هذه الاقتباسات تبين أن الكاتب كان ممتعضاً وناقداً بقوة هذه الثورة وما خلفتها من اثار نفسية وانعكاسها على سلوك الناس آنذاك. ومن عيوب هذه الثورة ايضاً جاءت تنادي بالمساواة بين العالم والجاهل وبين المتعلم وغير المتعلم، ونتج عن ذلك الكثير من الجهلة وأصبح لهم ذو شأن بالسلطة...
نقل لنا الكاتب ميخائيل بولغاكف الصورة المأساوية حول الحقبة السوفيتية، وتجسدت هذه الصورة في قصته المعروفة "قلب كلب"، بعد قراءة هذه القصة قلت في قرارة نفسي، من حق هذه السلطة البلشفية ان تمنع مثل هكذا عمل لعدة عقود من الزمن، لأنه كشف مدى خسة ودناءة تلك السلطة، وقلت أيضاً يا لها من سلطة بائسة! وكيف استطاع هذا الكاتب العبقري ان يصف هذه الثورة ومعاناة هذه الناس بطريقة اقرب ما تكون إلى السخرية؟!
احداث هذه القصة اشبه ما تكون بالأحداث التراجيدية، يصور الكاتب فيها كلباً عانى ما عانى من النظام البلشفي، حتى وصل الامر إلى رشقه بماء حار جدا على يد طباخ التغذية لموظفي مجلس الاقتصاد المركزي، وعلى اثر هذا الحادث اصبح الكلب مليء بالحروق، وفي أحد الايام يجدهُ البروفيسور فيليب وينتشله من قارعة الطريق. ويأخذه الى عيادته وتتم معالجته، وفيما بعد يجري له عملية تبديل الغدة النخامية المأخوذة من شخص متوفي. وتنجح العملية ويتحول الكلب إلى انسان.
الشيء الممتع في هذه القصة الكاتب يطرح مواضيع واسئلة واقعية جداً وحيوية حول ما خلفته هذه الثورة البروليتارية ان جاز التعبير على لسان بطله فيليب فيليبتش ويقارن قبل وبعد الثورة، فيقول: "انني أعيش في هذه العمارة منذ سنة 1903. وهكذا، فإنّه خلال هذا الزمن وحتى مارس 1917 لم يحدث ولو مرة واحدة، وأؤكد بخطٍ أحمر: "ولا مرة" أن فُقد ولو زوج واحد من واقيات الأحذية تحت، في مدخل العمارة، رغم بقاء الباب الرئيسي مفتوحاً. ولْتلحظ أن في عمارتنا اثنتي عشر شقة، وعندي استقبال مرضى.
وفي يوم رائع من مارس 1917 فُقدت جميع واقيات الأحذية بما في ذلك زوجان لي، وثلاث عصيّ ومعطف وسماور للبوّاب. ومنذ ذلك الحين غاب رفُّ واقيات الأحذية عن الوجود."(1)، ويتساءل بطله، قائلا: "غير أنني أتساءل: لماذا صار الجميع يسيرون على الدرج المرمري بواقيات وجزمات لبّاديّة قذرة منذ أن بدأت هذه القصة؟ ولماذا حتى الآن يجب أن نقفل على واقيات الأحذية؟ بل علينا أيضاً أن نعيَّن لها جندياً كي لا يسرقها أحد؟ لماذا أخذوا السجّاد عن درج المدخل الرئيسي؟ هل تُرى يمنع كارل ماركس الاحتفاظ بسجّاد على الدرج؟ هل تُرى يذكر كارل ماركس في مكان ما أنّ المدخل الثاني في عمارة كالابوخَف ينبغي أن يُسَدًّ بالأخشاب ليدور الناس حول البيت بغية الدخول من الباب الاحتياطي؟ من يحتاج إلى ذلك؟ لماذا لا يستطيع البروليتاري أن يترك واقيات أحذيته تحت، بل هو يوسَّخ المرمر؟" (2)
جميع هذه الاقتباسات تبين أن الكاتب كان ممتعضاً وناقداً بقوة هذه الثورة وما خلفتها من اثار نفسية وانعكاسها على سلوك الناس آنذاك. ومن عيوب هذه الثورة ايضاً جاءت تنادي بالمساواة بين العالم والجاهل وبين المتعلم وغير المتعلم، ونتج عن ذلك الكثير من الجهلة وأصبح لهم ذو شأن بالسلطة واخذو يتحكمون بمصائر الناس وتحولوا إلى وحوش لا يمكن ترويضها وكبح جماحها.
وقد نوه الكاتب حول هذا الامر بصورة غير مباشرة في نهاية القصة على لسان البرفيسور فيليب فيليبتش، قائلاً: "وما يزال العلم لا يعرف طريقة لتحويل الوحوش إلى بشر. وها أنا قد جربت. ولكن دونما نجاح، كما ترى فقد كان يتكلم وبدأ يتحول إلى الحالة البدائية. لكنه الارتداد إلى الاصل." (3)
واخيراً، ممكن أن اطلق على هذه القصة بالوثيقة التاريخية التي تكشف مدى زيف هذه الثورة الاستعراضية ان جاز التعبير، بل ممكن ان نطلق عليها احدى المراجع المهمة لمن اراد ان يدرس او يعرف هذه الثورة البائسة التي خلفت وراءها الكثير من الضحايا، والى الآن روسيا تعاني من هذا الارث الثقيل الذي جاء عن طريق هذه الثور البلشفية.
اضف تعليق