الوليد ذكرًا كان أو أنثى نعمة من نعم الله وزينة الحياة الدنيا، فإنه: (لا تجوز التفرقة بين البنت والإبن، بل أُستحب حُب كل من الذكور والإناث على حدّ سواء). وهكذا تجري دورة الحياة وسنتها من وليد إلى والد ومن والد إلى جد، وخير السلف ما خلّف...
لا تكتمل سعادة الزوجين إلا بأوّل موعود يأتيهما بعد فترة ترقب تطول أو تقصر، ويتبع الثاني الأول والثالث الأوَّلين، إلى ما شاء الله من الذرية والأعقاب في إطار دورة الحياة الطبيعية التي كتبها الله على البشرية منذ أول آدم وحواء حتى آخر آدم وحواء من سلسلة البشرية التي نعيش بين ظهرانيها اليوم.
ولأسباب عدة يؤجل الزوجان قدوم المنتظر لظروف يعتقدان أنها كافية لمنع حصول ما يرونه محذورا، وعندما تمشي السنين وتمضي الأعوام يقع الزوجان بمحذور أكبر وأعمق مما خافا منه، فيمَّمَ أحدهما أو كلاهما وجهه بين الفترة والأخرى نحو قبلة الطبيب المختص أو محراب المستشفى المعنية، أملا في خلق مقدمات القدوم حتى يرتفع الحظر ويحل القدر، وقد يستجيب الطب مع القدر وقد لا يستجيب، فإذا استجاب عمّت الفرحة، وإذا تنكب نشبت في قلب الزوجين الحسرة أظفارها على ما فرطا فيه في الأعوام السالفة إما خشية الإملاق أو الإستغراق بالعمل دون الإلتفات إلى ناموس الحياة والغرض من الزواج، وغير ذلك من الأسباب الذاتية والموضوعية، المنطقية منها وغير المنطقية، وعندما لا يتحقق الموعود حينها تظهر للزوجين أن كل الأعذار هي غير منطقية بالمرة، فكما أن مآل الذكر هو الإستئناس بالأنثى والعكس صحيح في دائرة الزوجية السليمة وفق المنطوق القرآني: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) سورة البقرة 189، فإن مآل هذه الدائرة المقدسة نشوء دوائر أصغر وأصغر هم الأولاد والعيال والأحفاد، ومن يخالف الناموس لا تنفعه قلة أو كثرة الفلوس، لأن المخالفة قد تأتي بعواقب غير مرضية على الزوجين أنفسهما أقلهما الكآبة أو الإنفصال، فمن أناخ رحله عند عمود الفقر جاءه النداء الرباني: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) سورة الأنعام: 151،
وبالطبع، لا يمكن التعميم، فهناك زوجان حاولا ولم يفلحا ثم اكتشفا أن أحدهما أو كلاهما غير قادر على تحقيق الخلفة، فقد ينجح معهما الطب الحديث وقد لا ينجح، فيرضيان بما قسم لهما الله لحكمة لا يرونها، والحكمة الربانية مؤطرة بالرحمة، ربما تكون في عدم الإنجاب أو في موت الوليد أو الطفل لطف رباني، وفي قصة النبي موسى (ع) مع الخضر (ع) عبرة لمن اعتبر حينما سأله عن سبب قتله للطفل فجاء الجواب: (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا) سورة الكهف: 80، فالغلام كان كافرا ورحمة الله بالوالدين المؤمنين أكبر وحبهما له سيقودهما إلى الطغيان والكفر ويقعان فيما وقع.
وقد استحضرتني وأنا أهمُّ بتحرير كتيب "شريعة الوليد" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي قصة تاريخية متعلقة بالطفل الوليد نقلها الحافظ قتادة السدوسي البصري المتوفى سنة 118هـ أنه: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها، فجاءت أختها إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقالت: إن عمر يرجم أختي فأنشدك الله إنْ كنت تعلم أنَّ لها عذراً لما أخبرتني به فقال علي: إنَّ لها عذراً، فكبَّرت تكبيرة سمعها عمر ومن عنده. فانطلقت إلى عمر فقالت: إن علياً زعم أنَّ لأختي عذراً، فأرسل عمر إلى علي ما عذرها؟ قال: إن الله عز وجل يقول: والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين، وقال: وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، فالحمل ستة أشهر، والفصل أربعة وعشرون شهراً، قال: فخلى عمر سبيلها، قال: ثم إنها ولدت بعد ذلك لستة أشهر. أنظر: كنز العمال: 6/205، الحديث: 15363.
فالكتيب الصادر في بيروت نهاية العام 2019م عن بيت العلم للنابهين في 48 صفحة، ضم بين الطيتين 97 مسألة فقهية مع 20 تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة للناشر ومثلها للمعلَّق، وتبعهما تمهيد بقلم الفقيه الكرباسي.
ووالد وما ولد
كلما تقدم الزمان وتطورت أسباب العلم وأجهزته، كلما وقفنا على ضآلة ما نعرفه عن أبداننا وأرواحنا وأنفسنا، وبتعبير الفقيه الكرباسي في التمهيد أنه: (ليس في مخلوقات الله جلّ وعلا أعظم وأجلى من الإنسان، إذ أودع فيه جميع قوانين الكون وعناصره، ويضم كل الأجهزة التي تدير الكون وما فيه)، وهذا المعنى كما يضيف الكرباسي يجسده البيت المنسوب للإمام علي (ع)، من المتقارب:
وتحسبُ أنك جرمٌ صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولهذا فمن أراد أن يتعرف على الكون وخالقه وعلى المخلوقات وبارئها، فلينظر إلى نفسه، وكما يعبر القرآن الكريم: (فَلْيَنظُرْ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ) سورة الطارق: 5- 8، وقد ورد عن النبي إدريس (ع): (مَنْ عرف نفسه فقد عرف ربّه) (بحار الأنوار: 92/456)، وبتعبير القرآن الكريم: (وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) سورة الذاريات: 20 -21.
فالإنسان بطبعه ميّال الى الأحسن والأفضل في كل شيء، فإن لم يتحقق ذلك في ذاته أو افتقده، طلبه في خلفه، فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب وبعد أن يرى مضار الأمية ويعيش مرارتها يسعى للتعويض عن النقص في أبنائه فيجوع من أجل أنْ يتعلموا، والمتعلم الذي وصل مبلغا من المعرفة والمنزلة ولم يحقق أمنيته كأن يريد أن يصبح مهندسا ولم يفلح أو طبيبا ولم تسعفه درجات التخرج، وغيرهما من الأعمال والمهن والوظائف المرموقة فإنه يحرص على أن يحقق أبناءه أحدهم أو كلهم ما لم يقدر عليه.
وما يعبر عنه بالطبع والرغبة والميلان إلى تحقيق الأمنية أو الأمنيات هو في واقعه من نداء الفطرة الإنسانية، فالزواج سنة حياتية والخلفة فطرة إنسانية، تغذيها فكرة البقاء، فالإنسان يقر على نفسه أنه مهما بلغ من العمر عتيا فإنه صائر إلى التراب، ولأنه يرغب بالبقاء فهو يحقق رغبته عبر الخلفة والذرية، وهذا أمر غريزي، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إنَّ التجربة للفطرة الإنسانية أوصلتنا إلى أنَّ الآباء والأمهات في الأعم الأغلب ممن لم يفقدوا فطرتهم السليمة بالتطرف إفراطًا وتفريطاً، يسعون لتنمية أنفسهم من الفجر الأول في الحياة، ولكنهم عندما يُرزقون بأطفال فإن تلك الغريزة تتفاعل بشكل أكبر وأكثر وأوسع، ولكن باتجاه آخر وهو الخَلَف "الأطفال" الذين سيحملون ذكرى الآباء والأمهات، فإنهما لا يأكلان ولا يشربان ولا يعملان ولا يتمتعان إلا لأجل سلالتهم، ولا نقاش في أنانية الإنسان، إنه يفعل ذلك أيضا لأن يستمر في الحياة ولكن من خلال الأبناء والبنات).
وهنا ينطلق نداء الفطرة السليمة في النفس في أبناء وخلفة وذرية صالحة، فحتى الشاب الذي حرّر نفسه من ضوابط الحياة السليمة تحت مدعى الحرية وهي بالفعل حرية منفلتة، فإنْ آب إلى رشده وفكّر في الزواج بحث عن أسرة طيبة وبنت عفيفة لإدراك فطري أن البقاء للسمعة الطيبة والتي يحقق دوامها في أبناء طيبين وذرية صالحة، فالوليد كالبذرة، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (فالبذرة إن أصطُفيت والتربة إن اختيرت والرعاية إن تمت، فلابد أن تكون الشجرة مثمرة بأحسن الثمار، تنفعك إذا أكلتها، تتمتع بالنظر إليها، وتنعشك إن شممتها، فالوليد هبة ربانية ونعمة إلهية)، فالأسرة الصالحة كالتربة الصالح يكون نباتها صالحا، وبتعبير القرآن الكريم: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) سورة الأعراف: 58.
خير الوليد
يتناول الكتيب في أحكامه موضوعات ستة متعلقة بالطفل منذ ولادته وبعدها، وهي: حلق الشعر، العقيقة، الختان، الرضاع، الحضانة، المراسيم.
ومن جميل ما في المسائل أنه: (لا بأس بأن يتولى الزوج توليد زوجته وإن وجدت النساء)، وبالطبع يتطلب هذا كما في تعليق الفقيه الغديري: "معرفته بالأمر"، ومن النادر أن يقوم الرجل بأمر الولادة وهو موكول للنساء لاعتبارات كثيرة، ولأن وجود الزوج فيه راحة نفسية للزوجة، فقد عمدت الكثير من المستشفيات في أوروبا إلى استحضار الزوج عند الولادة إن كانت طبيعة أو قيصرية، وعند خروج الطفل يسلم إليه ليحمله ثم يضعونه على صدر الزوجة، وبالتالي فإن الوليد يحظى بحضن الأب والأم معًا في آن واحد.
فعند الولادة: (يُستحب أن يؤذَّن في أذن الطفل اليمنى ويقام في اليسرى قبل قطع سرّته)، لأن الوليد يسمع ويحفظ ما يسمع، كما هو يسمع عندما كان في بطن أمه، حيث يبدأ نمو أجهزة السمع منذ الأسبوع السادس من انعقاد النطفة، ومنذ منتصف الشهر الخامس من الحمل يبدأ بالسمع، وفي الشهر السابع من الحمل يبدأ يميز بين صوت أمه وصوت أبيه، ولهذا إذا أذّن الأب وأقام عرفه وميّزه.
وبعد الولادة: (يستحب حلق شعر المولود ذكرًا كان أو أنثى يوم السابع قبل العقيقة)، وإلى جانب البعد الصحي والبنيوي في حلق شعر الوليد، هناك البعد الإجتماعي حيث: (يستحب أن يوزن شعره ذهبًا أو فضَّة ويُتصدق به على الفقراء).
ومن الجوانب الإجتماعية الجميلة في الوليد هو عمل العقيقة له وذلك بالذبح عنه من إبل أو غنم أو بقر أو ماعز، حيث: (يستحب استحبابا مؤكَّدًا أن يُعقَّ عن المولود ذكرًا كان أو أنثى، غنيًا كان أو فقيرًا، وهناك من ذهب إلى وجوبها، لكن لم يثبت).
وحتى تصل العقيقة إلى أصحابها سليمة فإنه: (يُكره أن تكون العقيقة عوراء أو عرجاء أو مكسورة القرن أو مقطوعة الإذن، والخصي من فحولها ولا تكون هزيلة)، ومن أصحابها القابلة والمولِّدة التي تعطى ربع الذبيحة، والباقي: (يستحب إطعام الناس باقي الذبيحة، ويتصدق به وأقلَّه عشرة أشخاص)، على أنَّ: (طبخ العقيقة وإطعام الناس أفضل من التصدُّق بها وهي غير مطهية)، كما: (لا يُشترط فيمن يُدعون إلى المائدة أن يكونوا من الفقراء بل الأفضل أن يكونوا من أهل الفضل والتقى).
ومن مراسيم ما بعد الولادة الختان، فهو بذاته مستحب، ولكن: (يجب عند البلوغ)، وكما يصح أن تكون المولِّدة غير مسلمة: (يجوز أن يكون الخاتن غير مسلم)، وإذا وجب ختان الذكور فإنه: (يُستحب ختان الصبايا ويقال له الخفض، وليس الخفض واجبا ولا مستحبًا مؤكدًّا)، ومن الجوانب الإجتماعية في الختان هو: (الإحتفال بالختان والولادة جائز بل مُستحب من باب التجمُّع أولاً وإطعام الطعام ثانيًا، شرط ان يبتعدوا عمّا لا يجوز كالغناء والعزف).
ولأن الوالد مسؤول من زوجته ووليدهما، فإن الرضاعة وما يقابلها من أجور هي الأخرى تقع على الزوج دون الزوجة، حيث: (يجب على الأب تحمل مسؤولية إرضاع الطفل، ولا يجب على الأم ذلك، بل يستحب لها استحبابا مؤكَّدًا في ذلك)، ثم إذا: (لم ترضَ الأم إرضاع وليدها إلا بالأجرة فللأب أن يستعين بأخرى، أو يتفق معها).
ومن متطلبات الحياة الزوجية هي حضانة الوليد وتنشئته وتنميته، إذ: (الحضانة واجبة على الوالدين، ولكن الأم أحق بذلك مدة الرضاع ذكرًا كان أو أنثى)، وبالطبع يتحمل الأب نفقات الحضانة، ولكن إذا: (وُلد يتيما وكان للمولود مالٌ يُنفق عليه من ماله، وإلا فعلى وليِّه، وإن لم يقدر على ذلك فعلى بيت المال، ويُمكن أن تُعطى من الحقوق الشرعية، ولكن بمقدار الحاجة).
وحيث يرى البعض في المراسيم المصاحبة للوليد الحرمة في بعضها أو كلها، فإن الفقيه الكرباسي يرى أن: (العادات والتقاليد المُتعارفة بين الناس بمناسبة الولادة بما لا تقترن بالمحرمات فلا إشكال فيها) ومن ذلك: (تهنئة الأهل والأقارب بالمولود الجديد)، (تقديم الهدايا)، (تبادل التهاني)، و(طبخ الحلويات وتوزيعها).
وحيث إنَّ الوليد ذكرًا كان أو أنثى نعمة من نعم الله وزينة الحياة الدنيا، فإنه: (لا تجوز التفرقة بين البنت والإبن، بل أُستحب حُب كل من الذكور والإناث على حدّ سواء).
وهكذا تجري دورة الحياة وسنتها من وليد إلى والد ومن والد إلى جد، وخير السلف ما خلّف وراءه ولدًا صالحا، وخير العقب ما حفظ الأمانة وسار بين الناس بسيرة السلف، حتى إذا لقيه الناس قالوا في وجهه أو وراءه: نعم الخلف لخير سلف.
اضف تعليق