إنَّ ترقية الآداب والعلوم، والتهذيب الشديد في العلاقات الاجتماعية، والتجارة ونُظُم الحكم الحديثة كل ذلك لم يكن ليُحسِّن أخلاق البشر، بل جعلهم أسوأ مما كانوا عليه، وأن الترف والجشع والغرور وحب الذات والحرص على المصلحة الشخصية كلها إفرازات رديئة للحضارة، أول جملة من العقد الاجتماعي تقول يُولد الإنسان...
على مشارف الحِقبة الحديثة إذن، كانت هناك أساليبُ عدَّة يتحدَّث بها الأوروبيون عن التغيُّر والزمن والتاريخ، وكانت هناك أسطورة العصر الذهبي التي تميل إلى ما كان يدعوه «بترارك» Petrarch:
Dolce tempo della prima etade (الزمن الحلو للمرحلة الأولى للإنسان) ووعيها باضمحلال الزمن الذي يليها.
كانت هناك فكرة الثورة الدورية Cyclical anakuklosis عند الإغريق، والتي تمَّ تجديدها لتصبح الحظ في مواجهة الفضيلة، ثم الفضيلة في مواجهة الفساد. وكانت هناك إرهاصات بإمبراطورية كونية، وخاصة بين حكام أوروبا المستبدين، وبألفية سعيدة ورؤيا نبوئية بين خصومهم، إلا أنه رغم الفروق الكبيرة بينها، ظلَّت نظريات الزمن تلك شديدةَ التشاؤم فيما يتعلَّق بعالم البشر، وكانوا يعتقدون أنَّ الأمل الحقيقي للإنسان إنما يوجد في عالم الروح، مع الرب وقانونه السرمدي.
ولكن مع عصر النهضة، أصبح المفكرون يُدركون أنَّ عالم المادة كان عرضةً لقوانينه الطبيعية الخاصة التي منحها الله له، وأن فكرة القانون الطبيعي كانت تعني أنَّ الله يحكم أمورنا اليومية عن طريق العناية الإلهية المقدَّسة، ذلك السهر المخلص والرعاية اليقظة دائمًا، التي يسبغها الله على مخلوقاته. وكان كبار فلاسفة القانون الطبيعي - مثل «هوجو جروتيوس» Hugo Grotius، و«جون لوك» John Locke، و«صمويل بفندورف» Samuel Pufendorf، و«جيامباتيستا فیکو» Giambattista Vico، كانوا كلهم يعملون على تنويعات مختلفة لهذه الرؤية البصيرة البسيطة، وهي أنَّ القوانين الطبيعية التي تحكم السلوك الإنساني هي أيضًا قوانين الرب.١٨
وحيث إنَّ إرادة الرب تعمل عادةً من أجل أهدافٍ خيِّرة، فإنَّ الشيءَ نفسَه يصدق على القوانين التي تحكم حياتنا الفردية وحتى تاريخنا الجمعي كله أيضًا. كان الكاهن النيوبوليتاني «جيامباتيستا فيكو» يرى التاريخَ الإنسانيَّ کلَّه يتحرَّك في ثلاث دورات Corsi متتابعة تحت رعاية العناية الإلهية.١٩ كان «فيكو» أيضًا قد بدأ عادةً تقسيمَ التاريخ إلى حضارات مائزة، يصوِّر كلٌّ منها ثوراته ذات الصبغة المسيحية. فهو يزعم أنَّ كل شعب تاريخي بدأ بعصر ملوك وقساوسة وأساطير قديمة أو مهجورة، ثم تَبِعه عصرُ أبطال وصراعات ملحمية يؤدِّي إلى عصر إمبراطورية وسيطرة كونية … يتشقَّق وينهار ويصبح أكثرَ بربرية، لكي تبدأ الدورة من جديد. وقد ظلت نظرةُ «فيكو» التاريخية الإمبيريقية نظرةً غير عادية، ولكنَّ هذا الميل لاستخدام المقارنات الثقافية المتقاطعة لتركيب «تاریخ عالمي واحد» ظلَّ إحدى الخصائص الرئيسية للتنوير. كما تبنَّى فكر التنوير كذلك الافتراض الآخر ﻟ «فيكو» وهو أنَّ المجتمع الإنساني كان جزءًا من نظام طبيعي عقلاني أكبر، مطبوع على حب الخير.
ولأنَّ «توماس هوبز» Thomas Hobbes كان يعيش في ظلال الحروب الدينية فقد توصَّل إلى أنَّ غرائز البشر الطبيعية تؤدي إلى «حرب الكل ضد الكل»، وبعد نصف القرن، كان «فرانسيس هتشسن» Francis Hutcheson يقول إنَّ المجتمع الحديث قد نشأ نتيجة حب الإنسان الفطري للاختلاط، أو رغبته في أن يكون مع الآخرين «روابط الخير والإنسانية الطبيعية الموجودة في الجميع». وقد كان «هتشسن» بمثابة معلِّم لجيل من مفكري التنوير بمن فيهم «ديفيد هيوم» David Hume، و«آدم سميث» Adam Smith. ورغم أنَّ هؤلاء الرجال سيكونون أكثرَ شكًّا من معلِّمهم العظيم بخصوص مستقبل وأفق الإنسانية، إلا أنَّ ما يُسمَّى بالمدرسة الاسكتلندية قد ظلَّت وفيَّةً لأفكار «هتشسن» الأساسية. هناك مجموعة عامة واحدة من الروابط الاجتماعية تشكِّل جزءًا من أساس جميع المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، وهي تتطوَّر بشكل متزايد - من الأسرة إلى القبيلة، إلى العشيرة، إلى المجتمع والإمبراطورية - طبقًا لنفس الأسلوب المنتظم، وقد كانت تلك أول نظرية علمانية للتقدُّم أو «الحضارة» في أوروبا.
أن تكون متحضرًا، كان في الأصل يعني أنك تعيش في ظل القانون الروماني أو المدني civil، ولكن على مشارف فجر النهضة أصبح المصطلح يدلُّ على أسلوب في الحياة والقانون، مائز ومختلف عن أسلوب البربرية. كان ينطوي على تحريم للقتل ولسفاح القربى وأكل لحم البشر، وعلى الاعتقاد في لاهوت خلَّاق واحترام للملكية والتعاقدات القانونية والمؤسسات الاجتماعية الضرورية مثل الزواج والصداقة والأسرة. ولكن كيف تعلَّم الناس هذه القواعد؟ تعلَّموها من خلال التفكير أو العقل الجمعي؛ حيث لم تكن تلك القوانين مكتوبةً أو مُملاة، وإنما تم اكتشافها مباشرةً في تعاملات الناس اليومية مع بعضهم. كان يُشار إلى تلك القوانين «بالطبيعية»، بما يوحي أنك لكي تكونَ متحضرًا، لا بد قبل كل شيء أن تتعلَّم كيف تعيش وفق القانون الطبيعي وليس بالغريزة أو بحكم الاعتياد.
أما مصطلح «الحضارة» civilisation فقد ظهر أصلًا في فرنسا. كانت كلمة Civilisé في البداية مرادفةً لوجود حكومة جيدة، أو أن تكون «منظمة» جيدة Policé من الناحية الاجتماعية، إلا أنه سرعان ما أصبحت كلمة civilisation تعني ما هو أكثر من مجرد شكل محدد للحكومة، بل أصبحت تُشير إلى عملية نقلت الناس من العادات moeurs، والمؤسسات والوجود المادي الذي كان يوصف بالبدائية إلى شكل آخر أكثر رقيًّا أو «تحضُّرًا». كانت الحضارة عملية تاريخية، لها بداية ونهاية، صحيح أنها جعلت الناس مختلفين، ولكنها جعلتهم أيضًا أفضل مما كانوا في مرحلتهم البدائية أو الهمجية.٢٠⋆
وقد شقَّت «الحضارة» طريقَها من العزلة والبدائية البربرية إلى المجتمع الحديث أو «المتحضِّر» على أربع مراحل: في عزلته ما قبل الاجتماعية (حالة الطبيعة) كان الإنسان يجول وحيدًا لا حول ولا قوة، بعد ذلك سيكوِّن مجتمعات بدائية «رعوية وبدوية» مثل حطابي وقناصي «الهوتنتوت» Hottentot٢١⋆ وهنود السهول في أمريكا، والمرحلة الثالثة هي المرحلة الحقلية (الزراعية) حيث يعيش الناس على حيازة محدودة من الأراضي الزراعية، وتؤدِّي هذه المرحلة في النهاية إلى المرحلة الحضرية civil، أو التجارية، وفيها يُحوِّل الناس حياتهم الاقتصادية والاجتماعية من المزرعة والقرية إلى المدينة ولواحقها الحضرية. وهذا تطوُّر اقتصادي في الأساس؛ حيث يبدأ الرجال والنساء في اكتساب معيشتهم بوسائل إنتاجية يتسع مداها من الاحتطاب إلى الرعي إلى الزراعة إلى التجارة إلى الصناعة، إلا أنه ينطوي على تقدُّم ثقافي مُطَّرد. فالإنسان يجد نفسه على اتصال بالمزيد والمزيد من الناس، ويستخدم وسائل أكثر تعقيدًا لتحقيق منافع متبادلة. والبشر الآخرون لم يعودوا مجرَّدَ منافسين له على قطعة عظم يقرضونها، أو على عائد هزيل من صيد يوم، أصبحوا أسرة، أصدقاء، عملاء، زملاء، مواطنين في مؤسسة مشتركة نتعرَّف فيها على أفضل ما فينا. الجانب العقلاني من شخصية الإنسان يكتشف -بشكل متزايد- منافذَ ومتنفساتٍ جديدةً ومثيرة،٢٢ وهذا بدوره يؤدي إلى تطوُّر الفنون والعلوم والآداب والشعر، وقد كتب «ديفيد هيوم»:
«كلما تطوَّرت هذه العلوم الراقية، يصبح البشرُ أكثرَ اجتماعية.» وينطوي المجتمع المدني، أو المجتمع الحديث على تحوُّل إنساني، لخَّصه مفكرو التنوير في الشعارات الأربعة الرئيسية اللافتة في نظرية المجتمع المدني.
فالأول هو حسنُ السلوك ورقيُّ التصرف وذلك هو الذي يشكِّل الطبيعةَ الجمعية أو «فضيلة» المجتمع، والسلوك الراقي كما يقول «إدموند بيرك» Edmund Burke «أهم من القوانين» لتدعيم أساس المجتمع الإنساني، فهو قد «يدعم الأخلاق وقد يدمرها تمامًا»، و«فولتير» يجعلها الموضوع الرئيسي للتاريخ نفسه، فكلما أصبح الناس أكثر عقلانية وكلما أصبحت آفاق مجتمعهم أقل ضيقًا، تخلَّصت أخلاقهم من ضيق أفقها السابق، وأصبحت أذواق المجتمع في الآداب والفنون - بكلمة واحدة - «متحضرة». (والحقيقة أن الفرنسيِّين ترجموا كلمة refinement الإنجليزية إلى civilisation). إن رقيَّ السلوك يؤدي إلى التسامح بين البشر المختلفين في أفكارهم السياسية والدينية، ولا يبقى هناك مكانٌ لمحاكم التفتيش أو الحروب الدينية، ويبحث الناسُ عن فهمٍ عقلاني، أكثر منه خرافيًّا لأفعال الطبيعة وهو ما نسمِّيه ﺑ «العلم».٢٣
هذا الرقيُّ يشجِّع أيضًا على تقبُّل القيم الجوهرية للكائنات الأخرى على نحوٍ أكثرَ تعاطفًا، وبخاصة «النساء»، وقد كان - كما يقول التنوير - لهنَّ أكبر الأثر في رفع مستوى السلوك والأخلاق.٢٤
والسلوك الراقي ذو صلة وثيقة بالميزة أو «الفضيلة» الثانية المهمة في الحضارة، وهي ظهور الكياسة أو الأدب politeness، وهي كلمة لها نفس جذر كلمة polished، التي تعني «مصقول – محسن – ملمع»، وكان «إیرل شافتسبري الثالث»، وهو فيلسوف ومفكِّر أخلاقي إنجليزي، يستخدم هذا المصطلح لوصف للبشر والأشياء، وكان يعتبره نتيجةً طيبة من نتائج الحياة المدنية الحديثة، «نحن نُصقل بعضنا الآخر، ونتيجة للاحتكاك الدائم بيننا والذي يتمُّ في حبٍّ وسلام، نتخلَّص من الزوائد والجوانب الخشنة.» وهذه الاحتكاكات والصِّلات المتعددة تعلِّمنا أن نُعامل الآخرين باحترامٍ أو «بتحضُّر»، وتُشعرنا بأننا مهتمون بمصالح الآخرين كما نحن مهتمون بمصالحنا.٢٥ والكياسة، أو الأدب أو التهذيب politeness كان شيئًا أكبرَ وأشمل مما نُطلق عليه اليوم «حسن السير والسلوك»، إنه يكشف عن طبيعتنا الحقيقية ككائنات عقلانية واجتماعية.
إلا أن التحولات الثقافية والاجتماعية بالنسبة للرقيِّ والتهذيب لم تكن سوى أعراض لظاهرة ثالثة تعتبر الآلية المركزية للتطور الإنساني، وهي: نمو التجارة. فالمجتمع المدني الحديث كان قبل أيِّ شيء مجتمعًا تجاريًّا: التبادل المنظم للسلع والخدمات مع الآخرين، فتح أُفُقًا جديدة للتفكير العقلاني كان قد بقيَ مغلقًا مع الظروف الاقتصادية البدائية. في سنة ۱۷٦۹ كتب المؤرِّخ «روبرتسون» Robertson «التجارة تميل إلى إذابة تلك التحيُّزات التي تغذِّي التمييز والعداوات بين الأمم، وهي تهذِّب وتُصقل طباع البشر، وتوحِّد بينهم بواسطة أقوى رباط وهو الرغبة في إشباع احتياجاتهم المتبادلة.»٢٦ وأصبح من المسلَّم به القول إنَّ اقتصاد السوق يعتمد على أناس يسعَون لتحقيق مصالحهم الشخصية كما نفعل اليوم. ولكن المصلحة الشخصية لا تعني الجشع أو الطمع عند تلميذ من تلاميذ المجتمع المدني مثل «آدم سميث» Adam Smith. فتلك كانت توجُّهات اجتماعية لأوضاع اقتصادية واجتماعية بدائية تتسم بالخوف الحقيقي من الندرة المادية. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الحرص على المصلحة الخاصة في مجتمع «متحضِّر» أو «مهذَّب» يتضمَّن الرغبةَ العقلانية في تقديم السلع والخدمات بربح إلى عميل لديه الدرجة نفسها من المصلحة الخاصة. وبالنسبة للقرن الثامن عشر، نجد أن التجارةَ لم تُنتج «ثروة الأمم» فقط، ولكنها كانت إلى جانب ذلك، الآليةَ الرئيسية لتحقيق التقدم الإنساني، وتحويل البشر من وحوش وهمج إلى كائنات متحضرة.
في سنة ۱۸۰۳، «كان «فرانسيس جیفري» Francis Jeffrey عالم الاقتصاد السياسي الليبرالي يُعرِّف الطبقة الوسطى، أو «الصفوف المتوسطة» بالشارع الاجتماعي الذي حدث فيه ذلك التقدم. كما يقول إنَّ السلوك المعقول … المهذَّب … المعتدل … الكادح … للطبقات المتوسطة (وبالفرنسية: البرجوازية: La Bourgeoisie) هو الذي يشكِّل المحرِّك الأساسي للتقدُّم الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي للحضارة، والذي يسري إلى بقية صفوف المجتمع.»٢٧
المجتمع التجاري المتحضِّر يؤدِّي إلى تقدُّم حاسم ونهائي واحد، هو القدرة على الحكم الذاتي والحرِّية، وقد خلقت كل مرحلة من مراحل عملية التحضُّر السابقة صيغتها الملائمة للحكم؛ فمن اللاحكم بالمرة في حالة الطبيعة، إلى رئيس القبيلة، إلى الإقطاعي والملك في أوروبا العصور الوسطى.
وحيث إنَّ المجتمع التجاري يشجِّع الناس على الاستقلال الذاتي وعلى تحمُّل المسئولية الشخصية في المجال الاقتصادي والثقافي، فإنه يشجِّع القدرة نفسها في المجال السياسي؛ حيث يتعلَّم الناس أن يتخلَّوا عن «الاعتماد الخنوع على مَن هم أقوى منهم».٢٨ فالاعتماد على السلطة السياسية والدينية بخاصة، من العلامات المميزة للمجتمع البربري والبدائي، بينما الاستقلال الذاتي - الحرية - من علامات المجتمع الحديث المتحضِّر.
وكان «آدم سميث» ومعاصروه يرَون أنَّ الدستور الإنجليزي، ونبته الأمريكي، من ثمار «الحرية الحديثة»، والتقدم السياسي المتواصل للمجتمع المدني، كما يرى المؤرِّخ الفرنسي الليبرالي «فرانسوا جويزوت» Francois Guizot أن التقدم نفسه قد وصل إلى القارة الأوروبية عبر الثورة الفرنسية عندما أصبحت البرجوازية قادرةً في النهاية على القيام بدور سياسي يعادل أهميتها في التقدم الاقتصادي الأوروبي. وكان «کارل مارکس» Karl Marx، بين أولئك الذين وافقوا على هذا الرأي رغم قلة عددهم.
نظرية المجتمع المدني ترى إذن أنَّ التاريخ يتكوَّن من حركة عامة نحو «رخاء» تجاري حديث كما كان يُطلق عليه «آدم سميث»، مرتبط على نحوٍ مشترك بصعود البشرية من مرحلة الإنسان البدائي الجاهل إلى المواطن المتحضِّر ساکن «لندن» و«باریس». وكما عبَّر عن ذلك «جویزوت» فإنَّ فكرة التقدم كان لا يمكن فصلها عن فكرة الحضارة. لقد أعطى التقدم ساكن المدينة الحديث في أوروبا ذوقَه للفنون الجميلة والموسيقى، وفهمه العقلاني والعلمي للعالم، ورفضه الغريزي للعنف والقسوة والخرافة والاستبداد السياسي. وبعد أكثر من قرن سيقول٢٩ «آرثر بلفور» Arthur Balfour - وهو فيلسوف بريطاني آخر - إنَّ تلك «المسيرة إلى الأمام»، ظلَّت إحدى سمات الحضارة الغربية «على مدى أكثر من ألف سنة»،٣٠ أما أوَّل مفكِّر يقول بأنَّ عملية التحضُّر هذه قد وصلت إلى أوجِها في أوروبا الحديثة فهو الفيلسوف الفرنسي «إيه آر جي تيرجوت» A. R. J. Turgot. ففي رأيه أنَّ أوروبا قد استطاعت أكثر من أي مجتمع أو حضارة في التاريخ أن تتغلَّب على الجانب البربري والبدائي في شخصيتها الجمعية، وأنَّ طبيعتها العقلانية والعلمية الصاعدة كانت رمز ذلك النجاح. وفي الوقت نفسه لم يكن ذلك بأي حال دليلًا على أنَّ التقدم كانت ملكيته مقصورة على أوروبا وحدها. «تيرجوت» وتلميذه «كوندورسيه» Condorcet كانا يتطلَّعان إلى يوم تُشرق فيه الشمس «على أرض ليس عليها سوى بشر أحرار، لا سيد فيها سوى العقل؛ حيث سيكون الطغاة والعبيد والكهنة وأعوانهم من الحمقى والمتعصبين قد اختفَوا»، وذلك بفضل «التغيُّرات المتوالية في المجتمع الإنساني». بعد ذلك كان البارون «دهولباخ» d’Holbach يقول: «الإنسان البدائي، الأبيض، الأحمر، الأسود، الهندي، الأوروبي، الصيني، الفرنسي، الزنجي، اللابلاندر … لهم كلهم نفس الطبيعة، والفروق بينهم ليست سوى تعديلات طفيفة في تلك الطبيعة الواحدة المشتركة بسبب المناخ ونوع الحكم والتربية والمعتقد إلى غير ذلك من الأشياء التي تؤثر عليهم.»٣١ كما أشار الفيلسوف الألماني «جوهان جوتليب فيخته» Gohann Gottlieb Fichte إلى أنَّ «أكثر الأمم تحضُّرًا في عصرنا الحديث هم نسل الهمج البدائيِّين»، وهكذا فإنَّ شعوب الحاضر الهمجية وغير المتحضِّرة، سوف تُصبح متحضِّرةً بدورها.
كتب في سنة ۱۸۰۰ يقول: «إنَّ المهمة التي يجب على جنسنا البشري أن يقوم بها هي أن يتجمَّع في كيان واحد ذي ثقافة متشابهة، ستكون هي الأرقى والأكثر كمالًا في التاريخ.»٣٢
أما الحضارة الأوروبية فهي ذات طبيعة مزدوجة ومتناقضة بالنسبة للتنوير، فهي من ناحية قد نتجت عن عمليات تاريخية معينة تنطوي على فروق في «المناخ ونظام الحكم والتربية والمعتقد، وكافة الأسباب الأخرى التي تؤثر عليها، ومن ناحية أخرى فإنها قدَّمت مستوًی عامًّا لصالح الإنسانية في كل مكان، فكانت النتيجة نوعًا من التقارب الطبيعي في التقدم الإنساني وفي دور أوروبا المهيمن في العالم.» ويفسِّر «تيرجوت» ذلك بقوله: «عندما يستنير العقل الإنساني، يصبح السلوك أكثرَ رقة وتتقارب الأمم المتباعدة من بعضها. وأخيرًا فإنَّ الروابط التجارية والسياسية تُقرِّب بين كل أجزاء الكرة الأرضية ويتقدَّم الجنس البشري - وإن رويدًا - نحو الكمال التام … وفي النهاية تتبدَّد الظلال، ويا لَه من نور ذلك الذي يبزغ من كل الأرجاء! ويا لَه من لقاء بین بشر عظماء في كل مجال! ويا لَه من كمالٍ للعقل الإنساني!»٣٣،٣٤⋆ تقدُّم المدنية، خلق قوتَه الدافعة الخاصة، وقد تمَّ ذلك بمعزل عن الرغبات الإنسانية، مثل «المدينة المقدسة» عند «أوغسطين»،٣٥ وكما تقول العبارة المعروفة «لا أحد يستطيع أن يُوقف التقدم».
في سنة ۱۷۹۸ أعلن الكاتب الإنجليزي «وليم جودوین» Wiliam Godwin «… وبما أن التحسُّن قد تواصل لفترة طويلة، فلا بد أنه سوف يستمر هكذا.» إلا أنه كان هناك أيضًا الوعي بأنَّ ذلك التحسُّن سيكون عمليةً تحوُّلية إلى جانب كونها تراكمية، كل مرحلة من مراحل التطوُّر الحضاري في هذه العملية تتطلَّب تدميرَ ما كان قبلها، وقد جعل «إدوارد جيبون» Edward Gibbon من ذلك فكرةً رئيسية لأشهر عمل عن تاريخ التنوير وهو كتابه: «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية» ۱۷۷٦، اختار «جيبون» الحدثَ المركزي في النظرة الرؤيوية ونظرة «أوغسطين» للتاريخ: وهو سقوط الإمبراطورية الرومانية وقلبها بطنًا لظهر، وأثبت أن «أوغسطين» كان محقًّا بمعنى ما: إنَّ نهوض أوروبا الحديثة كان يتطلَّب تدميرَ سلفها القديم الفاسد، ولكن نظرة «جيبون» التاريخية حققت انتصارًا علمانیًّا، تفسُّخ «روما» كان أزمةً اقتصادية وسياسية أكثر منها أخلاقية، سيادة «روما» الكونية خلقَت طبقةً حاكمة مفلسة، فلاحين فقراء، جيشًا متغطرسًا مسرفًا في الثقة، روحًا إمبراطورية أصبحَت لعبةً في أيدي المغامرين والفاسدين، وكان «جيبون» يقول: «بدلًا من التساؤل عن سبب دمار الإمبراطورية الرومانية لا بد أن نكون مدهوشين؛ لأنها بقيَت كل تلك الفترة.» ولأنها كانت ضخمةً ومتثاقلة ومريضة التصوُّر، فإنَّ الإمبراطورية الرومانية كان لديها مشكلات كثيرة عصيَّة على الحل جعلَتها مكشوفةً لأعدائها … لا للقوطيِّين٣٦⋆ Goths و«الواندال»٣٧⋆ Vandals و«الهون»٣٨⋆ Huns البرابرة فقط، وإنما للمسيحية كذلك، وكما يقول «جيبون» فإنَّ سقوط «روما» كان نتيجةً طبيعية وحتمية لعظمة مفرطة.
فكرة «جيبون» أنَّ الإمبراطورية الرومانية كان محكومًا عليها بالدمار بسبب نجاحها، أثَّرت على الخيال التاريخي الحديث، جميع الإمبراطوريات والمجتمعات العظمى تَصِل إلى نقطة نهاية، نقطة اللاعودة، وبعدها لا بد أن يحلَّ محلَّها شيءٌ آخر، و«مسيرة الإمبراطورية» تنطوي بالضرورة على دورة نمو وتآكل ودمار، وقد فسَّر ذلك المؤرِّخ «جون أنتوني فرود» John Anthony Froude بقوله: «الفضيلة والحق أفرزَا القوة، والقوة … السيادة، والسيادة … الثروات، والثروات … الترف، والترف … الضعف والانهيار، وهذا تتابع حتمي يتكرر دائمًا.» واحتمال زوال الحضارة الحديثة ذات يوم، رغم كل إمكانياتها المادية والسياسية سوف يؤرِّق القرن الثامن عشر فيما بعد، ويسجل انعطافًا حادًّا عن النظرة الأولى الأكثر تفاؤلًا بالنسبة للمستقبل الأوروبي، وبالطبع فإنَّ أيَّ حضارة لا تزول أو تختفي بالكامل، حتى أكثر الحضارات ضآلةً وقِدَمًا لا بد أن تُخلف وراءها دليلًا ماديًّا على هيئة أطلال، وقد فتنت الأطلال القديمة حركة التنوير المتأخرة،٣٩ والمكتشفات الأركيولوجية الحديثة في «أثينا» و«بومبي» و«مصر» غذَّت التفكير بشأن مصير الإمبراطوريات والحضارات. «جيبون»٤٠ نفسه كان يجلس وسط أطلال «الساحة العامة» الرومانية عندما جاءَته فكرةُ كتابه «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، تلك الآثار القديمة وقفت كتحذيرات صامتة لخيال القرن الثامن عشر، فهي رموز لعوالم قديمة قد لا تختلف كثيرًا عن عالمنا، وكانت مثله أيضًا تتجه نحو حتفها.٤١
كتاب الكونت «كونستانتين دو فولني» Constantine de Volney، والذي يحمل عنوان: Le Ruines «الأطلال»، والصادر عام ۱۷۸۷ كان ذا شهرة وتأثير كبيرَين، وهو الذي ألهم «نابليون» أن يصطحب «فولني» معه في حملته على مصر عام ۱۷۹۸، وبعنوانه الفرعي: «تأملات في دورة الإمبراطوريات» فإنَّ ذلك الكتاب كان تفكيرًا خياليًّا، أو حلمَ يقظة عن الطبيعة الهشَّة للحضارة ذاتها، ووثيقة مهمة عن الرومانتيكية الباكرة، وأمام كومة من بقايا أعمدة رخامية على حافة صحراء كبيرة، وقف «فولني» متأملًا ليقول:
«ذات يوم، كانت هنا مدينة عامرة مزدهرة، وهنا … كان مقر إمبراطورية عظيمة. نعم! هذه الأماكن التي أصبحت اليوم صحراء جرداء، كانت تعجُّ بالحياة والبشر، كانت حشود الناس تسعى في هذه الشوارع المهجورة … وبين هذه الجدران … حيث يخيِّم اليوم صمتُ القبور، كانت أصوات الفنون وصيحات الفرح والغبطة لا تتوقف، أكوام الرخام هذه، كانت قصورًا منيفة … وهذه الأعمدة المنهارة كانت تزيِّن جلال المعابد … هنا جمعت الصناعة ثروات الأمم كلها … والآن … انظر ماذا بقيَ من هذه المدينة العظيمة؟! … لا شيء سوى هيكل عظمي بائس … ثروة مدينة تجارية تتحوَّل إلى فقر مدقع، قصور الملوك تُصبح عرين الوحوش الكاسرة … آه! كيف أفلَ نجمُ كلِّ ذلك المجد العظيم! کیف بادَت كلُّ تلك الجهود! هكذا ينتهي سعيُ البشر! هكذا تزول الإمبراطوريات والأمم!»٤٢
«فولني» قلبَ الشعارَ القديم عن تدمير الزمن ضد المجتمع المدني نفسه، وعندما وصف المؤرِّخ السويدي «کارل فولجراف» فيما بعد، التاريخَ الإنسانيَّ كلَّه بأنه «كمية هائلة من الأحجار»،٤٣ فإنه كان يعبِّر عن معنى هذا المصير الفاجع نفسه، والذي كان «فولني» أول مَن حقنه في الخيال الرومانسي.
كان هناك إذن ثمنٌ حتميٌّ لا بد من دفعه من أجل التقدُّم، في سنة ١٧٩٤م کان الكاهن «روبرت مالتوس» Robert Malthus في غاية القلق؛ لأن الإنتاج الوفير في المجتمع التجاري وما ينتج عن ذلك من زيادة سكانية، سيكون أكبرَ من قدرته على توفير الغذاء لنفسه، والنتيجة … لا بد أن تكون ندرة الطعام والفاقة والدمار.
«والسؤال الكبير المطروح والذي يحتاج إلى حسم الآن هو ما إذا كان الإنسان سوف يواصل، وبسرعة متزايدة، طريقَه نحو تحسينات غير محدودة، أو يكون محكومًا عليه بالتذبذب المستمر بين السعادة والشقاء.»٤٤
كذلك قدَّم «مالتوس» الصورةَ المؤرِّقة عن سرعة المجتمع الحديث المطَّردة نحو المزيد والمزيد من التقدم بلا تعقُّل، وبشكل مربك ومبهج في نفس الوقت، بالنسبة لأولئك المحبوسين فيه كان التقدم الخطي للمجتمع التجاري قد بدأ يُشبه الدورات السريعة لعجلة الحظ، وبعد مائة عام كان منظر مولد كهرباء ضخم «يدور في مساحة طول ذراع بسرعة مدوخة» رمزًا للتقدُّم ذاته في نظر «هنري آدمز» Henry Adams٤٥⋆ لقد كان «جان جاك روسو» Jean-Jacques Rousseau هو الذي صاغ كشف الحساب النهائي للحضارة والبربرية في أواخر عصر التنوير. «روسو» الذي كان في الأصل من مواطني جنيف الجمهورية، ومنتحلًا للقب محبِّ الحرية السياسية (نشر «العقد الاجتماعي» في سنة ۱۷٦۲)، هاجم بالفعل جميع الجوانب «التقدمية» للقرن الذي كان يعيش فيه، وأخضع كلَّ شيء امتدحه أسلافه في عملية التحضُّر، لتحليل نقدي صارم، وكما قال فإنَّ ترقية الآداب والعلوم، والتهذيب الشديد في العلاقات الاجتماعية، والتجارة ونُظُم الحكم الحديثة … كل ذلك لم يكن ليُحسِّن أخلاق البشر، بل جعلهم أسوأ مما كانوا عليه، وأن الترف والجشع والغرور وحب الذات والحرص على المصلحة الشخصية … كلها إفرازات رديئة للحضارة، أول جملة من «العقد الاجتماعي»، تقول: «يُولد الإنسان حرًّا»، ولكنه «مكبَّل بالقيود في كل مكان»، القيود التي فرضها المجتمع المدني طبعًا.
عكس «روسو» اتجاهَ أعمدة الحضارة والبربرية، أناشيد المديح التي كالها للإنسان البدائي «الوحش النبيل» - وهذا المصطلح ليس من صنعه - الذي يعيش في وفاق عفوي مع الطبيعة ورفاقه من الكائنات الحيَّة الأخرى، كان المقصود بها تقريعَ معاصريه الباريسيِّين المرفَّهين، ولكنها في الوقت نفسه كانت تأنيبًا موجَّهًا ضد فكرة التاريخ كتقدُّم. كتب «كل التقدُّم اللاحق كان خطواتٍ كثيرةً في مظهرها نحو تحسُّن الفرد، ولكنه عدة خطوات في الحقيقة نحو ضعف الجنس البشري.» تملُّك الأشياء ولَّد المنافسة والاستغلال، والتفاعل الاجتماعي المعقَّد ولَّد الزهو والحسد، الفنون جعلت الناس واهنين متخنثين، البشر أصبحوا ضعفاء من الناحية الجسدية وتعساء ومتوتري الأعصاب، والأسوأ من ذلك كلِّه أنَّ تقدُّم المجتمع الإنساني، لم يحقِّق الحرية السياسية، بل جاء بنقيضها. «لقد دمر الحرية الطبيعية - بغير رجعة - وأرسی قانون الملكية واللامساواة على طول الزمان … لقلة من ذوي الطموح، وبالتالي فإنه يكون قد أخضع الجنس البشري للعمل والعبودية والتعاسة.» ويُنهي «روسو» إحدى مقالاته بهذا التضرُّع الساخر: «يا الله! خلِّصنا من «التنوير»، ورُدَّنا إلى الجهل والبراءة والفقر.»٤٦
كان «روسو» أوَّل منتقدي الرأسمالية الكبار، والمتنبِّئ الأول بفشل المجتمع المدني،٤٧⋆ وكان نموذجه لا يُقاوَم؛ فعلى مشارف الثورة الفرنسية، أعلن تلاميذه أنَّ السعادة الحقيقية ليست في التكامل مع مجتمع عادي، وإنما هي في التخلُّص منه. وعندما اجتمعَت قوةُ عبارة «روسو»: «يُولَد الإنسان حرًّا … ولكنه مكبَّل بالقيود في كل مكان.» مع مفهوم «الأمة» Volkstum كمجتمع متجذِّر تاريخيًّا، وأقدم وأقوى من المجتمع التجاري، كانت النتيجة هي الليبرالية الرومانسية، وكعقيدة سياسية، كانت مصدرَ إلهام لأشخاص مثل «روبسبيير» Robespierrer و«نابلیون» Napoleon، ثم اكتسحت بعد ذلك أشخاصًا مثل «بيرون» Byron و«شیللي» Shelley و«جوسيب ماتزیني» Giuseppe Mazzini. الحرية الشخصية كانت هدفًا من أهداف التقدم الإنساني، الليبرالية الرومانسية أكَّدت ذلك، والثورة الديمقراطية كانت هي الوسيلة للوصول إلى ذلك.
اضف تعليق