كيف نجد الحياة المناسبة لكل منا؟ الكثير من الناس يشعرون انهم منهكون بالكفاح اليومي لبلوغ الحياة التي يطمحون اليها. الاطفال وُضعوا تحت ضغط لا يُحتمل لكي يحققوا أهدافهم، البالغون يصارعون في معركة مستمرة لإيجاد توازن بين الحياة العائلية والعمل والحاجات الاقتصادية، الكبار في السن يعانون...
كيف نجد الحياة المناسبة لكل منا؟ الكثير من الناس يشعرون انهم منهكون بالكفاح اليومي لبلوغ الحياة التي يطمحون اليها. الاطفال وُضعوا تحت ضغط لا يُحتمل لكي يحققوا أهدافهم، البالغون يصارعون في معركة مستمرة لإيجاد توازن بين الحياة العائلية والعمل والحاجات الاقتصادية، الكبار في السن يعانون من العزلة الاجتماعية وقلة الأمن العاطفي. الناس من كل الأعمار يشعرون باستمرار انهم في تضاد مع العالم وغير قادرين ان يعيشوا حياة تنسجم مع مواهبهم وحاجاتهم الفردية.
أصل المشكلة وهي ما الذي يجعل الانسان انسانا، يعالجها الكاتب والخبير ريمو لارغو في نظريته الجديدة عن كفاح الانسان متعقبا تطورنا كأفراد منذ بداية التطور وحتى القرن الواحد والعشرين. هو يقترح ان الفهم الحقيقي لكفاح الانسان لا يساعد الناس فقط في العثور على طريقهم نحو الفردية وانما يساعدهم ايضا في تشكيل المجتمع والاقتصاد لكي يعيشوا حياتهم بأفضل ما يمكن.
هل العالم الحديث يمنع معظم الناس من العيش والعمل وفق الطريقة التي تناسبهم؟. ماهي الطريقة الصحيحة التي يجب ان يعيش بها البشر؟ السؤال قديم قدم الانسان ذاته، وسيكون من المدهش جدا ان نجد بعد كل هذا الوقت منْ يأتي بكتاب يطرح "نظرية جديدة في ازدهار الانسان". من المفرح ان المؤلف كطبيب بارز لا يتبنّى هذا الادّعاء لنفسه. بعد اربعة عقود من دراسته لتطور الطفل ذلك حفّزه لصياغة ما يسميه مبدأ الانسجام "fit principle": "كل انسان، ومع وجود حاجاته الفردية ومواهبه، يكافح ليعيش في انسجام مع بيئته". هو يستطيع ان يعيش حياة جيدة بمقدار ما ينال المساعدة في ذلك.
ذلك يبدو مقبولا من حيث المبدأ، مع انه يرتكز على افتراضات عرضة للنقاش وتقود الى توصيات غير مألوفة. هل فكّرت كم انت تختلف عن الآخرين وكم يختلف الناس الآخرين عن شخص آخر؟ اذا قمت بهذا فانت امام مدخل لهذا الكتاب الذي يدّعي بشكل مثير: "اننا نفكر ونتصرف كما لو كنا نفس الشيء". لكن مايعنيه المؤلف حقا هو لا وجود لإتجاه بمعيار واحد يناسب ازدهار الانسان، بما في ذلك التعليم.
وفق هذه الرؤية كل انسان وُلد ومعه عدد من الإمكانات بمختلف الحقول – الرياضيات، الرياضة – والاطفال يجب تشجيعهم لتحقيق امكاناتهم، لكن لا ان يُضغط عليهم ليتجاوزوا ذلك، لأن المؤلف يصر على ان "لا وجود لطريقة للتقدم الى ما وراء مواهبك الفردية". ليس من الواضح ان هذه الرسالة هي الاكثر طموحا التي يقدمها المعلم للطفل، علما ان تاريخ الوزراء البريطانيين الحديث يرفض ذلك كليا. يقول لارغو ان نظام التعليم يحتاج الى مراجعة وتنقيح لكي يسمح بالمزيد من "التعليم الموجه ذاتيا"، وهو امر يبدو جميلا بما يكفي، لكن الادّعاء بان "الاشياء التي يتم تعلّمها بالتكرار والمطبّقة آليا تُنسى بسرعة" سيبدو غريبا لكل من لازال يتذكر جدول الضرب.
مع ذلك، هناك نتائج مثيرة وهامة لإتجاه المؤلف. المجتمعات الصناعية الحديثة تقول انها تقيّم "الحراك الاجتماعي"، لكنها تعني فقط الحراك الصاعد. لارغو يقول ان الحراك الاجتماعي النازل هو ايضا جيد بنفس المقدار. "الانتقال الى وظائف اقل رغبة يحمي الناس من التمدد المفرط المستمر والفشل الحتمي". هو يشير ايضا بذكاء الى "القدرة على التكيف"- القدرة على النجاح بعد تجربة مؤذية – هي حقا مسألة حظ اخلاقي وان العديد من الاطفال يُتركون الى الخلف لو افتقروا لها.
الكتاب يتنقل عبر ملايين السنين من التطور مرورا بعلم المتحجرات والبايولوجي والسايكولوجيا التطورية والوراثيات وعلم الاعصاب وغيره. الكاتب يتجاهل احد الحقول الهامة في معالجته لسؤال التقدم الانساني وهو الفلسفة. لارغو يقتبس من سقراط قوله "كل مخلوق يمكن ان يكون جيدا فقط بطريقته الخاصة" ليدعم رؤيته ان الناس لهم رغبات ومُثل متميزة. في الحقيقة، ان، سقراط (طبقا لافلاطون) اعتقد ان الطريقة الوحيدة للمخلوق الانساني ليزدهر هي ان يعيش حياة فاضلة اخلاقيا.
المؤلف يؤمن كمسلمة ان القبول الاخلاقي هو مسألة شخصية وثقافية، ولا وجود لأخلاق عالمية موضوعية. لكنه ايضا يلاحظ ان القاعدة الذهبية تظهر في جميع الحضارات الكبرى وهي نوعا ما مرتبطة بالموضوع المثير للجدل وهو "الخلايا العصبية العاكسة" mirror neurons (1) الموجودة في الدماغ الانساني. لكي يكون المؤلف منسجما، هو ينبغي ان يتميز كـ "واقعي اخلاقي"، يعتقد ان قيما معينة هي فقط حقائق حول الكون. جداله طوال الكتاب يؤكد انه بسبب ان الانسان بطبيعته يشبه هذا، لذلك فان المجتمع الانساني يجب ان يُنظّم بهذه الطريقة. هو يبدو غير واع بان هذا يُعرف كاشتقاق لما ينبغي ان يكون مما هو كائن، والذي اعتبره معظم الفلاسفة منذ ديفد هيوم حيلة غير مقبولة.
نحن لا نرفض ان النمر يمارس فرديته بانسجام مع البيئة (كما يقترح المؤلف) حين يقتل ويأكل الثور. لكن الناس لو اثقلوا بميول من حب الجريمة او الميول الشاذة، فمن غير الواضح وجوب تشجيعهم لممارسة تلك الميول لإشباع رغباتهم الباطنية. من الجميل القول ان كل شخص يجب "ان يعيش طبقا لطبيعته الفردية"، لكن دلال بعض الطبائع غير منسجم مع الحياة المتحضرة. هو كما في العديد من المحافظين الثقافيين، دائما يرتد الى العصر الذهبي الذي يمكن الشك بوجوده الحقيقي، بينما يكشف بوضوح عن فهم قليل للحياة الحديثة. من المحزن انه يقول، ان الناس لا يمارسون الرقص الجماعي والموسيقى، كما لو انه لم يسمع ابدا بالنوادي الليلية ومطاعم الكاروك الموسيقية.
بسبب اعتقاده ان المعنى الوحيد للفن والثقافة هو ان يكون على شكل فعالية تشاركية، لذا هو يشكو من ان الناس الحديثين يجلسون وحيدين "كونهم يستمتعون" بالتلفزيون، بدون ان يكشف ما اذا كان يعتقد بنفس المقدار انه من غير الجيد قراءة الروايات. هو يشكو، من ان طلاب المدارس اليوم، يرحبون بسقراط وكانط "بابتسامة متعبة"، وهو يتحدث عن الحياة الجماعية القديمة بين القرويين البسطاء كأنها لم تكن دورة موحشة من الاضطهاد والموت.
هو يقول "نحن سلخنا انفسنا من الطبيعة"، ومع ذلك هو تجاهل "الهياكل القديمة للحياة الجماعية". من الممكن الجدال بان هذه هي تطور ممتاز، طالما الطبيعة كانت دائما تحاول قتلنا بوسائل من الوحوش المفترسة والأمراض المعدية، وتلك الهياكل الثابتة القديمة كانت فعالة جدا في إبقاء الناس في مكانهم.
الفجوة الكبيرة في تشخيص لارغو تبدو في الصداقة، هو يستخدم دائما مفردة "نحن" بشكل اسطوري، حيث يقول "نحن نقود حياتنا كما لو اتيح لنا ذلك بدون علاقات اجتماعية مستمرة". هل نحن كذلك حقا؟ طوال الكتاب هو ينتقد اسلوب الحياة في المدينة الحديثة. ولكن العديد من سكان المدن يحبون جدا المدينة. هم صمموا جماعاتهم الخاصة من الاصدقاء، من الناس الذين يحبونهم حقا ويريدون إمضاء الوقت معهم. موقف لارغو المضاد للمدينة دائما يخاطر بالانزلاق الى الاماكن المظلمة. شعورك " كمواطن في العالم لا يخلق هوية"، هو يشكو، مثلما تفعل تيريزا ماي في هجومها ضد العالمية (اذا انت تعتقد انك مواطن عالمي فانت مواطن بلا مكان). لارغو يرى ان حياة المدينة تجعلنا اقل قدرة على التطور ولا تسمح باستعمال جميع قدراتنا التنافسية"، وهو بالتأكيد النقيض للحقيقة. لو حاول شخص ما تأسيس ستوديو للتأمل الروحي الصيني في قرية ريفية صغيرة، سيرى حجم الشعور بتلك الفعالية الناجحة.
اضف تعليق