الديمقراطيات الغربية هي في مأزق ترزح فيه تحت اللامساواة المتزايدة وفقدان الثقة في الحكومة وتفكك النسيج الاجتماعي وانقسامات سياسية حادة. سبب هذه الكوارث برأي الكاتب هو الحداثة ذاتها. صعوبات اليوم هي نتيجة حتمية للأفكار المعيبة لمفكرين مثل ميكافيلي وفرنسيس باكون وهوبز وديكارت وجون لوك الذين...
تتطلب الفردية الليبرالية انحلال الثقافة، وعندما تضمحل الثقافة تدريجيا يتآكل العملاق وتختفي الحرية المسؤولة. (من كتاب لماذا فشلت الليبرالية، للكاتب باتريك دينين، ص 88).
كتاب باتريك دينين شديد التشاؤم، اطروحته باختصار تؤكد على التالي:
1- الليبرالية هي فلسفة استخدمها الغرب لبناء المجتمعات.
2- لا يمكن الحفاظ على ديمومة الليبرالية لأنها تقدّس الفردية التي تُضعف القيم الثقافية والاخلاقية المطلوبة لكي يعيش الناس مجتمعين بانسجام.
3- حاجتنا لمثل هذا الانسجام يقود الناس للسماح بتعاظم سلطة الحكومة والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة الحجم.
4- الحكومة والمؤسسات الاقتصادية الكبيرة الحجم تُضعف الحرية الفردية التي تزعم الليبرالية انها جاءت لترسيخها.
لكي نوضح، سنستخدم موقفا افتراضيا نلجأ فيه لطلب مساعدة اليد القوية للحكومة.
لو كنت تعيش في الطابق السادس من بناية ذات 15 طابقا في وسط مدينة كبيرة. كان لديك موعد في الصباح الباكر ليوم غد، لذا انت بحاجة لنوم كاف قبل ذلك الموعد. احد الجيران كانت لديه حفلة، والموسيقى الصاخبة تنطلق من بيته. انت حاولت النوم لكنك لم تستطع، واخيرا اتصلت بالشرطة. قبل 200 سنة لا يمكن ان تحصل مثل هذه المشكلة. الناس بدلا من ان يعيشون متلاصقين الى بعضهم، كانوا في السابق يعيشون في القرى في بيوت منفصلة عن الجيران. كل واحد يعرف الآخر بحيث ان جارك على اطلاع بأهمية الموعد لديك، وانت ايضا تكون على دراية بالحفلة المخططة بحيث انكما تستطيعان التفاوض على تسوية معقولة. اخيرا، اذا فشلت كل تلك الجهود، فانت تعرف معظم الحاضرين في الحفل، تستطيع طرق الباب والطلب منهم خفض صوت الموسيقى.
النقطة هنا في هذا المثال هي ان المجتمع قد تطور، أصبحنا في حالة متزايدة من الاعتماد المتبادل، واصبحنا اقل حجما (ذرات منعزلة). أصبحنا أكثر اعتمادية لأننا أكثر تخصصا ضمن وحدات اجتماعية كبيرة مثل المدن والاسواق العالمية والمباني العملاقة. نحن أصبحنا أصغر حجما لأن الروابط الاجتماعية في القرية والعائلة جرى استبدالها بعلاقات أضعف واكثر تباينا خلقتها ارتباطاتنا المهنية وعاداتنا ومصالحنا.
لذا، نحن نستدعي البوليس للتعامل مع الصوت الصاخب في الحفل. في هذا الشأن الكاتب ليس اول من يقترح بانه عندما تضعف المؤسسات الثقافية فان الحكومة تميل للتوسع لتلبية الحاجات الاجتماعية.
لكن ما يريد المؤلف قوله هو اننا نستدعي البوليس لأن الليبرالية فشلت كفلسفة. الليبرالية تتجاهل بالضرورة القيم والمؤسسات الثقافية التي يمكنها ان تساعدنا لنعيش بانسجام.
يذكر المؤلف ان الليبرالية تصورت الناس كأفراد ذوي حقوق يستطيعون متابعتها لأجل الحياة الجيدة... ويضيف، ان الليبرالية جاءت لتعزز مساواة اكبر ولكي تدافع عن النسيج التعددي لمختلف الثقافات والعقائد ولحماية احترام الانسان وتوسيع الحرية (ص3). ما يعارضه المؤلف هو ليس هذا المبدأ الشمولي والمهم لليبرالية وانما الطريقة التي طورتها الليبرالية في تفسير وتطبيق ذلك المبدأ. هو يكتب: حاجتنا الى الليبرالية تكمن في استمراريتها بالالتزام العميق بالتقاليد السياسية الغربية وخاصة الجهود لضمان احترام وحرية الانسان من خلال كبح الاستبداد والحكم الاوتوقراطي والقمع. في هذا الشأن تُعتبر الليبرالية مرتكزة على الالتزامات السياسية الضرورية التي طُورت عبر قرون في الفكر الكلاسيكي والمسيحي وتطبيقاته. غير ان ابتكارات الليبرالية حالت دون بلوغ التزاماتها المعلنة(ص19).
طبقا للكاتب، الفلاسفة الكلاسيك ركزوا على اهمية الاخلاق. الافراد يجب ان يمتلكوا فضيلة الكبح الذاتي لكي يعملوا جيدا في العوالم الفردية. هم يجب ان يمتلكوا فضيلة مدنية لتكون لديهم جاليات مزدهرة. الليبرالية كما يرى المؤلف لا تحترم هذه الحاجة للفضيلة.
ان التأكيد الكلاسيكي والمسيحي على الفضيلة وغرس قيود الذات اعتمد على تعزيز المعتقدات والهياكل الاجتماعية المنظمة بكثافة من خلال الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعائلية. ما اُعتبر كدعم جوهري للتدريب على الفضيلة – ومن ثم كشرط مسبق للتحرر من الاستبداد- نُظر اليه كمصدر للقمع والاوتوقراطية والتقييد(ص25).
أعداد متلاحقة من المفكرين في العقود والقرون الماضية كانوا يعيدون تعريف الحرية كتحرير للإنسان من السلطات القائمة وانعتاق من الثقافة والتقاليد العشوائية وتوسيع لسلطة الانسان وسيطرته على الطبيعة من خلال التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي (ص27).
يقول المؤلف ان الليبرالية ابتعدت عن القيم الكلاسيكية والمسيحية. ما كان جديدا في هذا الاساس الفاشل في تقييم المؤسسات والمجتمع والعضوية في الاتحادات وحتى العلاقات الشخصية اصبح خاضعا لإعتبارات الخيار الفردي المرتكز على حسابات المصلحة الذاتية وبدون اعتبار اوسع لتأثير خيار الفرد على الجماعة، والتزاماته نحو النظام ومن ثم نحو الله(ص33).
يرى الكاتب ان الديمقراطيات الغربية هي في مأزق ترزح فيه تحت اللامساواة المتزايدة وفقدان الثقة في الحكومة وتفكك النسيج الاجتماعي وانقسامات سياسية حادة. سبب هذه الكوارث برأي الكاتب هو الحداثة ذاتها. صعوبات اليوم هي نتيجة حتمية للأفكار المعيبة لمفكرين مثل ميكافيلي وفرنسيس باكون وهوبز وديكارت وجون لوك الذين وضعوا دعائم التنوير والديمقراطية الليبرالية الحديثة. هؤلاء المنظرين يرى الكاتب انهم رفضوا الجهود الكلاسيكية والمسيحية الرامية لتعزيز الفضيلة وبدلا من ذلك بنوا نسختهم العلمانية للسياسة على رؤية عملاقة للفرد المتحفز بالفخر والانانية والجشع والبحث عن المجد. وعلى هذا الاساس تنامت قوة الديمقراطيات الغربية وتعاظمت ثروتها لكنها ايضا شهدت النتائج المدمرة للمصلحة الذاتية. الروابط الاجتماعية والقيم التقليدية اختفت، والمواطنون يشعرون مهددين من تنامي قوة الدولة. الكاتب يرى بضرورة العودة الى الوحدات الصغيرة كالعائلة والكنيسة والجاليات المحلية. حماية عالم الحياة الخاصة والمجتمع المدني هذا هو بالضبط ما سعت اليه الليبرالية.
يرى الكاتب ان ايمان الليبرالية بالسوق الحر وبالحكومات الدستورية وبالعلم قادنا للتسامح وحتى تشجيع سلوك المصلحة الشخصية الخالصة من جانب الافراد. نحن نثق بان التكامل الاقتصادي سيأتي من الحوافز التي تعمل في السوق الحر. اما التكامل السياسي كما يرى البعض سيتم ضمانه بفصل السلطات...
في ادّعائه بفشل الليبرالية يشير الكاتب الى عدة ظواهر:
1- زيادة تركيز السلطة السياسية لدى موظفي الوكالات الحكومية غير المنتخبين.
2- لا مساواة اقتصادية حادة.
3- هبوط في نسبة طلاب الجامعات الذين يدرسون العلوم الليبرالية وهبوط حاد في نوعية تلك الكورسات.
4- التكنلوجيا تهدد لتكون سيدا علينا بدلا من خادم لنا.
5- الكوارث البيئية.
اشار الكاتب الى ان نجاح حملة ترامب الانتخابية وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي كعلامة على ان النظام الليبرالي فقد اعجاب الرأي العام. لكن هذا الانتصار لم يأت ضمن نقاط الفشل التي حددها الكاتب اعلاه، حملة ترامب وبريكست بُنيت على مسائل الهجرة.
في كتاب "فضائل البرجوازية" للكاتبة Deirdre N.McCloskey الذي نُشر عام 2006 تشير فيه : ان نوعية الحياة الحالية هي افضل من حياة اجدادنا. المرأة الفلاحة الايرلندية التي كانت تحرث لزراعة البطاطا عام 1805 او الفلاح النرويجي في عام 1800 او البنت الامريكية لفقير انجليزي عام 1795 كلهم عاشوا حياة قصيرة وقاسية واكثرهم لا يستطيع القراءة. الكاتبة رفضت الإدّعاء بان الليبرالية اضعفت الشخصية الانسانية. فهي تقول ان العرق الانساني مليء بالعيوب الاخلاقية ولكن هذا حصل ايضا ايام الكلاسيك الاغريق واوربا المسيحية.
بناء على ما تقدم لا نستطيع الاعتراف بان الليبرالية فشلت لكنها بالتأكيد تبدو تمر بمشاكل صعبة ونحن لانزال بإمكاننا التساؤل عن سبب ذلك. المركز السياسي يبدو ضعيفا في العديد من الدول الغربية. الاحزاب التقليدية الكبيرة اصبحت غير قادرة على تكوين تحالفات في المانيا وايطاليا.
الناخبون يكثفون باستمرار دعمهم للأحزاب الجديدة وللحركات الصغيرة. بعض مقترحات الكاتب للإصلاحات ربما مفيدة. فهو يرغب ببناء حكومة جاليات ومؤسسات وسيطة اخرى لتقليل حجم السياسات المقررة في مستوى الحكومة المركزية. نجاح الدول الصغيرة مثل سنغافورة او الدول الاسكندنافية يبين ان الحكومة لا تحتاج الى دوائر انتخابية كبيرة الحجم لكي تكون فعالة. سويسرا ذات الـ 8.4 مليون شخص لها نظام فيدرالي تناط به المسؤوليات في مستوى الادارات المحلية (الكانتونات) والذي هو مشابه لما في الولايات المتحدة.
افكار الكاتب ليست كلها جيدة. هو يفضل الاقتصاد المحلي وهو امر يبدو أكثر كلفة مقارنة بالفوائد، لأننا حاليا نعتمد بكثافة على التخصص والتجارة. في الاقتصاد المحلي ربما سنعود الى استخدام الاشياء البدائية القديمة.
ان الخوف الرئيسي على مستقبل الليبرالية يكمن في ميول خطاب الرأي العام. يبدو اننا نصبح اقل تسامحا مع من لا نتفق معهم. الناس يتحدّون خصومهم، يسخرون من ذكائهم ويتجاهلون حقهم بالاستماع اليهم. من الصعب القبول بهذا السلوك السياسي المتضاد مع قيم الليبرالية. الكاتب يتهم المدافعين عن الليبرالية بمحاولة حل مشاكل الليبرالية بمزيد من الليبرالية. نعتقد انه لو جلبنا الليبرالية الحقيقية للنقاشات السياسية عندئذ سنكون اقل خوفا من المستقبل.
اضف تعليق