا يدور الصراع «بين الأجناس» بقذائف المدافع، فإنه يمضي في صمت أو في قلب المجتمع عن طريق الزيجات… بواسطة قوى المجتمع المتنوعة في مختلف أنواع البشر، بانتقال الثروة، بميلاد مؤثرات جديدة واختفاء غيرها، ولكن هذا الصراع رغم أنه صامت، إلا أنه صراع حياة أو موت قبل كل شيء…»٧٣
وفي سنة ۱۹۲۷م التقى «تشمبرلين» بالرجل الذي سيتولَّى أمر صراع الحياة أو الموت، «أدولف هتلر». كان قد تربَّى على النمط النمسوي للجرمانية، والذي كان معاديًا لليهود تمامًا، إلى جانب معارضته للإكليروس، إلا أنه في الوقت الذي كان «هتلر» فيه في النمسا، كانت «الجوبينووية» الجديدة تكتسح العالم الناطق بالألمانية. كان كتاب «تشمبرلين»: «أسس القرن التاسع عشر» جزءًا من منهج دراسة مادة التاريخ في المدارس البروسية، بينما كانت «جمعية جوبينو» تعمل على توزيع نسخ من كتاب «جوبينو»: «النهضة» على الجنود الألمان - مثل الجندي الشاب هتلر - وهم في طريقهم إلى ميادين القتال في الحرب العالمية الأولى،٧٤ ولا يبدو أن «هتلر» كان قد قرأ شيئًا ﻟ «جوبينو» حينذاك أو بعد ذلك، إلا أنه بعد أن عاد من الحرب، التقى بكلٍّ من «ألفريد روزنبرج» Alfred Rosenberg، و«ديترتش إيكهارت» Dietrich Eckhart اللذَين عرَّفاه على أفكار «تشمبرلين» وغيرها من الأفكار الآرية العرقية.
وأثناء وجود «هتلر» في سجن «لاندزبرج»، بعد محاولة Putsch في سنة ۱۹۲۳م، كانت «الجوبينووية» قد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من نظرته للعالم. في كتابه «كفاحي» Mein Kampf يقرُّ «هتلر» صراحةً أن «كلَّ الثقافة والفن والحضارة كانت من إنجازات الجنس الآري الحامل للثقافة»، وبإقراره أن «جميع ثقافات الماضي قد اختفت؛ لأن الجنس الخلَّاق الأصلي مات بسبب تلوث الدم» إنما يضع يده على الروح الأصلية في تشاؤمية «جوبينو» العرقية،٧٥ ومع ذلك، كان «هتلر» يشارك «تشمبرلين» أيضًا في أمل الافتداء على طريقة «فاجنر». ألمانيا يمكن أن تحقِّق قدرًا عرقيًّا جديدًا من خلال نقاء الدم وإعادة الشباب لروحها الجمعية وتجديدها. وأصبح ذلك هدف «هتلر»، ووعد «الجوبينووية» الجديدة للحركة النازية. في ۱۹۲۷م سيلتقي «هتلر» أخيرًا بمعلِّمه الفكري الجديد وجهًا لوجه… «هوستون تشمبرلين»، يصف «جوزيف جوبلز» Joseph Goebbels - كشاهد عيان - ما حدث… «كان مشهدًا بالغ التأثير». كان الرجل العجوز، قعيدًا… مشلولًا في كرسيِّه المتحرك بسبب سكتة دماغية منذ ثلاثة عشر عامًا، يقبض على يد «هتلر» بشدَّة، و«هتلر» يُخاطبه ﺑ «أبي الروحي».٧٦ بعد أيام قليلة، كان «تشمبرلين» يكتب إلى «هتلر»: «لقد غيَّرت حالتي الروحية بضربة واحدة… أن تُنجب ألمانيا «هتلر» في لحظة الحاجة… فذلك دليل على حيويتها. والآن أستطيع أن أنام في سلام… لن أكون في حاجة لأن أستيقظ مرة أخرى، حفظك الله.»
لم يعِش «تشمبرلين» حتى يرى «هتلر» وهو يصعد إلى السُّلطة، ولكن «لودفيج شيمان» أدركه، ويوم عيد ميلاده الخامس والثمانين سيتسلَّم أكبر جائزة أدبية في ألمانيا… سيتسلَّم «وسام جوته» من الرايخ الثالث.
اضف تعليق