أولا ماذا تعني الثقافة؟، وما هو دورها في حياة الإنسان، فردا، أو جماعة، وهل تعني مجموعة القيم التي يؤمن بها الإنسان، أم منهجه في التعامل مع الآخرين، ثم هل هناك ثقافات تدعو الى الانغلاق والتعصب، وهل هناك العكس، ثقافات تحث على الانفتاح والتشبيك المفرط مع الثقافات الأخرى، وأيهما أكثر فائدة، أن تكون الثقافة في عزلة من سواها، أو منفتحة متفاعلة مؤثرة في الأخرى ومتأثرة بها؟، هذه جملة من التساؤلات من الحري بالمعنيين الإجابة عنها حتى يتسنى للجميع فهم ما تعنيه الثقافة وما هي فوائد الانفتاح والتشبيك مع الثقافات الأخرى ما هي الأضرار المتوقعة من ذلك؟.
وقبل البدء في معالجة التساؤلات المذكورة نستعرض مفهوم الثقافة، فهي بحسب المختصين (كلمة قديمة وعريقة في العربية، فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وفي المعجم "وثقف نفسه" أي صار حاذقاً خفيفاً فطناً، وثقفه تثقيفا أي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه، والمثقف في اللغة هو القلم المبري، وقد اشتقت هذه الكلمة منه حيث أن المثقف يقوم نفسه بتعلم أمور جديدة كما هو حال القلم عندما يتم بريه.
ولطالما استعملت الثقافة في عصرنا الحديث هذا للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات. فالثقافة لا تعد مجموعة من الأفكار فحسب، ولكنها نظرية في السلوكِ مما يساعد على رسم طريق الحياة إجمالا، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تميز بها عن غيرها من الجماعات بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب.و إجمالا فإن الثقافة هي كل مركب يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات).
إذاً بالإمكان استخدام كلمة "ثقافة" في التعبير عن أحد المعاني الثلاثة الأساسية التالية: التذوق المتميز للفنون الجميلة والعلوم الإنسانية، وهو ما يعرف أيضا بالثقافة عالية المستوى. نمط متكامل من المعرفة البشرية، والاعتقاد، والسلوك الذي يعتمد على القدرة على التفكير الرمزي والتعلم الاجتماعي. مجموعة من الاتجاهات المشتركة، والقيم، والأهداف، والممارسات التي تميز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما.
الحاجة الى فهم الحياة الشاملة
إنّ الإنسان بحاجة إلى فهم الحياة الاجتماعية والسياسية ومعرفة التأريخ وأحكام العقيدة والشريعة والقانون والأعراف... إلخ. لكي يستطيع أن يتعامل مع المجتمع تعاملاً سليماً، ويرسم خطّة حياته، ومواقفه من الأمور والحوادث والناس الآخرين بوضوح ونجاح، وإذاً فالثقافة معرفة وسلوك، أو هي معرفة تهذِّب السلوك الإنساني.. والجاهل بالمعارف والعلوم لا يستطيع أن يفهم المواقف والوقائع فهماً صحيحاً .مثلاً: نحنُ بحاجة إلى المعرفة لكي نحدِّد مواقفنا من الوضع السياسي القائم في بلادنا، أو النظام الاقتصادي الّذي تسير عليه الدولة، أو المنهاج السياسي الّذي يتبنّاه حزب أو زعيم سياسي مرشّح للسّلطة أو مجلس الأمّة.. أو مسألة دور المرأة في الحياة الاجتماعية.. أو مسألة حجاب المرأة، أو مسألة الحرِّيّات وحقوق الانسان.. أو الموقف من مذهب إسلامي أو فكرة عقائدية معينة.
إنّ فهم هذه المسائل وأمثالها، وتحديد موقفنا منها، يحتاج إلى وعي ومعرفة، ومما لا شك فيه إنّ الانسان المثقّف هو الّذي يملك تحصيلاً علميّاً يمكِّنه من فهم الأشياء ووعيها، وتحديد الموقف السّليم منها مباشرة، أو عن طريق مُتابعة هذا الموضوع أو ذاك، ودراسته وفهمه إذا واجهه، في حين عندما يكون الانسان قليل الثقافة، أو إنساناً غير مُتعلِّم، فلا يستطيع أن يُحدِّد موقفاً سليماً من هذه القضيّة أو تلك اعتماداً على فهمه ووعيه.. بل سيكون إنساناً مقلداً أو تابعاً للآخرين، وفي ذلك خطر على شخصيّته وموقفه، وكثيراً ما يندفع الناس الّذين لا يملكون وعياً ولا ثقافة كافية لتأييد مواقف وقضايا خاطئة،وبهذا الموقف يكون هذا الإنسان إمّعة، وتابعاً من غير وعي، وكثيراً ما يتّخذ مواقف خاطئة، ثمّ يندم بعد أن ينكشف له الموقف.
وثمة من يرى بأن الإنسان المثقّف، هو كائن بشري متحضر ومتنور، يعرف معنى الإنسانية ويحترمها، وهو إنسان متوازِن الشخصية، يتعامل مع الأشياء بعقل علمي وموضوعيّة، كما أنه يسعى للإطلاع على منابع ثقافته ويسعى أيضا لسبر أغوار الثقافات الإنسانية، ويحاول أن يمد معها جذور التواصل، ويقيم بشكل متواصل عمليات تشبيك مع الثقافات الأخرى، ويشجع على ذلك، علما أن هذا الأسلوب في التواصل مهم وصحيح، ولكن يتطلب إنسانا محصنا بثقافة قوية تمنعه من التأثر بثقافات قد تعمل بالضد من مصلحة الكائن البشري أو البشرية بصورة عامة، حيث هنالك أهداف تنطوي على الانحراف في بعض الثقافات كالترويج لفكر منحرف، أو دعم التطرف والفكري المتعصب وما شابه ذلك.
أزمة الذوبان الثقافي
وفي عودة الى التساؤلات.. يتضح لنا أن الثقافة لا يمكن الاستغناء عنها، وأنها ليست شيء مفتعل أو مقحم على حياة المجتمع، بل هي مجموعة القيم والعقائد والنواميس التي تحدد أو توجه بوصلة الرأي العام وتنظم العلاقات الاجتماعية وتحمي النسيج المجتمعي من الانفراط والذوبان في الثقافات الأخرى المختلفة، وهنا تكمن أهمية الثقافة كصمام أمان يحمي الشخصية الثقافية والعقائدية والفكرية لهذا المجتمع أو ذاك، علما أن التشبيك الثقافي في عصرنا الراهن، صار واقعا مفروضا على الجميع، لاسيما أن العالم بات ساحة مفتوحة للجميع في ظل الانفتاح الإعلامي الهائل عبر وسائل كثيرة جدا، منها على سبيل المثال ما تقدمه شبكات التواصل الاجتماعي من كم معلوماتي غير قابل للحصر.
السؤال الأهم في هذا المضمار، هل ثمة أهمية في أن نقوم بمد الجسور ثقافيا على الصعيدين الداخلي والخارجي، وما هي المزايا والفوائد التي يمكن أن نقطفها من مثل هذا الإجراء، وهل هناك مخاطر أو مساوئ يمكن تطال من يتحرك في هذا الاتجاه؟؟.
في الشق الأول.. نعم هناك أهمية في عملية التشبيك الثقافي خارج إطار الثقافة نفسها، على الأقل لكي هناك نوع من التعاون فيما بين الثقافات المختلفة، ولكن يوجد شرط في هذا المجال ينبغي أن يكون كعنصر حماية للثقافة من الذوبان في غيرها، فلا يجوز أن نقتل الثقافة الأم وندمر أركانها لندفع بها الى الذوبان في ثقافة أخرى بحجة أهمية التلاقح والتشبيك الثقافي، هذا ما يتعلق بالثقافة مع الخارج، أما داخليا في دائرة الثقافة الواحدة فلابد من التشبيك بين الأنشطة الثقافية الفرعية المنضوية تحت خيمة ثقافية واحدة يمكن أن نسميها ثقافة المجتمع.
أما الفوائد التي يمكن أن نقطفها ثقافيا من خلال التشبيك مع الثقافات الأخرى على الصعيد الخارجي، فإن الأمر يتعلق بتجديد القيم ودخولها في حالة مقارنة وتنافس واستفادة من مضامين الثقافات المختلفة، فعلى سبيل المثال يمكن من خلال المقارنة بين ثقافتنا والثقافات الأخرى أن نجدد هذا الجانب ونهم ذاك الأمر، وهكذا نكون قد استفدنا من سوانا وحافظنا على ثقافتنا في الوقت نفسه، أما من يدعو الى الخوف والتراجع عن التشبيك تحت تبريرات الذوبان، فإن هذا دليل على ضعف الثقافة وعدم قدرتها على التفاعل والمواجهة.
فالثقافة القوية الجذور، لا تخشى الآخر، ولا ترتعد خوفا من الذوبان، ولكن ينبغي أن تكون هناك حدود لمثل هذا التشبيك الثقافي، علما أن عصرنا الراهن في ظل وسائل الاتصال المعاصرة بات من الصعب أن تعزل الفرد أو المجتمع في غرفة موصدة، ولكن لا بأس من حماية العقول وتحصينها في إطار ثقافة قوية منيعة ومنفتحة في وقت واحد.
اضف تعليق