اراد ان يبقي الباب موصودا، على غير العادة، بطريقة مختلفة عن نشأة الرواية، اية رواية، ومقدماتها، جعلت النص عملا متكاملا بدون تعليق، لكنه مستمر وواضح تماما. يكشف عن إمكاناته السردية التفجيرية في الفصول اللاحقة، مع تفاصل دراماتيكية أكثر ملاءمة من وجهة نظر جمالية ـ اليوميات، الازمنة، والاماكن، الأمثال...
سنحت لي الفرصة مؤخرا من قراءة رواية الصحفي والروائي العراقي فاتح عبد السلام الموسومة “الطوفان الثاني”، الطبعة الاولى، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ـ بيروت في آب/ اغسطس 2020، والتي تقع في أكثر من ثلاثمائة وخمسين صفحة من الحجم المتوسط وغلاف من تصميم الفنان علي القهوجي. وعشرين فصلا، تحمل سلسلة من الاحداث الواقعية وصور دراماتيكية تبدو كحكايات من الخيال العلمي. تفاصيل أزمنة وأماكن متغيّرة، ما ان يغادرها القهر حتى يعود اليها من جديد. الرواية عملا دراميا ببصمة فنية، عوالم واضاءات واحداث وتواريخ حقب مؤلمة كادت ان تقضي على خطوات “محو الامية الثقافية” في بلاد الرافدين وتعود بها الى العصور الظلامية..
رواية مثيرة للاهتمام والدراسة، لكن لابد من الاضاءة الى انني في هذه الفسحة الكتابية، لست من المتحمسين لتسمية “الكتابة” فيما يتعلق الامر بالاصدارات الشعرية او الروائية بـ “العمل النقدي”، كما متعارف عليه بين بعض الكتاب العرب،، لفهمي على ان الكتابة تعني “تقييم باستخدام معايير موضوعية”، اي تمظهر يتيح للقاريء الوقوف على جماليات السرد الروائي، او بالمعنى التقريبي “فحص العمل الادبي” لتكون المسافة بين الروائي والمتلقي ثنائية ومباشرة، لا “انشاءً إعلامياً” غير قادر على وصف الرواية في تنوعها وتميزها عن الاشكال الاخرى في ممارسة الكتابة وفن التعبير “لغويا”.
بمعنى آخر اثارة فضول المتلقي، للبحث عن مصدر لاستكشاف الرواية، بدل رأي الناقد “كناقد”، وهو في أغلب الاحيان رأي مجازي او نسبي ان جاز التعبير، واحيانا مرتبط بالموقف الشخصي في مجتمعاتنا العربية.
فاتح عبد السلام كاتب وروائي وصحفي عراقي ولد بمدينة الموصل، ويقيم حاليا في لندن، تخرج من قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الموصل، حصل على درجة الماجستير في الأدب العربي عن دراسة قدمها بعنوان «الشخصية الريفية في قصص يوسف أدريس»، ثم حصل على درجة الدكتوراه عن رسالة قدمها بعنوان “الحوار في الرواية العراقية”. عمل في العراق استاذا مشاركا في مادة الأدب العربي الحديث. صدر له العديد من الاعمال الروائية والقصصية والفكرية والنقدية والدراسات الاكاديمية.
روايته الجديدة “الطوفان الثاني” تجمع بين الواقع والخيال، فصلها الاول الذي تبدأ عنده رحلة الرواية، يثير تساؤلات جوهرية لم تتوقف عند حدود الخاتمة “الفصل العشرون”. بل كشف لنا الكاتب عبد السلام من خلال امكانياته الابداعية والتجريبية واسلوبه السردي عن “جوهرة” النص الادبي الذي يمثل الأساس، وما تمتاز به الرواية ـ وعن مفاهيم وانماط جمالية بطريقة واضحة وأنيقة.. ((ثنت رقبتها على ركبتيها، وأحاطت بذراعيها ساقيها المنطويتين على شكل هرم. غطس رأسها بين ركبتيها، ولم يبق ظاهرا منه سوى جزء من شعرها. بدت كمَن تمارس تمرينا رياضيا يقتضي حبس انفاسها))..
يبدو ان الكاتب عندما بدأ كتابة هذا النص في مستهل روايته (ص 5)، اراد ان يبقي الباب موصودا، على غير العادة، بطريقة مختلفة عن نشأة الرواية، اية رواية، ومقدماتها، جعلت النص عملا متكاملا بدون تعليق، لكنه مستمر وواضح تماما. يكشف عن إمكاناته السردية التفجيرية في الفصول اللاحقة، مع تفاصل دراماتيكية أكثر ملاءمة من وجهة نظر جمالية ـ اليوميات، الازمنة، والاماكن، الأمثال، السير الذاتية التلقائية وما إلى ذلك.
في رواية “الطوفان الثاني” لا يمكن اختزال “القيمة الادبية” للاحداث والحروب الكارثية المؤلمة والشاقة بعيدا عن مظاهر القيم الفنية مثل بانوراما عريضة.. اقتبس من صفحة الغلاف الاخيرة: ((في “الطوفان الثاني” يواصل الروائي العراقي فاتح عبد السلام. الماكث الابدي في كنف الحروب، مشروعه السردي في البحث عن ذلك المعادل المستحيل لانهيارات الحروب.. بؤرة روائية تنبض تحت انساق من رماد ماكر. يغطي ذات الارض التي نحت فيها الطوفان الاول اصوات الملاحم والاساطير وانفاس المدن المضيئة.. هنا “الطوفان الثاني” خط مشروع منكسر لحياة حالمة. لا يقهرها تنين النار. حياة تأبى الا ان ترسم ملامح الوجه الحتمي الآخر من الحرب، اية حرب))..
بالمعنى الاوسع: الأعمال الادبية هي في الأساس مساحات مادية محددة لها طابع جمالي أو فني مقصود. اراد الكاتب في مستهل الرواية، ايصالها للمتلقي ببساطة، كشرط ضروري. وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم الاماكن والازمنة التي تم إنشاء الرواية في ظروف اكتنفها العديد من المصائب والاخطار والترحال. وفي النهاية، لا يخضع الجزء الاول لهذه الظروف والاشياء فحسب، انما تأثرت الفصول التسعة عشر الاخرى بأحداثها الفرعية والرئيسية والنوعية الشاملة.
((اشتراك بريطانيا في الحرب مع الامريكان لاحتلال العراق. انتابتني دفقة من افعالي الصبيانية، وقلت في سري “ماذا لو أطلقت الآن صرخة في العربة، انا عراقي؟)) ص 137 الفصل العاشر.
((ما سر هذه الارض التي طردتني طفلا، ورمت بيّ في ذلك البحر المظلم، ثم اعود اليها رجلا فأجدها غريبة عني، كلما شممت ترابها فاضت في نفسي موجات من الحزن، تغمرني حتى اثمل من الدهشة، او لعله الخوف دون سواه من المشاعر، غير ان رائحة التراب الساحرة كانت تعاند بقوة في سحبي الى ذلك الشوق الغامض الذي لا ينتهي)) ص 287 الفصل الثامن عشر..
((اخبرني عمي وهو يرقبني بالمرايا ان هناك مَن سرق اجزاء من تلك الاعمدة... كانت ابراجا عملاقة لم استطع تخيل صورة الشخص الذي يمكنه ان يسرقها... كان اكبر همنا هو كيف نجتاز حاجز سيطرة يصادفنا، وكيف لنا ان نميّز انه حاجز تابع لقوات الحكومة او لمسلحين يرتدون نفس ملابسها ولديهم نفس سياراتها ايضا، من الممكن ان يقتلوا الانسان بسبب اسمه او دينه او مذهبه؟)) ص 350 الفصل العشرون.
اعتمد الكاتب في كتابة روايته آليات الدقة الزمنية والاجتماعية والمكانية، إذ حددها على أنها قلب العمل، وليس فقط عمل روائي احداثه متشابكة ومعقدة خلال ازمنة مختلفة ملأها المؤلف بالحياة.. وفقا “لأنوشكا باتي” (تحفيز المادة) ـ ليصبح “الصخب الكامل والصخب مقدما” في نقطة التبلور المبكرة التي يمكن من خلالها تنظيم كل الإضافيات بطريقتين على الأقل. من ناحية، المزيد من المواد الأدبية، ومن ناحية أخرى تلبية مطلب “فن الكتابة” كما يشير الى ذلك العبقري “موريس بلانشو” (القدرة على زيادة الأداء المعرفي للكاتب).
ما يلفت الانتباه في “الطوفان الثاني”، ان الكاتب فاتح عبد السلام، كان موفقا في جعل “فصول الرواية” متألفة مع بعضها البعض كـ “حبكة سينمائية”، تسميها (تيريزا فريدريش) بـ “عمل بمعنى الكدح”. كما مكننا من اكتشاف الكثير من المواقف الاجتماعية والعديد من الاحداث والأزمات والاضطرابات المثيرة للاهتمام في السنوات القليلة الماضية. فيما يظهر الابداع الأدبي “للرواية” نفسها، سياقات فيزيائية بارزة، ترتبط بسير الاحداث. لكنها، تظل غير واعية (كالهروب الى عالم آخر، كحل آني) لأجل الحفاظ على “تدفق الكتابة” وهو ما كان بالفعل. اخيرا لابد من التنويه الى ان العناصر اللازمة، حتى في المرحلة الجامحة اثناء كتابة النص الروائي، كانت حاضرة، واللحظة “الهارمونطيقية” لعبت دورا مهما، غالبا ما يتم تجاهلها في الكثير من المناهج الشكلية لأدب الرواية.
اضف تعليق