هناك كتب على صغر حجمها وبساطة عناوينها الا أنها تغير فيك طرائق التفكير وتصنع بداخلك مهارات التعبير والتعليل وتدربك على فنون العلاقات وآداب المعاملات ومفاتيح العيش وسعادته مع الناس. هذه الكتب نادرة حتى في أيامنا لعل لاختلاف الميول وتنوع الاهتمامات وتعدد الثقافات، لكن كتاب يناقش بحركة فكرية...
بقلم: أ. عبد الحميد الحسني-كاتب من المغرب
هناك بعض الكتب تجذبك فقط أحاديث الناس عنها وأخرى تأسرك عناوينها لكن بعد خوض غمار قراءتها تتفاجئ اما من بساطتها أو غموضها أو ضآلة آفاقها، لكن هناك كتب على صغر حجمها وبساطة عناوينها الا أنها تغير فيك طرائق التفكير وتصنع بداخلك مهارات التعبير والتعليل وتدربك على فنون العلاقات وآداب المعاملات ومفاتيح العيش وسعادته مع الناس.
هذه الكتب نادرة حتى في أيامنا لعل لاختلاف الميول وتنوع الاهتمامات وتعدد الثقافات، لكن كتاب يناقش بحركة فكرية بسيطة ولغة تحليلية عميقة وطرائق وصفية هادفة يكون مغنما لكل القراء بشتى تطلعاتهم وأغلب ميولاتهم لأنه كتاب يهدف للمشترك الانساني ويؤسس للصالح العام..
إنه كتاب من الحجم الصغير يقع في٣١ صفحة يناقش مسألة جدا مهمة ترتبط بحقوق الإنسان على ضوء خطب سيد الشهداء الامام الحسين عليه السلام للمؤلف الدكتور الشيخ عبد الله أحمد اليوسف تحت عنوان: الإمام الحسين عليه السلام وتأصيل حقوق الإنسان عن منشورات أفكار ببيروت سنة ٢٠١٥م.
مقدمة: يستهل الكاتب بحثه بمقدمة مفعمة بالدقة والتركيز حيث يقارب موقعية حقوق الإنسان في المنظومة الإسلامية ويوضح مدى اهتمام القرآن الكريم بمسائل العدل والظلم مما يعكس محورية العدل في الرؤية الإسلامية، ثم ينتقل إلى مقاربة أهم الحقوق التي تضمنتها خطب الامام الحسين عليه السلام:
١. حفظ الكرامة الإنسانية: قدم المؤلف ابتداءا ما احتوته ديباجة حقوق الإنسان للأمم المتحدة ليسلط الضوء على ماهية الكرامة والعزة في النهضة الإصلاحية للإمام الحسين عليه السلام.
٢. التمتع بالحرية: من خلال قداسة الحرية في المنظومة الحقوقية الإسلامية وأولوياتها كحق قيمي عام وخاص مرتبط بكل تفاصيل حياة الإنسان، عرض الكاتب الدكتور اليوسف فلسفة الحرية وفاعليتها في خطاب الإمام الحسين عليه السلام ليس لأتباعه فقط بل حتى لمن واجهوه ظلما واستكبارا، الحرية في خطابات الامام الشهيد عليه السلام ذات مغزى وجودي ومصيري حيث لا يمكن أن تجد ولوجزئية صغيرة من نهضة أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلا وتتضمن قيمة الحرية وتنادي إليها والتمتع بها حتى آخر رمق وهذا ما أشار إليه مؤلف الكتاب.
٣. المساواة بين الناس: على ذات النهج يقعد الكاتب لهذه القيمة الحقوقية اسلاميا والتي تؤكد على رفض الاسلام لكل أشكال التمييز العنصري أو العربي أو الديني أو المذهبي بين بني البشر ويؤشر كذلك ان مكمن المشكلات الاجتماعية الراهنة راجع في أغلب حالاته وظواهره لعدم تكافؤ الفرص وتفشي المحسوبيات في الحياة العامة مما تسبب في تأخر التنمية المجتمعية وغياب العدالة الاجتماعية، لافتا النظر للتجديد الحسيني العظيم لقيمة المساواة بين الناس في الجانب الإنساني.
٤. حق إختيار الحاكم: تركيزا لأصالة الحرية في حياة الإنسان وتأكيدا لقيمة أساسية ترتبط بالحرية السياسية التي مارسها الامام الحسين عليه السلام وتمتع بها وتجلت بكل عظمة وعزة وكرامة وتقوى في ثورته الإصلاحية رفضا للظلم وتمثله في شخصية الحاكم الظالم والدعوة لترسيخ العدالة في كل مواقع المسؤولية ابتداء بالنداء لان يكون الحاكم عادلا والا أصبحت القيم الحقوقية جوفاء وبلا معنى واقعي.
باسلوبه الإرشادي الثقافي المعتاد في جل مؤلفاته ومحاضراته وخطب الجمعة، يعبر بنا الدكتور اليوسف من المعرفة النظرية إلى الدرس التطبيقي وخريطة الطريق فيما يتعلق بالمسؤوليات والواجبات كأفراد ومجتمعات تجاه مسألة حقوق الإنسان، من خلال بضعة نقاط ذات أهمية قصوى في بناء الوعي الحقوقي للأفراد والمجتمعات في مجالنا العربي والاسلامي:
أ. تنمية الثقافة الحقوقية: بإختصار ركز المؤلف في هذا البعد على ضرورة الاطلاع -على الاقل- الإجمالي حول مسائل حقوق الإنسان (العدل، الحريات، الأخلاق، الحقوق، الواجبات) من خلال الإعلانات والمواثيق والكتب الفكرية للعلماء والأبحاث الفقهية ذات الصلة بالموضوع، حتى يتمكن الشخص من معرفة ما له وما عليه.
٢. المطالبة بالحقوق المشروعة: مشروعية الحقوق مرتبطة بإنسانية الإنسان والتنازل عنها يعني تنازل عن الإنسانية ورضوخ للظلم والاستعباد وما هنالك، هذا ما نبه اليه المؤلف في هذا البعد العملي.
٣.احترام حقوق الناس: يضيف الدكتور اليوسف في تأكيده على ماهية التمتع بالحقوق الإنسانية، نقطة ذات أهمية جوهرية، حيث انتهاك الحقوق المشروعة قد لا يكون فقط من قبل السلطة الحاكمة بل يأتي أحيانا كثيرة من الناس تجاه بعضهم البعض حيث يستطرد الكاتب في تحليل هذا البعد من خلال الإشارة بماهية التعارف الإنساني وأهمية التقوى والتعاون عليه في صيانة الحقوق المشروعة للجميع كما دعا إلى ذلك الاسلام في عدة مواضع من القرآن الكريم والسنة الشريفة.
الخاتمة: هكذا وعلى ضوء آفاق الخطاب الحسيني الخالد والباعث للنباهة والوعي الإسلاميين يختم الكاتب الدكتور الشيخ عبد الله اليوسف بحثه بتعداد أهم أهداف النهضة الإصلاحية للإمام الحسين عليه السلام والتي تعتبر مدرسة لتعليم وتنمية الثقافة الحقوقية المستوحاة من روح أخلاق واحكام الاسلام.
1. صناعة الإنسان الرسالي الملتزم بالقيم الدينية والحقوق الإنسانية والأخلاق الإسلامية.
2. وجوب العمل على مايلي:
- تحقيق العدل وارساء العدالة الاجتماعية
- مواجهة الظلم والوقوف بوجه الظالمين.
توصيات إضافية:
أما بعد من حق الدكتور الشيخ عبد الله اليوسف علي ان اعبر له عن إعجابي الشديد بهذا البحث المقتضب والمثير لاهتمامات فكرية وفلسفية وأصولية وفقهية جادة في المنظومة الثقافية الإسلامية، لأن مسألة الحقوق موضوع شائك ومعقد لا يستدعي فقط الإحاطة والإلمام بمباحثه وجذوره ومفاهيمه ومواثيقه واعلاناته فحسب، وإنما يتطلب قدرا من الحكمة والتمكن المنهجي في ربطه بموضوع ذو ثقل ديني وتاريخي ومركزية خاصة في بناء الوعي الإسلامي الرصين، كماهي قراءته لاستنباط مقاربات تأصيلية وهو الموضوع الذي يتطلب الشجاعة والنزاهة من كل قارئ مسلم أو غيره، لأن الحديث عن حقوق الإنسان في ضوء ورحاب النهضة الإصلاحية للإمام الحسين عليه السلام ليس كأي حديث من أحاديث مقاربة حقوق الإنسان، كونه يستحضر المنظومة القيمية الإسلامية ككل بشقيها النظري والعملي الاستراتيجيين.
أود التركيز على عدة نقاط كإضافة لعل وعسى يتوسع الدكتور اليوسف أكثر مستقبلا في قراءته لمسألة حقوق الإنسان على ضوء نهضة الامام الحسين عليه السلام أو أحد الإخوة الباحثين المهتمين بهذا الشأن البحثي:
1. منهجيا فك الجدلية القائمة حول المسألة الحقوقية بين الفلسفة المعاصرة والدين عبر مقاربة فلسفة القيم ورسالة الحقوق في الشريعة الإسلامية بما يبسط للقارئ استيعاب المنعرجات المفاهيمية والمقاربات التأصيلية في المباحث اللاحقة.
2. التطرق لجذور المأزق الحقوقي ومقارباتها مع الأوضاع التي حصلت قبيل النهضة الإصلاحية للإمام الحسين عليه السلام وما دفعه لمواجهة رموز الظلم والمنافقين والمترددين.
3. التمييز بين الأسباب والنتائج، على سبيل المثال أزمة الحرية السياسية التي ترتبط جذريا وفعليا بأزمة الدولة في الراهن العربي والاسلامي، أضف إلى ذلك إشكالية انسداد قنوات التواصل بين المجتمع وفئاته المدنية والسياسية.
4. تخصيص مبحث لدراسة ثقافات الهيمنة في الاجتماع العربي والاسلامي من خلال مقاربتها مع ما كان عليه المجتمع قبيل نهضة الامام الحسين عليه السلام، لتكون مدخلا نقديا حفريا معمقا كظاهرة سوسيوثقافية قاتلة بحاجة لتجاوز.
5. تفكيك ظاهرة السلطة البيروقراطية في الواقع العربي لما تمثله من مأزق في مشوار الفعل الحقوقي الاستراتيجي.
6. استيعاب منطقي الإصلاح والتجديد في احياء الحس الأخلاقي لتنمية الثقافة الحقوقية وهذا ما أشار له إيحاءا المؤلف في عدة مواضع من الكتاب لكنه مبحث يحتاج لإستفاضة لتلافي الانحراف والتخبط المنهجيين.
7. ضرورة مقاربة واقع الخطاب الديني حول مسائل الحقوق وتجديد القراءات بما يتناسب وراهن الناس.
8. طرح الثقافة الحقوقية اسلاميا من خلال قضاياها البنيوية والاجتماعية ومقاربة مستقبل المسلمين بتحدياته في ظل انفجار الهويات والخصوصيات الثقافية، مما يدفع بالأفراد والجماعات إلى مراجعات موضوعية لا ذاتية مما يحرك مياه التنمية الثقافية والاجتماعية الراكدة، عبر ابتكار ورشات نقاشية حول ملفات حقوق الإنسان ( الطفل، المرأة، الزيجات المسنين، المعاقين، البدون، المساجين، عابري السبيل..إلخ) خلال الموسم العاشورائي.
9. خص هذا الكتاب بموضوع مصيري وخطير من موضوعات حياتنا العربية والإسلامية، لما له من وثيق الصلة بتاريخنا وتخبطات حاضرنا وأحلام مستقبلنا، مما يستوجب فتح مباحثه وتوسيعها بما يدعم قضية الوعي الحقوقي على ضوء كنوز النهضة الإصلاحية للإمام الحسين عليه السلام التي يجهلها حتى كبار الحقوقيين على طول خط طنجة مسقط لحاجة في نفوس بعضهم وضيق أفق ثقافة البعض الآخر..
10. الثقافة الحقوقية لابد أن تنطلق من الجامعات والمؤسسات التربوية والإعلامية والدينية والإصلاحية، وهذا المبحث لوحده يحتاج أيضا مقاربة للواقع وتحديد المسؤوليات والتحديات ورسم الخطط والتطلعات بما يتناسب والهدف العام.
اضف تعليق