للوصية مغزى كبير في مسيرة الإنسان، ومع تقادم العمر وتفتح زهرة الحياة، أدركت مفهومها ودورها الخطير، إذ لا مناص منها عند الموت أو قريب منه بخاصة لمن يترك أملاكا وذرية، وهي في الأعم الأغلب تنم عن فائدة تعم على الورثة ويظل يجني فضلها الموصي وهو...

كل واحد منا وهو في مقتبل العمر، يسمع ويقرأ ويرى، يستوعب الكلام بعضه أو كله، والكثير منه يمر مرور الكرام، وبعضه يظل عالقا في الذهن دون تفسير مقنع، وحتى لو عرف السبب فإن حداثة السن ربما لا تتيح للواحد استيعاب المراد، أو هو غير قادر على الإدراك، وهذا أمر طبيعي، لأن الحياة مركب تجارب وتراكم خبرات، والفهم والإستيعاب عبارة عن خميرة ذهنية معجونة بماء الحياة فكلما امتاح المرء من عينها بيد الممارسة ودلو العمر كلما كان أقرب إلى الفهم والإعتبار، لأن الحياة معترك، يستفيد منها من يستفيد ويتعثر من يتعثر، وهي دولاب ليس للإنسان أن يوقفه ولكن بإمكانه أن يتحرك مع بوصلته بما ينفعه في الدارين مع القدرة على الإستيعاب والتحمل، وإذا سقط في منحنى أو منزلق نهض دون يأس.

كأي صغير في السنة الأولى من رحلة الدراسة بدأت أتعامل مع الألف والباء، وبعد أن فتحت الخط كما يقولون وبدأت أقرأ وأكتب، وزدت على ذلك المطالعة الخارجية والميل نحو الأدب قراءة وكتابة، وبحكم النشأة في مدينة دينية مقدسة هي كربلاء تضم مرقد سيد شباب أهل الجنّة، كانت المساجد والجوامع والحسينيات والبيوتات عامرة بالمجالس الحسينية التي تنقل للمستمع حوادث ما جرى في كربلاء عام 61 للهجرة واستشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه وأسر عياله على يد أناس زعموا زورًا الإيمان برسالة جدّه محمد (ص)!

والخطباء المنبريون على أنواع، وأقربهم إلى المستمع النازعة نفسه إلى سماع التراجيديا، هو الذي يفصَّل القول في الواقعة، يصوّرها بشكل بديع مع شيء من الحبكة الدرامية، مثلما كان الحكواتي يرمى على مسامع المتنرجلين في المقاهي بطولات أبو زيد الهلالي وعنترة بن شداد، فالخطيب يشد المستمع لأمر وقع مع حبة مسك زيادة، والحكواتي يشد المستمع لأمر مشكوك مع كثير من البهارات.

ومن فرسان واقعة طف كربلاء هو الشهيد مسلم بن عوسجة الأسدي الذي كان من أبطال فتح آذربايجان سنة 22 للهجرة، وقيل كان ممن رأى الرسول (ص)، والآخر شيخ الشهداء حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كان ممن رأى الرسول (ص) وصحبه، وهاتان الشخصيتان كثيرا ما طرق اسماهما طبلة إذني منذ الطفولة حيث كان منزلنا وسط المدينة القديمة وهو منزل جدي الأعلى الحاج علي شاه بن عبد الحميد البغدادي الخزرجي المتوفى سنة 1909م عامرًا بالمجالس الحسينية وبخاصة في شهر محرم، وقد وعيت الواقعة الأليمة على نعي الخطيب الحسيني الفقيد السيد كاظم القارئ آل قفطون الفائزي، وفي كل مرة عندما يأتي الحديث عن الأسديين كانت الوصية هي المحور وعليه تدور دائرة النعي ونقل المستمعين إلى مستوى التثوير الوجداني وصب الدموع صبا.

ومما جاء في الأثر أنه حين وقع مسلم بن عوسجة أرضا: مشى إليه الحسين (ع)) فإذا به رمق فقال: رحمك ربك، يا مسلم بن عوسجة (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)، ودنا منه حبيب بن مظاهر فقال: عز علي مصرعك يا مسلم، أبشر بالجنة. فقال له مسلم قولا ضعيفا: بشَّرك الله بخير. فقال له حبيب: لولا أني أعلم أني في أثرك لاحق بك من ساعتي هذه، لأحببت أن توصيني بكل ما أهمك حتى أحفظك في كل ذلك بما أنت أهل له في القرابة والدين. قال: بل أنا أوصيك بهذا رحمك الله -وأهوى بيده إلى الحسين- أن تموت دونه. قال: أفعل، ورب الكعبة! فما كان بأسرع من أن مات في أيديهم.

كنت أعجن كلمات القصة بدموع منهمرة من جفون حدث صغير، وكنت وقتها أتساءل مع نفسي عن الوصية وجدواها في هذه الساعة العصيبة والإثنان في طريقهما إلى الموت المحتم حيث حاصر جيش من ثلاثين ألف مقاتل بضعة مئات من الصابرين المحتسبين.

إذن للوصية مغزى كبير في مسيرة الإنسان، ومع تقادم العمر وتفتح زهرة الحياة، أدركت مفهومها ودورها الخطير، إذ لا مناص منها عند الموت أو قريب منه بخاصة لمن يترك أملاكا وذرية، وهذه المفردة المهمة يتابعها الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كتيب "شريعة الوصية" الصادر نهاية العام 2019م في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 64 صفحة، متضمنا 123 مسألة شرعية و58 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر ومثلها للمعلق وتمهيد للمصنِّف.

الوصيَّة ثم الوصيَّة

تتفتق مفردة الوصية وبشكل عام عن مجموعة معاني إيجابية وطيبة، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد: (فإن الوصية: مصدر وصل يصلُ، بمعنى أن الموصى بذلك يوصل معروفه إلى الموصى له)، والمعروف كأن يكون مالا أو عقارًا أو عهدًا، وهي في الأعم الأغلب تنم عن فائدة تعم على الورثة ويظل يجني فضلها الموصي وهو في ملحودة قبره فيما إذا أوصى بثلث أمواله لوقفها على منافع الخير، وإذا أحسن سلسلة الأوصياء رعايتها فإنها قابلة للدوام قرنا بعد آخر، فالوصية إذن من حيث التعريف الشرعي: (هي أن يعمد الإنسان قبل موته إلى آخر ليقوم بما يرغب بعد موته، حسب الموازين الشرعية)، وبالطبع كما يضيف الفقيه الغديري في تعليقه: (وذلك في الأمور المباحة له شرعًا وفي الحقوق الثابتة المحرزة له غير المشكوك فيها).

وجاء تشريع الوصية في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنْ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنْ الآثِمِينَ) سورة البقرة: 106، وكما جاء فرض الصيام بصيغة الكتابة كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة البقرة: 183، جاءت الوصية بالصيغة نفسها: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ)، وهذا يدل على أهمية الوصية في حياة المرء وبعد رحيله، وأفضلية تحريرها من أجل صيانة الحقوق والحفاظ على سلامة أسرة الموصي وعموم المجتمع وإبعادها عن الإختلافات والمشاكل وطرق أبواب مراكز الشرطة بخاصة لمن ترك وراءه ثروة كبيرة، فلربما للمتوفي صاحب المال متعلقات أخرى وحقوق أخرى له أو عليه، فإن لم يعهد أو يوصي ربما تفجرت المشاكل في وجوه الورثة، فيصبح ما تركه نقمة عليهم، وعلى أي حال فإن الأصل في الوصية كما يشير الفقيه الكرباسي: (أصل الوصية مستحبة، وربما تكون واجبة إذا كانت فيها حقوق وواجبات لا يعلمها غيره).

ولأن الوصية على قدر من الأهمية ورد التأكيدان القرآني والنبوي على أدائها من جهة وتنظيمها بشكل حسن من جهة ثانية، وفي أصلها قال الرسول الأكرم (ص): (الوصية حقٌّ على كل مسلم)، وفي تحسينها قوله (ص): (من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصًا في مروءته وعقله)، وإذا لم يوص المرء شفويا أو تحبيريا أو بالإشارة أو القرينة وترك الأمور على غاربها دخل في زمرة من قال فيه (ص): (مَن مات بغير وصية مات ميتة جاهلية)..

وبالطبع فإنها ذات أثر ووقع إثباتا أو نفيا، إثباتا إن كان صاحب حق على آخرين، أو نفيا إن لم تكن في رقبته حقوق لآخرين عليه، وإذا كانت الأولى واضحة ومفهومة المراد فإن الثانية تتطلب من الموصي النفي لئلا يأتي بعد رحيله من يدّعي شيئا يلزم الموصى له أو الورثة إخلاقيا الوفاء به من دون وجه حق، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (الأجدى أن يوصي حتى وإن ذكر بأنني غير مطلوب لأحد ولا أطلب من أحد شيئًا، ولا أريد أن تعملوا لي شيئا، وليست لديّ أملاك وأموال، فهذه الوصية بحد ذاتها تفيد الورثة، سواء في أداء الواجبات الشرعية كالصلاة والصوم والحج والخمس والزكاة، أو بالنسبة إلى الطلبات والديون، فلو أنَّ أحدًا ادّعى أنه يطلب الميت لا يمكن قبول قوله إلا بدليل مقنع حيث نفى الميت ذلك، ولا يقع الولد الأكبر في حرج أو شك هل كان عليه شيء من الواجبات لتؤدى عنه).

أركان الوصية

ولأن الوصية بين طرفين أو أكثر، فإنها متكونة من أركان خمسة: الموصي، الوصي، الموصى له، الوصية، والموصى به، ويشترط في الموصي: البلوغ والعقل والاختيار، وفي الوصي: البلوغ والعقل والإختيار والقبول والقدرة، وفي الموصى له: الإسلام والعقل والوجود وسلامة صفحته من قتل الموصي، وفي أصل الوصية: أن تكون شرعية، وأن لا تزيد على الثلث، وأن تقع الوصية في غير مرض الموت، وفي الموصى به من مال أو غيره: الوجود والإباحة وان لا ينافي قانون الإرث.

وتنبع قيمومة الشروط من أهمية الوصية نفسها، فليس للسفيه أو المجنون أن يوصي، ويُحتَّم في الوصي الإنصاف، -على أنَّ عددًا من الفقهاء أفادوا بضرورة إحراز العدالة-، من أجل ضمان تطبيق الوصية وعدم الحيف فيها وظلم الموصى به، كما ليس لصاحب المال أن يوصي أكثر من الثلث، نعم هو يستطيع أن يهب ما يشاء لمن يشاء من ذوي الرحم أو خارجهم وهو على قيد الحياة وفي كامل قواه العقلية والبدنية، ولكنه لا يستطيع عند الوصية أن يوقف أكثر من الثلث، حفاظا على حق الورثة ومنعا من الوقوع في السفه أو الصرف المفرط على حساب متعلقيه حتى لو كانت في أمور خيرية، فالذي وهب له المال وأغناه فرض عليه ما فرض وأغلق يده إلا في حدود الثلث، بل وأكثر من ذلك كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (فإن المساحة المتاحة للتصرف في أمواله هي الثلث، كما ليس له الحق بالتصرف في الثلثين والتلاعب في قوانين الإرث من حرمان بعضهم أو تكريم بعضهم على الآخر، مما يوجب الحقد والكراهية بين الواحد من الأقارب) وبأزاء ذلك حرّم الإرث على القاتل: (إذ لم يغضّ الإسلام الطرف عن موجبات منع الإرث والتي من أهمها أن يكون الوارث قاتلا لصاحب المال).

ولا يخفى أن هناك أزمانًا تتأكد فيها الوصية، ولا سيما في السفر، فإن الإنسان قبل اكتشاف وسائل السفر الحديثة كان يقطع رحلة التجارة أو طلب العلم أو سفر الحج لأشهر يترك من خلفه أسرة وذرية وربما أموالا منقولة وغير منقولة، ولهذا كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (يستحب أن يوصي المرء إذا أراد السفر وبالأخص إذا كانت السفرة فيها مخاطر)، وربما يتحقق الأمر حتى لو كانت غير معروفة المخاطر ولكنها منظورة بعلم الله لأن الإنسان لا يعلم الغيب، وحوادث السير واحدة من المخاطر غير المنظورة.

وكما هي الأزمان هناك أماكن تتأكد فيها الوصية، مثلما هي في البلدان الغربية، وخاصة لمن يملك أموالا منقولة وغير منقولة، لأن الدولة حين الموت تكون شريكة مع الورثة وبنسبة عالية تصل إلى نسبة 40 بالمائة إن لم يكن قد عهد بوصية مسجلة لدى الدوائر الرسمية، فيكون حينئذ قد فرّط فيما جناه طول حياته أو ورثه، وظلم أهل بيته.

إذن فالوصية على غاية من الأهمية، وتزداد تأكيدا لمن يترك من خلفه ملكا وورثة، والأمر له إن رغب في الخير بعد الموت أحسن في الوصية، وإلا ربما تلقى اللعنات على لسان من نزل من صلبه.

* الرأي الآخر للدراسات-لندن

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق