ان التاريخ وليد الصراع، ويعتبر التاريخ منتهيا بالانتصار على الشيوعية الذي ترك الساحة مفتوحة أمام النموذج الحضاري الأمريكي الذي سيعم العالم، حيث وصف هذا الـ \"مُنظِّر\" المسلمين ونواتهم العرب بالعطالة الفكرية والحضارية، الأمر الذي سيحول دون تكوينهم لكتلة تاريخية فاعلة تستطيع الوقوف في وجه النموذج الرأسمالي المنتصر...
لكل نظرية فكرية نظرية أخرى تناقضها وتسعى لإثبات العكس، لا يحدث هذا في حيّز الفكر فقط بل هي طبيعة الحياة وموجوداتها انطلاقا من الرؤية أو القانون الذي يقول: لا يمكن إثبات شيء (فكر) ما إلا بنقيضه، فعلى عكس نظرية صمويل هنتغتون (صدام الحضارات)، جاءت نظرية "نهاية التاريخ وخاتم البشر) لـ فرانسيس فوكوياما التي تمحورت حول نهاية الصراع والاختلاف بعد الذي حققته الليبرالية الاقتصادية والسياسية والانتشار الواسع والهيمنة التي حققتها الحضارة الغربية، سيادتها على العالم كنموذج واحد تقتدي به كل البشرية.
فالمسيرة النهائية للتاريخ كما يقول فوكوياما: "تتجه بالشطر الأعظم من البشرية صوب الديمقراطية الليبرالية، التي تشكل نقطة النهاية في التطور الآيديولوجي للإنسانية الذي اكتمل مع مبادئ الثورات الأمريكية والفرنسية التي تبقى مطلقة ولا يمكن تجاوزها أبداً حتى وإن لم تستطع بعد بعض النظم المعينة تجسيد هذه المبادئ في الواقع المدني، فالدولة المتجانسة ستنتصر بالفعل طال الزمن أو قصر،... وبالشكل النهائي لكل نظام حكم بشري"، حيث يقول فوكوياما بصريح العبارة "... من الآن فصاعدا هناك كلية واحدة ممكنة، فقد انتهى التاريخ بانتصار الأيديولوجية الغربية والأمريكية تحديداً".
وقد شرح فوكوياما ذلك على اعتبار أن ما نشهده الآن ليس نهاية للحرب الباردة بوضع حد للأيديولوجية في التاريخ الانساني وإنما نهاية للتاريخ بانتشار قيم الليبرالية الديمقراطية الغربية لمرحلة ما بعد الحرب".
إن نظرية نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما تقوم على ثلاث عناصر أساسية هي:
1- هو أن الديمقراطية المعاصرة قد بدأت في النمو بداية القرن التاسع عشر (19)، وانتشرت بالتدرج كبديل حضاري في مختلف أنحاء العالم للأنظمة الدكتاتورية، وانتشرت بالتدرج كبديل حضاري في مختلف أنحاء العالم للأنظمة الدكتاتورية، واعتمد فوكوياما في طرحه على عنصرين اعتبرهما الأساس هما:
- العامل الاقتصادي: وأحسن مثال يضربه على ذلك معجزة الشرق الأقصى خاصة الصين، وانهيار الاقتصاد المخطط في الاتحاد السوفيتي والتحولات الكبرى في الفكر الاقتصادي في دول أمريكا اللاتينية.
- العامل الذي يسميه بالصراع من أجل الاعتراف، كمحرك للتاريخ في انشاء الديمقراطية الليبرالية.
2- فكرة الصراع التاريخي المتكرر بين "السادة" و "العبيد" لا يمكن أن يجد له نهاية واقعية سوى في الديمقراطيات الغربية واقتصاد السوق الحر ذلك أن فوكوياما يرى وبكل ثقة أن الإنسانية قد دخلت مرحلة ما بعد التاريخ، فالخلاقات الدولية على نطاق كوني كالحروب العالمية من أجل هيمنة وانتشار فكرة ذات بعد كوني وقادرة على تعبئة الإنسانية أمر غير وارد.
3- الاشتراكية الراديكالية أو الشيوعية لا يمكنهما لأسباب عدة أن تتنافس مع الديمقراطية الحديثة، وبالتالي فإن المستقبل سيكون للرأسمالية أو الاشتراكية الديمقراطية، ويُرجع فوكوياما إخفاق النظام الشمولي إلى إخفاقة في السيطرة على الفكر وليس بسبب الأزمة والضعف اللذيْن يعاني منهما في الجانب الاقتصادي.
ومن جهة اخرى يعتبر فوكوياما أن المعيار العقلاني الوحيد هو الاعتراف بقيمة الاقتصاد الحر والدولة الليبرالية، وعليه يقول بضرورة إزالة الحواجز القومية عن طريق تكوين سوق عالمي واحدة مندمجة تبعا لمتطلبات القوى الاقتصادية في العصر الحالي، ساعدت في توسيع حجمه التطورات التكنولوجية التي حدثت في مجال الاتصالات والنقل.
ذلك أنه وفي نهاية التاريخ ليس ثمة متنافسون أيديولوجيون للديمقراطية، وقد فرض الناس في الماضي هذه الديمقراطية الليبرالية لاعتقادهم أن الملكية والارستقراطية والثيوقراطية أو الحكومة الدينية والشمولية الشيوعية وسائر الأيديولوجيات التي سبق وأن آمنوا بها أفضل منها، أما الآن فيبدو أن ثمة اتفاقا عاما – في العالم الإسلامي- على قبول مزاعم الديمقراطية والليبرالية بأنها أكثر صور الحكم عقلانية، وهي صورة الدولة التي تحقق أقصى حد ممكن في إشباع كل من الرغبة والاعتراف العقلاني.
وبالتالي - يؤكد فوكوياما- أنه مع انقضاء القرن العشرين (20) يمكن الحديث مجددا عن تاريخ للبشرية واضح المعالم والأهداف، حيث تتجه أغلب البشرية إلى الديمقراطية الليبرالية، فحسبه العولمة والمعلوماتية وهيمنة الحضارة الغربية على بقية العالم تكون قد حسمت الصراع بشكل نهائي، ليدخل العالم في حلة جديدة كأمر واقع وكأنما هناك إقرارا كونيا بأن عهد الصراع قد حُسم بالقوة، قوة الإقناع واختصار البدائل الحضارية والفكرية في سيادة النموذج الغربي الليبرالي وانسحاب كل مشروع منافس له في ساحة الصراع بالتلاشي أو الركون إلى المحلية الضيقة في أشكال فلكلورية ليس إلا.
في سياق آخر يعترف فوكوياما بأن الإسلام يمثل نظاما أيديولوجيا متسقا ومتماسكا مثل الليبرالية والاشتراكية، وهذا لامتلاكه لقانون ولمعايير أخلاقية خاصة به ولنظرية العدالة السياسية والاجتماعية كما أنه يتمتع بجاذبية يمكن أن تكون عالمية...، فالإسلام ذو بعد كوني لأنه يتوجه لكافة البشر ولا يخص مجموعة بشرية قومية أو عرقية بعينها، وهو بذلك – يستأنف فوكوياما- يشكل خطرا كبيرا على الممارسات الليبرالية حتى في الدول التي لم يصل فيها إلى السلطة السياسية بصورة مباشرة، وقد تلا نهاية الحرب الباردة في أوروبا على الفور تحدي العراق للغررب، وهو ما قيل (عن حق أو غير حق) أن الإسلام كان أحد عناصره.
ولهذا – وبعد انهيار الكتلة الشيوعية- أصبح الإسلام المتخلف قيما وحضارة العدو الحقيقي للحضارة الغربية المسيحية، وبالتالي يجب أن توجه إليه الحرب من قبل الغرب، ففي تصريح له لجريدة "النيوزويك" news week قال فوكوياما: " إن الصراع الحالي ليس ببساطة معركة ضد الإرهاب، ولا ضد الغسلام كدين وحضارة، ولكنه صراع ضد العقيدة الإسلامية الأصولية التي تقف ضد الحداثة الغربية، وأن التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين، وإنما التحدي الأيديولوجي الذي هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية.
ثم يعود فوكوياما ليضيف أنه على الرغم من القوة التي أبداها الإسلام في صحوته الحالية المتولدة أساسا عن الضغط الممارس من طرف القيم الغربية على المجتمعات الإسلامية، فإنه بالإمكان القول أن الإسلام ليس له جاذبية خارج المناطق التي كانت في الأصل إسلامية الحضارة لأن زمن التوسع الحضاري الإسلامي قد ولى، ويواصل فوكوياما... ورغم أن نحو بليون نسمة يدينون بدين الإسلام (أي خمس تعداد سكان العالم)، فليس بوسعهم تحدي الديمقراطية الليبرالية في أرضها على المستوى الفكري، بل إنه يبدو أن العالم الإسلامي اشد عرضة للتأثر بالأفكار الليبرالية على المدى الطويل من احتمال أن يحدث العكس، حيث أن مثل هذه الليبرالية قد اجتذبت إلى نفسها أنصارا عديدين وأقوياء لها من بين المسلمين على مدى القرن ونصف القرن الأخيرين، والواقع أن أحد أسباب الصحوة الأصولية الراهنة هو قوة الخطر الملموس من جانب القيم الغربية على المجتمعات الإسلامية التقليدية.
وهكذا يرى فوكوياما أنه بعد الهزيمة التي لحقت بالأمم القوية في العالم بداية الهزائم التي منيت بها الأنظمة والأيديولوجيات المنافسة الملكية الوراثية الفاشية، وبعد انتصار الغرب على الشرق الشيوعي في الحرب الباردة، يكون التاريخ قد وصل إلى نهايته لأنه حقق غايته المتمثلة في الحرية والمساواة، وهي الغاية التي لا تتحقق إلا في ظل الديمقراطية الليبرالية السائدة في الولايات المتحدة الأمريكية وغرب أوروبا، وهذه الديمقراطية الليبرالية ستظل المطمح السياسي الواضح والوحيد الذي يربط مختلف المناطق والثقافات في كوكبنا هذا بحسب فوكوياما.
ويواصل كلامه: كان ثمة ضغوط من اجل توفير ديمقراطية أكبر في عدد أقطار الشرق الأوسط مثل مصر والأردن عقب ثورات 1989 في أوروبا الشرقية، غير انه في هذه المنطقة من العالم وقف الإسلام عقبة كبيرة في وجه تطبيق الديمقراطية، وأوضحت الانتخابات البلدية الجزائرية عام 1990 وإيران قبل ذلك بعشر سنوات أن قدرا اكبر من الديمقراطية قد لا يؤدي إلى قدر كبير من الليبرالية، حيث أن الديمقراطية تهيئ للأصولين الإسلاميين فرصة الوصول إلى الحكم وهم اللذين يتطلعون إلى إقامة شكل من أشكال الثيوقراطية الشعبية.
وخلاصة كل هذا ان فوكوياما وصل إلى أن التاريخ وليد الصراع، ويعتبر التاريخ منتهيا بالانتصار على الشيوعية الذي ترك الساحة مفتوحة أمام النموذج الحضاري الأمريكي الذي سيعم العالم، حيث وصف هذا الـ "مُنظِّر" المسلمين ونواتهم العرب بالعطالة الفكرية والحضارية، الأمر الذي سيحول دون تكوينهم لكتلة تاريخية فاعلة تستطيع الوقوف في وجه النموذج الرأسمالي المنتصر.
وفي مجال نقد فكرة نظرية " نهاية التاريخ" لفوكوياما: ثمة عدة ملاحظات يمكن توجيهها إلى أطروحة فووكوياما في تكوينها الداخلي كمنظومة فكرية، نذكرها على شكل انتقادات عبر نقاط نعتقد أنها تشكل الحلقات الضعيفة في هذه الأطروحة ونوجز أهمها فيما يلي:
• تشكو نظرية فوكوياما من فقر واضح في التحليل الخاص بدور الاستعمار في تطور المجتمعات الإنسانية ودور الإمبريالية الرأسمالية في التمهيد لانتصار الليبرالية واتجاه بوصلة التاريخ نحو النهاية، بالإضافة إلى أنه لم يستثمر المعلومات التاريخية المتوافرة عن بعض المجتمعات ذات الخصوصية التاريخية مثل المجتمعات الإسلامية، فباستثناء إشارات شاحبة حول إيران فإن كتابه لا يتضمن سوى معطيات هزيلة من تاريخ المجتمعات الإسلامية ودورها في مستقبل الصراع العالمي وبناء المجتمع الدولي الجديد.
• إن أطروحة فوكوياما هي أطروحة إسقاطية تنطلق من إنتماء واضح للنموذج الأمريكي المسيطر على العالم، فهو ينظر إلى منطق الأشياء انطلاقا من مرجعية معينة تتمثل في تحليل الأحداث والتغيرات التي عرفها المجتمع المعاصر من خلال الإنتماء إلى النموذج الأمريكي المهيمن، ناهيك عن نظرته إلى النظام الدولي الجديد على أساس مادي بمعزل عن الأساس الروحي، وبهذا تكون قراءة فوكوياما للنظام الدولي الجديد قراءة موجهة، وتحليقاته في فضاء النظام الجديد تحليقات عرجاء وتخريجات إسقاطية مبنية على مواقف قبلية موجَّهة.
• يعتبر فوكوياما مجرد أداة يستخدمها النظام الدولي الجديد وبوق دعاية له في مرحلته التأسيسية، وبهذا تتحول نظريته من نظرية فلسفية إلى خطاب سياسي ايديولوجي يبشر بابدية الرأسمالية في ثوبها الجديد.
• نقطة الضعف المعترف بها في الأطروحة هي أن التاريخ لن ينتهي ما دامت العلوم الطبيعية المعاصرة لم تبلغ غايتها ونهايتها بعد وأنه لا يمكن وضع حد للعلم، وبالتالي فالتاريخ لن ينتهي في مجتمع لا يزال ينتج العلوم، بل إنه – باعتراف فوكوياما نفسه- تشكل اللحظة الراهنة زمنا متميزا تعرف خلاله البشرية صحوة تكنولوجية وتجديدا هائلا في شتى علوم الحياة.
اضف تعليق