ومع قلة النماذج المدروسة هنا، لكنني التقطتُ ذلك الحس الإنساني الذي يتلبّس الكاتبة د. بتول البستاني، وهي تتقصى بأقلّ الكلمات فجائعنا الكبرى، ومن فضائل هذه النصوص إنها تُسهم في تدوين تلك الفجائع، لتضعها أمام مرأى وبصائر من لم تتهيّأ لهم فرصة المتابعة والإبصار لما جرى في الموصل وبغداد والعراق...
ليس من مهام السرد أن يقدم لنا الواقع كما هو، قد تكون هذه مهمة التوثيق، تصويراً أو تدوينا وما إلى ذلك من وسائط أخرى، أما مهمة السرد فهي تغاير أساليب النقل الحرفي، ذلك النقل الذي لا يُقصي ولا يضيف على ما يرى ويلتقط، القص فن قد يفوق الشعر أحياناً، يتعكّز دائما على الخيال والفن المغترِف من السحر والإيهام والإيحاء وسوى ذلك من أساليب ترقى بالسرد إلى مصاف المنجز المناقض للواقع، أو على الأقل لا يشبهه ويربأ بنفسه كفن، أن يكون ناقلاً حيادياً خاملاً.
في القصص القصيرة جداً التي وسمها عنوان (ما زلنا في سواء الجحيم/ دار فضاءات) للكاتبة د. بتول البستاني، نرصد صوراً قاتمة للواقع، تتأتى من وقائع تعيشها الكاتبة نفسها، وهي عبارة عن تهويمات سردية لبعض مجريات الاحتلال التي تعرضت لها مدينة الموصل، فالأخبار المعلَنة والصور المسرَّبة والأفلام الوثائقية، قدمت لنا ما يكفي لكي نفهم ما يجري، لكن يبقى فن السرد والفنون الأخرى لها القول الفصل في التوصيل الأكثر حضوراً وتأثيراً وسطوة على الذائقة، لسبب قد يكون بائناً لذوي التخصص الإبداعي، فما تتركه لوحة تشكيلية عن وطأة الحرب غير ما تتركه صورة فوتوغرافية أو ناسخة للواقع، وكذا الأمر بخصوص الفنون الأخرى ومنها السرد القصصي بأشكاله الفنية المتَّفَق عليها بين النقاد ونظريات النقد.
في القصة القصيرة جداً "الربيع"، تناقض صارخ مع المعتاد أو المتوقّع، إن الربيع موسم النماء والبِذر وانتعاش الحياة وانطلاق الكائنات في دورة التكوين، فالقارئ يترقّب أجواء احتفالية في هذا الموسم، ويتطلع إلى ما ينشر الحبور في النفس، لكن القصدية الصادمة التي تلفّعت بها هذه القصة، أفضت إلى إظهار وقائع مناقضة حفرتْ وجودها في حافظة القارئ، حين يجيء المشهد السردي بما هو غير متوقّع ومتّسق مع الربيع قطعيّاً، إننا سنقف برقاب مشرئبة وقلوب مكلومة ونفوس ملؤها الألم لما يقدمه لنا ربيع هذه القصة القصيرة جدا، والذي يوحي لنا بـ (ربيع الخراب العربي) وما آلت له حياة الناس فيما بعد:
الربيع العربي بالإنابة
"بدت آثار الربيع مبكرة هذا العام.. بيوت مهدمة، أوانٍ مبعثرة، محال تجارية اسودَّت من شدة الاحتراق، إعلان عن مقتل مئة وسبعين شخصًا بينهم أطفال وشيوخ، اعتقال نساء كثيرات بدلًا من أولياء أمورهن المفقودين، جدران قد امتلأت بلافتات سوداء تعلن عن مقتل الكثير من الشخصيات المهمة، تساءلت مع نفسها: متى يأتي الخريف؟؟؟".
هكذا تتحرك مجسات الفن كي تلتقط ما هو مغاير حيث يكون أكثر التصاقاً وثباتاً في الذاكرة من سواه المقارب أو المشابه لما يحدث بالفعل، وهو ما تنقله الصورة الواقعية لنا بحيادية شبه تامة، وهذا الأسلوب الفني النافر (كسر الواقع وتهشيمه) يتكرر في نصوص أخرى من هذه المجموعة التي تضم عدداً كبيراً من القصص القصيرة جداً، ومنها "المخاض" فما الذي نتوقعه من امرأة تعاني نوبات الطلق، بوجه شاحب، وقوة جسدية تقارب النضوب، وبطنها المنتفخ يشي بقادم يسرّ القلوب والأبصار، إنه الوليد الذي سينشر الفرح بين الجميع، هذا هو المتوقّع من مخاض امرأة، وفي أفضل الاحتمالات، قد يكون الوليد مشوّه، أو يخرج ميتاً، كل هذه التوقعات للمخاض لم تتحقق، فما تقدمهُ الكاتبة هنا هو (حمل كاذب)، أي نقيض الولادة، وهو أسلوب فني تعتمده البستاني في معظم نصوص مجموعتها هذه، كما لوحظَ في القصة السابقة (الربيع)، فالمخاض إذاً لم يدرّ علينا سوى ألم مضاف فوق آلام الولادة التي عادة ما تتحول إلى سعادة بعد انتهاء المخاض:
"كانت في غرفة المخاض تتألم بصمت مهيب، والكلّ محيط بها.. وقد ازداد وجهها شحوباً حينما أعلن الطبيب أن كل تلك المعاناة كانت هباءً إذ كان الحمل كاذباً..!!!".
ولم يُشغل الكاتبة البستاني مدينتها الموصل وحدها، إنها مشغولة بما يجري في البلاد كلها، فتكتب عمّا تتعرض له بغداد من انتهاك لجمالها وحقوقها حاضرا وتاريخا، وتعرض ليوم واحد فقط (الثلاثاء الدموي) وما حدث فيه من أحداث قتل وتدمير طالت هذه المدينة التاريخية، مدينة الحب والعلم والأدب والجمال، بغداد، فهل تكتفي منصة الإبداع السردي بهذا المشهد الواقعي لما حدث في يوم واحد لبغداد، كلا بالطبع، فقد عودتنا البستاني على انتظار الصدمة، ومعاقرة الألم في مفارقة صادمة تنتهي بها قصص مجموعتها القصيرة جدا، إن هذا الألم والدمار والعبثية التي تطال بغداد لا تكفي لكي يتّحد الناس، ويضعون خلافاتهم وراء ظهورهم، ويوحّدون طاقاتهم لمواجهة الخطر الماحق الذي يحيق بالأرض والروح والوجود برمته، فهناك من لا يعنيه في هذا الخراب الدامي سوى نفسه، هذا ما تُظهره لنا القصة القصيرة جدا (خبر عاجل):
ثلاثاء بغداد الدموي
"الثلاثاء المروّع.. أسوأ أيام بغداد، تفكيك ثلاث سيارات مفخخة، ووقوع عشرين تفجيراً هزّ المدينة وأودى بحياة مئة وثلاثين شخصاً، ويصيب ثلاثمئة وثمانين بجراح، ونزاع بين اثنين: متى سيكون موعد زواجهما وأين؟؟".
إن هذه اللامبالاة التي يتعامل وفقها أناس يتجاهلون الخطر المطبق عليهم، هي نفسها نجدها عند بعض العراقيين اليوم، والطامة الأكبر حين يتعلق الأمر بصانع القرار أو المسؤول عن أرواح الناس وأمنهم حاضرهم ومستقبلهم، فالتهويمات التي هي أشبه بغفوة متقطعة لإنسان يتعرض لسلسلة من الأخطار الماحقة، صورة يمكن أن تنطبق على العراقيين اليوم، إنهم مع كل مشاهد الموت المحيطة بهم، يعيشون تهويمات التغاضي، وتمرير ما لا ينبغي أن يمرَّر، فأية مفارقة هذه التي ينشغل فيها الناس بتوافه الأمور وصغائرها عمّا يدهمهم من وسائل الموت والدمار الذي يتهدد الجميع وليس فرداً مخصوصاً بهذه الأخطار، فالبستاني هنا تضع هؤلاء اللامبالين المنشغلين بأمورهم الشخصية موضع المساءلة في ظرف أو مرحلة حرجة تحاصر الجميع بدمويتها ومخالبها الشرسة!، تُرى هل يقع مثل هذا التنبيه على عاتق الفن السردي؟، يتبعُ هذا رؤية المبدع، فهو حر في التعبير والاكتساب والانتماء الفني.
تستمر الكاتبة البستاني في استجلاء بواطن ما جرى، وفي العديد من نصوص مجموعتها هذه تستشرف ما سيجري، ومع القيمة الفنية السردية في هذه النصوص يمكن للقارئ والناقد اكتشاف ما ترمي إليه الكاتبة، فهي على الرغم من إضفاء مسحة الفن والتخيّل والتنبؤ والاستشراف على قصصها القصيرة جدا، لكنها ترتكز على منصة الواقع المعبّأ بالألم، كما إنها تذهب إلى رصد التفاصيل الصغيرة وتعتمد التراكم والتتابع لتكتشف زيف العقول المتشدقة بالتصدي للخطر، خصوصاً عندما لا يكون الإنسان على المحك، ولكن ما أن تحين لحظة المواجهة حتى تنقلب التعهدات إلى نقيضها!، فمن يتعهد بالمواجهة سوف ينسحب حين تحين اللحظة، وهنا نلحظ تلك المراقبة الدقيقة للكاتبة لما يجري، لكن الرصد الواقعي المتتابع لا يتم عرضهُ كما هو، فللفن دائماً حضور وحصة في الصياغة السردية، كما نتابع ذلك في نصوص هذه المجموعة ومنها القصة القصيرة جداً التي حملت عنوان "الطاغوت":
"حينما اقترب موعد دخول الطاغوت إلى المدينة كان المتشدقون يرسمون الخطط ويوزعون الأدوار.. ولما حان الوقت حلّ الصمت وأقفلت الأبواب..!؟؟".
ومن الفجائع التي يغص بها المشهد العراقي، تلك الاعتداءات التي طالت الكفاءات، فهذه الطبقة كانت ولا تزال هدفاً لجهات لا تكشف عن نفسها، لكن هدفها واضح، إفراغ البلد من كفاءاته، وهو مأرب يدخل في مسلسل الخراب والتخريب الذي يستهدف العراق، من هذه الوقائع سلسلة اغتيالات طالت بعض الأساتذة الجامعيين، وكون الكاتبة تنتمي لهذا الوسط، فإنها تكتب عن هذه الاعتداءات الصارخة، ولكن ليس بصيغة الإخبار، ولا التهويل الإعلامي، إنها تكتفي بنص سردي قصير جدا، توحي فيه عبر تهويمة سردية بمقتل أستاذ جامعي من دون التصريح بذلك، ما يجعل القارئ وهو يعيش النص في حالة تقصٍ وتساؤل وتأثّر، وهذه علامات دلالة عن نجاح الكاتبة في توصيل ما ترومه إلى قارئها، تقول بتول البستاني في قصتها القصيرة جدا "مقتل أستاذ جامعي":
"أطلقتُ العنان لدموعي.. دعوتُ له كثيراً.. راوده حلم جميل.. ترى هل يعيش؟؟؟".
في الخلاصة، ومع قلة النماذج المدروسة هنا، لكنني التقطتُ ذلك الحس الإنساني الذي يتلبّس الكاتبة د. بتول البستاني، وهي تتقصى بأقلّ الكلمات فجائعنا الكبرى، ومن فضائل هذه النصوص إنها تُسهم في تدوين تلك الفجائع، لتضعها أمام مرأى وبصائر من لم تتهيّأ لهم فرصة المتابعة والإبصار لما جرى في الموصل وبغداد والعراق، ولكن ليس من مهمة هذه القصص القصيرة جداً التوصيل بصيغة الإخبار أو التوثيق ولا بصيغة التدوين الواقعي، بل أن ميزة هذه النصوص القصيرة جدا، أو من أهم مزاياها، أنها تلامس الحقائق بعد رصدها عن بعد أو عبر التعايش معها، ومن ثم بلورتها في مشاهد وصيغ سردية محلّاة بالفن على الرغم من مرارتها وآلامها.
اضف تعليق