على قصر الكلمات التي يتضمنها النص المأثور، فهو في واقعه مسلح أبلج لمن أدرك المغزى وعمل به، لأن النص إن استحضره المرء من محفوظاته أو أُلقي على سمعه في محفل خاص أو عام فإنما هو شحذ لذاكرته وشحذ لهمته فعلا أو إمتناعاً، ولهذا ضرب الله...
طالما ردد البعض منا على مسامعه في خلوة أو بين جمع من الخلان أو قوم من العدوان مثلاً أو بيت شعر أو مستشهداً بآية قرآنية أو حديث، أو مقولة مشهورة، يداري بها نفسه المكلومة مدافعا ومنافحا، أو معبراً عن لحظة عنفوان وظفر، أو غيرهما من مواقف العز أو الذل، غير قادر على كتم ما يعتمل في داخله ويساوره، فيتسرب الموقف من ساحة المشاعر والوجدان إلى ساحة النطق والتبيان، فيلهج لسانه، ربما خارج وعيه الآني، بنص مأثور معبراً فيه عن واقع الحال الذي هو فيه أو فيه غيره.
فلا يخلو ذهن المرء من نصوص مأثورة مقدسة أو محترمة، حفظها في مسيرته الحياتية، أو تعلمها من مدرسة الحياة، وكما أتت النصوص غير السماوية من بنات أفكار الناس على مدى التاريخ، فإنها لا تتوقف لأن الحياة هي مدرسة مفتوحة الأبواب مشرعة على كل جديد، ولهذا كلما جمعت النصوص المأثورة وبخاصة الأمثال والحكم في كتاب احتاجت أمة صاحب الكتاب أو عموم البشرية بعد فترة من الزمان إلى تجديد الكتاب وإضافة ما أنتجته الأمة أو البشرية من أمثال جديدة وحكم قويمة، وكلما تعددت اللغات واللهجات تعددت معها الأمثال والحكم الفصيحة والدارجة وازدانت رفوف المكتبات بمؤلفات جديدة.
والنص المأثور في واقعه هو عنوان رسالة أو ديباجة كتاب يحكي ما وراء سطور الرسالة وفحوى الكتاب، وهو ترجمان لواقع أو حالة قائمة دون حاجة للدخول في التفاصيل والجزئيات، متخذا طريقه في النفس البشرية علما وتعليما بسلاسة على طريقة "الحر تكفيه الإشارة"، ولهذا اعتاد الإنسان على حفظ أكبر قدر من النصوص المأثورة ليلقيها في محفل ما دون أن يثقل نفسه بالمطولات أو يحمّل المتلقي وزر التفاصيل والمدونات، متخذا القاعدة الغنية "خير الكلام ما قلّ ودل"
بين يدي كتاب "مختارات ممتعة من المناهل الأربعة" صدر حديثا (2021م) في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 148 صفحة من القطع المتوسط، للأديب الفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي مع تقديم وتقريظ للشاعر الكربلائي مهدي هلال الطفيلي، أورد فيه المصنِّف أربعمائة نص مأثور توزعت بالتساوي على القرآن الكريم والسنة الشريفة والأمثال المأثورة وأبيات الشعر الحكمية، وكل نص يتناول مفهوما من مفاهيم الحياة بلحاظ أنه لسان حال كل إنسان يعيش على وجه البسيطة، وبخاصة الأمثال والحكم التي هي من نتاج التجربة البشرية ناهيك عن النص المقدس المحيط بكل شيء.
وإذا كانت النصوص القرآنية المائة، يسهل إرجاعها إلى سورها ورقم الآية، فإن كتاب "مختارات ممتعة" إمتاز بإرجاع الحديث إلى جذره ومصدره وهو الأمر نفسه الذي جرى مع المثل وبيت الشعر الحكمي مما أضفى عليه متعة أخرى غير الوعظ والإتعاظ والعبرة والإعتبار، وهي متعة التحقيق وإخراج الكتاب من خانة الكشكول والتحشيد العبري والحكمي إلى خانة التوثيق المعرفي، وهذا هو بشكل عام دأب المصنِّف في كل ما يحبِّر نثرا أو نظماً.
من أدب الحوار
من عادة الشخصية ذات التأثير المجتمعي أن تكون لها اطلالة يومية مع ثلَّة من الناس أو عامتهم، أو بين فترة وأخرى اتساقاً مع طبيعة الشخصية ودورها في المجتمع، فالمعلم مع طلبته في صفه، والطالب مع أقرانه في مدرسته، والشاعر في مربده ونادي الشعر، وإمام الجمعة والجماعة مع المأمومين في مصلاه، ورجل الدين في المعبد أو في منزله ومكتبه، فكل مع الأتراب أو المريدين فيما هم فيه.
ومن الطبيعي في مثل هذه الأجواء أن تكون الحوارات المتميزة هو الأمر الظاهر، لأن الإنسان بطبعه اجتماعي يأنس خارج محوطة الدار إلى أعلام الأمة أو أقرانه يسمع منهم أو يسمعون منه، فيسود الإجتماع أدب الحوار.
ولما كان المؤلف الشيخ الكرباسي من العلماء الفقهاء والأدباء المؤلفين الموسوعيين، ومن شأنه رغم مشاغل التأليف والبحث والتحقيق أن يلتقي بعامة الناس وخاصتهم، فإنَّ حديثه وحواره مع الآخرين لا يخلو من نص مقدس أو متن مأثور مثلا أو حكمة أو بيت شعر، وعملاً بالنص النبوي الشريف "قيدوا العلم بالكتابة أو الكتاب" فإنه اختار من محفوظاته التي يتعاطاها مع الآخرين من مناهل القرآن والحديث والمثل والشعر وأدرجها في هذا الكتاب الذي يدخل ضمن مؤلفات أدب الحوار الذي يقابل أدب الطريق حيث اعتاد على الإستفادة القصوى من الزمن فيستغل طريق الذهاب والإياب اليومي بين المنزل والمكتب في نظم الشعر حتى تكونت لديه عشرات الدواوين الشعرية في أغراض مختلفة، وبتعبيره: (صار ديدني كلما ألتقي أحبتنا أو نتحاور في كل ما يجب الحوار فيه، أستشهد بأحد هذه المفاصل الأربعة: القرآن العظيم والحديث الكريم والمثل الحكيم والشعر القويم، وقد بدأت بتسجيلها في ذات اللحظة أو بعد الحوار، وعنونت عملي هذا بأدب الحوار في قبال أدب الطريق).
وهذه الدوحة الغناء من النصوص الحكمية قرأها الطفيلي فوجدها: "مفازة خضراء تجذب إليها الناظر ليستظل في ظلها ويستمتع بمناظرها الخلابة وينهل من مناهلها الرويَّة التي تحتوي على مآثر مقدسة وخالدة وتراث أدبي زاهر وثر"، وقال فيها شعرا من بحر الرمل من عشرة أبيات جاء في المطلع ثم الخاتمة:
هاكَ في الأمثالِ سفراً خالداً *** يحملُ الحكمة من فكرٍ حدا
فهي مختاراتٌ فيها متعةٌ *** للذي ينهلُ منها قاصدا
منهج الحياة
على قصر الكلمات التي يتضمنها النص المأثور، فهو في واقعه مسلح أبلج لمن أدرك المغزى وعمل به، لأن النص إن استحضره المرء من محفوظاته أو أُلقي على سمعه في محفل خاص أو عام فإنما هو شحذ لذاكرته وشحذ لهمته فعلا أو إمتناعاً، ولهذا ضرب الله في ما أنزله من كتب مقدسة على أنبيائه الأمثال، وقال وقوله الحق: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) سورة إبراهيم: 25.
والنصوص المقدسة إلى جانب السنة الشريفة وأحاديث أهل بيت النبي (ص) تشكلان في واقعنا منهج حياة لإعمار الأرض وضمان عمارة الآخرة، وبتعبير المؤلف: (إن الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بأقسامها الثلاثة القدسية منها والنبوية والعتروية، تكمل لنا الأسس الثلاثة: المنهج الأخلاقي والمنهج الفقهي والمنهج العقائدي)، وقد قصد من توضيبها في كتاب: (أن أُذكِّر نفسي أولاً بها وأُذكِّر إخواني وأخواتي بتراثنا العظيم الذي حمل إلينا الحكم بغرض تفعيلها، وإنما أنا مُذكِّر لا غير والذكرى تنفع المؤمنين، حيث إنَّ فيما اخترته يمكن أن يكون منهج حياة وخطة عمل لكل مَن يمتلك روح التغيير إلى الأفضل).
هذه الأسس الثلاثة نجد كلياتها وعمومياتها في القرآن الكريم، فيما نجد تفاصيلها في السنة الشريفة، وأما التفاصيل فقد أودعها الراسخون في العلم لدى العلماء الأعلام حسب السياقات الزمانية والمكانية حتى قيام الساعة كما قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع) لزمرة العلماء: (علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع)، بوصفه من الثقل الآخر إلى جانب ثقل القرآن كما جاء في مسند أحمد: 3/14 على لسان النبي الأكرم محمد (ص): (إنِّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض).
وتشكل نصوص الثقلين ركيزة أساسية لكل محاور وخطيب وكاتب، ومصدر لكل مثل مشهور أو بيت منظوم أو نثر مأثور، كما تشكل الحياة وتجاربها وعاءً تختزنها الأمثال في بضع كلمات، وكما قال الجاحط عمرو بن بحر البصري المتوفى سنة 255هـ: "الأمثال خزائن ومعارض التجربة".
وأما الرابع من المناهل الأربعة فهو الشعر: (المأخوذ من الشعور والإشعار حيث يمت للأحاسيس والإنسانية وإن لم يكن كذلك لا يمكن إطلاق الشعر عليه حقيقة وإن تزيَّن بالقافية والوزن والمفردات الجميلة، حاله حال المرأة غير الجميلة التي تزف إلى مخدعها وقد زينت بمثاقيل من المساحيق).
ويُلاحظ في عدد غير قليل من الأمثال إشتقاقها من آيات القرآن الكريم أو من الأحاديث الشريفة وارتكازها على النصوص المقدسة والشريفة، والحال نفسه مع الأبيات الحكمية التي ارتوى ناظمها من معين القرآن الكريم والسنة الشريفة، من قبيل المثل الشائع: "الصبرُ مفتاحُ الفرج" الذي يجسده قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ) سورة البقرة: 155، أو المثل المعروف: "إرحموا عزيز قوم ذل" المأخوذ من حديث النبي الأكرم (ص): (إرحموا ثلاثة: عزيز قوم ذلّ، وغنيَّ قوم افتقر، وعالما تلاعب به الصبيان).
ومن المنظوم الذي يمثل لسان حال شخص أو واقعة أو حدث عظيم قول الشاعر أبو الحب الكبير محسن بن محمد الكعبي المتوفى سنة 1305هـ، من بحر الكامل:
إن كانَ دينُ محمدٍ لم يستقمْ *** إلا بقتلي يا سيوفُ خُذيني
ومطلعها من قصيدة بعنوان "بيضة الإسلام":
إن كنتِ مشفقةً عليَّ دعيني *** ما زالَ لومُكِ في الهوى يُغريني
العلم من المناهل الأربعة
توزع الكتاب على اربعة فصول:
الأول: (أقوال العلي الأعلى) وتحت هذا العنوان فيه بيان (الذكر الحكيم) ومراده كمنهج حياة، و(الآيات المُحكمة) وفيه أورد مائة آية ومفادها.
الثاني: (في أقوال الرسول وآله) وتحت هذا العنوان فيه بيان (الثقل الأعظم) ومراده، و(الأحاديث الشريفة) وفيه أورد مائة حديث ورواية ومفادها.
الثالث: (في أقوال الحكماء) وتحت هذا العنوان فيه بيان (المُثُل العليا) ومرادها، و(الأمثال النفيسة) وفيه أورد مائة مثل ومفادها.
الرابع: (في أقوال الشعراء) وتحت هذا العنوان فيه بيان (الشعر الهادف) وأغراضه، و(الأشعار الرصينة) وفيه أورد مائة بيت أو تزيد حيث كان في المفاد في بعضها يكتمل ببيتين، كما في البيتين التالين المنسوبين إلى الإمام علي (ع) وقد خطَّهما على كفن سلمان المحمدي المتوفى في المدائن سنة 35هـ، من بحر الوافر:
وفدتُ على الكريم بغير زادٍ *** من الحسناتِ والقلبِ السَّليمِ
وحملُ الزاد أقبحُ كل شيءٍ *** إذا كان الوفود على الكريمِ
ومن النماذج الظاهرة في المناهل الأربعة هو مفردة العلم والسفر إليه والتواضع في طلبه ونشره.
فمن نماذج فصل الآيات قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) سورة التوبة: 122.
ولأن العلم يُطلب، فكان من نماذج فصل الأحاديث كما حث الرسول الأكرم (ص) البشرية بأن: (أطلبوا العلم من المهد إلى اللحد) ودعاهم الإمام علي (ع) إلى: (أطلب العلم ولو بالصين) على بعد المسافة في تلك الأزمان، ولما كان لكي شيء زكاة فكان التأكيد: (زكاة العلم نشره)، ومن أساسيات العلم والتعلم أن: (لا يستحي أحدُكم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم) كما يؤكد إمام البيان علي بن أبي طالب (ع).
ولأن لكل شيء آفة، فكان من فصل الأمثال أنَّ: (آفة العلم النسيان)، على أنَّ: (العلم في الصغر كالنقش على الحجر).
ولأن العلم يُطلب وفيه النماء، فكان من فصل الأشعار، البيتان المنسوبان إلى الإمام علي (ع)، من بحر الطويل:
تغرّب عن الأوطان في طلب العُلى *** وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
تفرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ *** وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ
وحيث لا تستقيم الحياة إلا بنور العلم، فإن أمير الحكمة علي بن أبي طالب (ع) يدعونا، من بحر البسيط:
فقم بعلمٍ ولا تبغي بهِ بدلا *** فالناس موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
وحيث كان العلم خاتمة هذا المقال، فإن الفقيه والأديب آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي ختم كتابه تحت عنوان (الرحيق المختوم)، بالقول: (هذه الأركان –المناهل- الأربعة وجدتها ماثلة في كل حواراتي مع الآخرين سواء في لقاءاتى او محاضراتي أو عبر الهاتف مما يعني أنني طيلة حياتي أستخدمها وهي مغروسة في ضميري وهي من الأمور التي أعتمد بها بشكل عام ليل نهار مع الآخرين)، ولأن التواضع شرف العلماء كان: (لابد من شكر الخالق، فلقد قام الأخوان الفاضلان الأستاذ علي التميمي حفظه الله المولى بتنضيد الكتاب وترتيبه، والدكتور نضير الخزرجي بوضع المصادر وتحقيقها وفقه العلي الأعلى، وإني إذ أشكرهما حيث شأني إتعاب غيري وشأن رفقتي إعانتي على عملي، والله سبحانه وتعالى هو الذي يجزي الشاكرين).
اضف تعليق