يوجد اعتراف جليّ من المتضادّين حول الإرث الفكري، يتفقون فيه على أن بوادر التنظير بدأت لأول مرة بأقلام أئمة أهل البيت، وجلّ المكتوب في هذا الفضاء الفسيح يلتقي مع الهموم الإنسانية قديماً وآنياً، ومن الأمور المحققة (ان اول من الّف ودون في دنيا الإسلام هم ائمة اهل البيت (ع)، والعلماء العظام، فهم الرواد الأوائل الذين خططوا مسيرة الامة الثقافية وفجروا ينابيع العلم والحكمة في الأرض، كما يثني على ذلك خيرة المختصين بفكر أهل البيت.
ومن الجدير بالذكر ان مؤلفتاهم، وسائر بحوثهم لم تقتصر على علم خاص وأنها تناولت جميع أنواع العلوم كعلم الفقه والتفسير والحديث والاصول وعلم النحو والكلام والفلسفة، بالإضافة الى وضعهم لقواعد الاخلاق، وآداب السلوك، واصول التربية).
وما لا يختلف عليه أصحاب العقول الوارفة بالعلم، أن أهل المعروف يستحقون الثناء ومزيد الشكر بدلالة الآية الكريمة " لئن شكرتم لأزيدنّكم"، فهؤلاء يغيرون وجه الأمن، وينقلون جهات التفكير من بوصلة الى أخرى، وما أكثر ما يرتقون بالعقول ذات الرؤية المصابة بالغبش، لاسيما أننا نعيش في عصر يتكالب فيه الجميع على المصالح، فاندثر الأثر الإنساني للعلاقات المتبادلة، فالمحفّز دائما منفعة تختبئ في مضامير المآرب الخفية للعلاقات المرسومة والمخطّطة، ففي عصر اللهاث المادي لا أحد يقدّم لك ما تحتاجه لوجه الله.
لكن الإمام السجاد (ع) في رسالته الحقوقية يلفت انتباه الأمة، أفرادا وجماعات حتى لا ينسلخوا من القيم الإنسانية، ولا ينحدروا في المنحدر الآسن نحو القعر، فقال باختصار وجب علينا أن نشكر أهل المعروف، في متلازمة لا فكاك فيما بينها، فأقل ما يوجب تقديمه لفاعل المعروف أن نهديه الشكر عن طيب خاطر.
في نص خاص وارد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (ع) حول حق صاحب المعروف ما يلي: (واما حق ذي المعروف عليك، فان تشكره وتذكره معروفه، وتنشر له المقالة الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين لله سبحانه، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية، ثم ان أمكن مكافأته بالفعل كافأته والا كنت مرصداً له، موطناً نفسك عليها).
لماذا يتوجب تقديم الشكران لفاعل المعروف؟ ما نعيشه اليوم من حالات جفاء، وتعاظم موجات الأحقاد والضغائن، وانتعاش الصراعات الجانبية بعيدا عمّن يضبط إيقاعها، ويدخلها ضمن إطار التنافس الصحيح، يجبرنا كمسلمين أن ننبش الخفايا، وأن لا نكتفي بالظاهر، فما يدور حولنا وبيننا خطير، الفرد منا مشغول بنفسه أكثر من أي شيء آخر، مرتبك، متردد، تائه في بحر من الغموض، لماذا؟ الجواب سهل، إنه يخشى يومه وغده ينقصه الإيمان، لا يخطر في باله أن يمد يده كي ينتشل شخصا آخر مكبّل بمشكلة ما.
إنه معني بنفسه وابنه وذويه لا أكثر، فما يحصل للعالم لا يعنيه، كما يقول الشاعر: "إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القَطْرُ)، وهو يعني أنّ نفسه أولا وليحترق العالم بعد ذلك، وهو تفكير بائس مغمّس بالأنانية من أخمص القدمين حتى قحفة الرأس، ولننظر لبرهة لا أكثر الى انتشار مثل هذه القيم الميتة بين المجتمع، كما نعاني اليوم بالفعل من الانشغال بالذاتي، وكأن الكائنات من حولنا لا صلة لها بنا، وأننا غير مسؤولين عنها، فنعلن أقصى حالات المنفعة مقابل أقصى حالة هروب وتخلي عن إعانة الآخر.
لقد قلّت أعمال المعروف، وهذا ما أشار إليه الإمام السجاد، ومن بين أهم الأسباب التي وقفت وراء انتشار الأنانية، والانشغال الذاتي عدم تقديم الشكر لمن يبادر بالمعروف، وقد لا نبالغ إذا قيل أنه تم رصد مشاهد عقوق وجحود لفاعل الخير، وبعضهم لا يكتفي بالعقوق والجحود ويتنكر لم قدم له المعروف، فيذهب الى ما هو أبعد عندما يبادر بالإساءة لصاحب المعروف، فيا لنا من جناة على أنفسنا.
لهذا كله وضع الإمام السجاد نصوص رسالة الحقوق بيننا، حتى لا نصل الى اليوم الذي نغدو فيه وحوشا على بعضنا، فما ضرّكَ لو شكرت مقدّم المعروف لك ولغيرك، وأنت على علم أن الشكر إطراء وإسباغ للعرفان والامتنان لفاعل المعروف، فيضاعف ويزيد من أعماله المفيدة لمن يحتاجها ويستحقها، خاصة أن الإسلام قد (تبنى الإسلام بصورة إيجابية الدعوة الى الاحسان، وشكر المحسن وتشجيعه على هذه الصفة الرفيعة الهادفة الى إيجاد التضامن بين المسلمين، وخلق مجتمع افضل تتوفر فيه جميع عناصر القوة، لقد حث الامام (عليه السلام) على شكر المحسن، وإذاعة فضله واحسانه تكريماً للفضيلة بين الناس، كم حث على الإخلاص له في الدعاء، ومكافأته بالأفعال).
لماذا يا تُرى يبادر الإمام نحو ذلك؟، أليس في هذا درسا للمسلمين حتى يرتقوا بمجتمعهم، بأنفسهم، وما هو الأمر الصعب في أن تشكر صاحب المعروف، أين الصعوبة أو المشكلة في هذا؟ أم هي العزة بالإثم، ربَّ نفس تمنع الشكر عن فاعل المعروف، ليس لأنه لا يستحق ذلك، بل لأنها لا تستطيع أن تتحمل تقديم الشكر بفعل أنانيتها، فأية أنانية وأي غرور ذلك الذي يستكثر على صانعي المعروف نوعا من الإطراء وهو كذا نوع من التشجيع، حتى يتحوّل الناس من الانشغال بالنفس الى الانشغال بالكل أو بالمجتمع.
الإمام السجاد (ع) وضع نصوص الرسالة الحقوقية حتى تساعد المسلمين على ردم الفجوة بين ما هو مرسوم وبين ما هو متحقق، فالشكر والمعروف قريبان من بعضهما، متآلفان، منتميان الى ساحة الخير، وعلى المسلمين ترويض النفوس الأمارة، وتعليمها وتدريبها على الشكر، فهو يبنى الفرد ويبني المجتمعات، وهو حالة من الإنقاذ التي بات المسلمون بحاجة قصوى لها.
اضف تعليق