ربما هي مفاجئة للرأي العام والمتابع لتطورات المعارك المحتدمة في الموصل، أن يتوسع أفق المواجهة مع تنظيم داعش الى مديات انسانية وحضارية تتجاوز ظاهر المعطيات على الأرض، رغم الأهمية البالغة والمؤثرة للانتصارات التي يحققها أبطال القوات المسلحة من جيش وحشد شعبي وغيرهم، لذا فهي تُحسب لرئيس الوزراء حيدر العبادي عندما يصرح في سياق الإعلان عن بدء عمليات تحرير الساحل الأيمن للمدينة بأن "مهمتنا الرئيسية هي تحرير الإنسان قبل تحرير الإرض".
لقد اتفق معظم المفكرين والباحثين على أن ما يتركه الوعي من فراغ في ذهنية الجماهير المطالبة بحقوقها، يملأه العنف كوسيلة للوصول الى تلك الحقوق، بغض النظر عن تفاصيل تلك الحقوق ومدى مطابقتها للمعايير والقيم.
وهذا يفسّر قيادة معظم النشاطات العنيفة في العالم، تنظيمات سياسية تجد في العمل المسلح والاعمال الارهابية وسيلة سريعة لتحقيق اهدافها وتمرير افكارها، ولعل بعض التنظيمات المحسوبة على الإسلام في بلادنا، وما قامت به أعمال كارثية دفعت ثمنها الشعوب، يكون الدليل الملموس والقريب، وما الحرب المدمرة في سوريا ببعيدة، وقبلها العراق طبعاً.
أهل الموصل وقود لنار الحرب الخاسرة
هناك اسباب كثيرة جعلت أهل الموصل وقبلهم أبناء المكوّن السنّي في مدن ومناطق شتّى، تستعين بالجماعات الارهابية لتحقيق مطالب تتعلق بالخدمات او المشاركة السياسية وغيرها، بيد أن السبب الأساس يعود الى إيمان الشريحة الواسعة بمنطق القوة والسلاح للضغط على الحكومة والدولة الحديثة النشوء بغية الحصول على ما يريدون، ولهذا الايمان جذور مجتمعية وأخرى ثقافية ضاربة في التاريخ.
وعندما نتحدث عن الوعي فهو ليس التعبئة النفسية والاستفزاز لدفع الناس لحمل السلاح او الترحيب بالجماعات الارهابية لتكون بديلة عن مؤسسات الدولة، لأن هذا لا يأخذ وقتاً كثيراً، كون الانسان من حيث التكوين ينطوي على "طاقة الجهل" التي تتجلّى في الواقع الخارجي بحبّ الأنا والذات والنزعة نحو تحقيق الرغبات النفسية مهما كانت النتائج، وتحريك هذه الطاقة بإثارة الغرائز والنوازع ليس بالأمر الصعب، بينما تحريك "طاقة العقل ومعطياته من العلم والحكمة"، بحاجة الى محفزات ومثيرات للدفائن، وهذا بحاجة الى وقت طويل تتخلله مراحل تثقيف وتعريف الانسان بطاقاته وقدراته، ثم معرفة أهمية القيم والمفاهيم في حياته، والأهم من ذلك؛ إرادته التي من خلالها يتمكن من تغليب طاقة العقل.
وعندما يكون الحثّ والدفع لتغليب طاقة الجهل من الطبيعي أن تكون القراءة لمفاهيم كبيرة ومصيرية مثل الجهاد او المظلومية، تتجه الى مديات يكون الانسان فيها مستعداً للموت بشكل مريع في سيارة مفخخة او متمنطقاً الحزام الناسف دون أن تكون في ناظره شخوص لبشر في الاسواق والمدارس والطرقات، وما اذا كان لهم دخل فيما يدعون بتعرضهم للتمييز والاضطهاد، وايضاً المشاركة في عمليات قتالية لا رجعة فيها، ومن ثم المشاركة المجتمعية لدعم الجماعات الارهابية لوجستياً وتقديم مختلف اشكال الدعم والمساندة التي وصلت الى حد تزويج بعض افراد هذه الجماعات وتحديداً من تنظيم داعش حتى وإن كانوا قادمين من افغانستان او الشيشان او أي مكان آخر في العالم.
التحرير الحقيقي والمسؤولية الاجتماعية
بما ان الديكتاتوريات والايديولوجيات الظلامية تعشعش دائماً في الأدمغة الفردية وفي حالات التقوقع والذاتية في بعض المجتمعات، فان الحالة الاجتماعية والشعور بالمسؤولية الجماعية والسير باتجاه الحالة التكاملية بين الفرد والمجتمع، كلها تشكل منظومة تمكّن الانسان من تغليب طاقة العقل المطابقة لفطرة الانسان السليمة الداعية الى تحقيق كل سبل العيش الكريم والاستقرار والأمان والتقدم في الحياة.
والذي ميّز الإسلام في نظامه الاجتماعي على سائر الانظمة والنظريات التي حاولت صياغة أنماط عيش للناس، أنه أوجد علاقة مقدسة بين الفرد وبين المجتمع، فهو أقر للانسان الفرد حرية التفكير والتملك وحتى العقيدة من دون ان يكون لهذه الحرية أي تعارض مع كيان المجتمع، وفي كتابه "الفكر الاسلامي، مواجهة حضارية" يوضح سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدسي – دام ظله- هذه الفكرة الجوهرية بأن كون "الانسان عبداً لله، وان امتلاكه لنفسه ناشئ من تمليك الله له ذلك، وبما أنه عبد فهو مسيّر بأمر الله وفي صراطه، فكما خلق هذا الفرد، خلق الآخرين ايضاً، فهما متساويان أمام الله متكافئان في الحقوق والواجبات..."، و وفق هذه المعادلة يكون تنظيم العلاقات الاجتماعية، بل وعلاقة الانسان الفرد بعائلته واصدقائه وجميع افراد المجتمع، وتجد مفاهيم وقيم،مثل التعاون والتكافل والتنافس وغيرها، مجالات واسعة في التطبيق العملي.
وفي الختام؛ فإن تحرير الانسان في مدينة الموصل وسائر المناطق التي يحتلها داعش، ينبغي ان يأخذ المديات الانسانية بالمعنى الأوسع للمصطلح، وليس فقط تقديم الطعام والشراب والسكن بعد حصول حالات تهجير قسري وغير ذلك من نتائج الحروب، لأن الاحتلال الفكري والثقافي سبق بكثير الاحتلال العسكري الذي لا يتجاوز عمره السنتين فقط، حتى يُصار الى نصر حقيقي يلمسه جميع افراد الشعب العراقي بغية التطلّع – بعدئذ- الى آفاق المرحلة الجديدة التي يفترض ان تكون للإعمار والبناء والتعويض عما خربته الحروب والفتن والتضليل.
اضف تعليق