بين ثلاثة عهود لثلاثة رؤساء تبوَّؤوا سدة الحكم في أمريكا.. ظهرت حالة تذبذب جلية في طريقة حكم الولايات المتحدة الأمريكية.. الرؤساء الثلاثة هم كل من بوش الابن.. أوباما.. و دونالد ترامب الرئيس الأمريكي الحالي.. حالة التذبذب مصدرها شخصيات الرؤساء الثلاثة الذين سبق ذكرهم.. فبحسب علماء النفس والسياسة ينعكس الفكر والسلوك الشخصي على طبيعة إدارة الدولة.. حتى لو كانت تحكمها المؤسسات المستقلة.. بصمات الرئيس سوف تظهر هنا وهناك بما لا يقبل الريب.
يوجد مثل شعبي نصّه الحرفي: كشِّر عن أنيابك.. حتى الناس تهابك.
الرئيس الأمريكي بوش الابن طبّق هذا المثل بحذافيره.. في سلسلة الحروب التي خاضها بعد التفجيرات التي ضربت نيويورك فيما أُطلق عليه بـ اعتداءات سبتمبر.. بدأت سلسلة الحروب تلك على حكومة طالبان في أفغانستان ثم على العراق في 2003.. تحوّل العالم في أثنائها الى بؤرة حرب ملتهبة.. زجّت بالرعب في قلب العالم.. وظهرت أمريكا (الخائفة وليست القوية).. فهي تغادر الحكمة وتضرب القانون عرض الحائط.. خصوصا أن الأمم المتحدة لم تمنح حربها هذه تفويضا شرعياً.. واعترضت عليها الفاتيكان.. لكن حالة الرعب التي تلبَّستْ أمريكا (السياسية) دفعت بوش الابن الى التفريط بهيبة أمريكا عندما بدأت تلعب مع الصغار!.
تعود الأمور الى الرزانة والتماسك والقوة التي تستمد حضورها من الثقة.. وليس من الخوف والشعبوية وإشعال فتيل التعصب لدى الطبقة الشعبية ذات الوعي البسيط.. هذا ما فعله ترامب حينما ركّز منذ اللحظة الأولى لحملته الانتخابية على استعادة (أمريكا العظيمة).. محاكيا الحس الشعبوي الأمريكي.. متخليا عن مبدأ (القوة الواثقة) التي تتحلى بها أمريكا المتوازنة.
في عهد أوباما شعر العالم أن الرئيس الذي خلف بوش الابن.. بدأ يسكب الماء على الحرائق التي أشعلها بوش في مناطق عديدة من العالم.. وشيئا فشيئا عبر منهج (القيادة من الخلف) أو مبدأ (القوة الناعمة).. عادت أمريكا القوية المتوازنة التي لا تحتاج الى إثارة العنف ولا الى سياسة التوحش كي تثبت لغيرها بأنها الأقوى في المعمورة.
ما تؤكده الشواهد.. أن أمريكا لم تكن ضعيفة في عهد أوباما.. إنها أمريكا العاقلة.. أمريكا التي قضت على أخطر أقطاب الإرهاب (بن لادن) في عملية قادها وشارك في رسمها وتابع خطواتها التنفيذية لحظة لحظة الرئيس أوباما.. إنه رئيس قوي حاذق نجح بحسب الوقائع والنتائج الناهضة على الأرض.. في سياسة (القوة الهادئة) البعيدة عن الصخب والعنف.. حتى أن العالم في عهده كان يميل الى الدعة.. على الرغم من أن درجة الاحتقان والتطرف العالمي بلغت درجة غير مسبوقة بسبب التراكمات التي سبقت عهد أوباما.
لا يمكن أن نهمل لحظات السعادة التي أحاطت بالأرض وبمنطقة الشرق الأوسط تحديدا حينما نجح إدارة أوباما بالوصول الى النتائج الإستراتيجية للملف النووي الإيراني.. في هذه الخطوة أثبتت أمريكا أنها دولة كبرى حقا.. فقد حققت ما يريده العالم الصالح عبر سياسة العقل الراجح.. فعبر ما يقرب من عشر سنوات للمفاوضات المارثونية التي تخللها المدّ والجزر.. وتوسطتها استعصاءات مريرة.. وقدم خلالها الطرفان أمريكا وإيران ما يكفي من الصبر والذكاء والحرص الحقيقي لتجنيب الشرق الأوسط والعالم كارثة ظلت تلوح في الأفق لسنوات.
أمريكا في عهد أوباما لم تكن ضعيفة قط.. وهي في عهد بوش الابن لم تكن قوية بل أظهرت ضعفا غريبا لا ينسجم مع حجمها الدولي كقوة يمكنها أن تجعل الأرض أكثر عدالة ورحمة.. اليوم جاء ترامب ليعيد ما فعله بوش الابن ولكن بأسلوب آخر.. قد يصح أن نطلق عليه الأسلوب (الترامبي الشعبوي).. لكن هل من المتوقع أن تنعكس شخصية ترامب وأفكاره وسلوكه على أمريكا؟؟.
كما يتراءى من المشهد الأمريكي أن حالة التذبذب تتفاقم وتتضح بدرجة أكثر جلاء.. ولكن تاريخ هذه الدولة سوف يقف كالسد المنيع إزاء ما يحلم ويخطط ترامب لتقوقع دولته وعزلها عن العالم.. يتابع الجميع نقطة شروع المواجهة بين الرئيس الفرد ترامب.. وبين المؤسسات الأمريكية المستقلة التي أصبح عمرها الآن أضعاف عمره رئيسها.. وثمة نُذُر جلية توحي أو في الحقيقة تعلن عن بدء جولة صراع بين (ترامب ومؤسسات الدولة).
يبدأ هذا من جولة الصراع المعلنة بين مؤسسة القضاء الأمريكي والرئيس ترامب.. وقد خسر الأخير الجولة الأولى عندما تمكنت مؤسسة القضاء المستقلة.. من عرقلة وإيقاف ما أمر به ترامب حول منع رعايا سبع دول من دخول أمريكا.. هذه الهزيمة التي تحققت على رؤوس الأشهاد لم يعترف بها ترامب.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد حينما أصرّ الرئيس على أن الغلبة ستكون له في النهاية.
في الأخير ما يتوخاه العالم.. وخصوصا البقاع الملتهبة كالشرق الأوسط.. أن تتغلب دولة المؤسسات الأمريكية على النزق الفردي الذي ينحدر بالدولة الى ما لا يليق بها.. فالرئيس الجديد الذي يريد أن يعيد الهيبة لأمريكا بحسب ما يبوح به علنا للملأ.. إنما هو في الحقيقة يهدد بتدمير هذه الهيبة.. فهو يدفع بأمريكا الى اللعب بأوراق محترقة.. وهو يعزف على وتر شعبوي مرفوض من النخب الأمريكية الأكثر حرصا على أمريكا وعلى العالم.
كما وتشرئب نقطة ضعف أشّرها الجميع خصوصا السياسيون في أمريكا وأوروبا.. حينما أظهروا مقتهم للفقر الذي يعاني منه ترامب حول خبرته السياسية.. وفقره في حيّز العمل السياسي.. إنه بحسب هؤلاء فقير سياسيا.. وقد نصحَ هؤلاء ترامب أن لا يغامر ولا يندفع نحو متاهات ربما تأخذه الى نهايات لا يرغب بها.
اضف تعليق