في صغري كنت جميلة جدا وجنتاي الحمرأوتين، كانتا تجبر انستي في المدرسة على قرطهما، فكثيرا ما كانت تقرصني وتسحبني منها، ملابسي الجميلة وشرائط الستان تزين شعري الذهبِ، قضيت أوقاتا مرحة ليس كباقي البنات في سني، لم أكن خجولة فقد لعبت كل الالعاب الصبيان، من ركوب الدراجة والسباق، ورمي الاحجار في بركة الماء التي كانت في وسط الباحة، يدي كانت تضرب كل من يتعدى علي، كثرت الشكاوي من قبل الاولاد عند والدتي، فكان عقابها عسير، طلبت مني ان ارتب البيت والمدرسة عقابا لسوء اخلاقي مع الاولاد، رغم شقاوتي لا انني سعيدة جدا، ومحبوبة ايضا.
عندما يسألوني عن اسمِ وكنيتِ، وامي هي التي تجيب، اندب حظي كثيرا لا إنني لا املك اختا لعب معها، او اخ اتشاجر معه، طلبت من امي وابي كثيرا ان يشتروا لي طفلا لهو معه، فترد امي اطلبِ من رب السماء فهو الذي يرزق، في كل مساء ارفع طرفي الى السماء وارتل ما تقوله امي في قنوت صلاتها، ربي لا تذرني فردا وانت خير الوارثين..
بدأت أمي تشعر باليأس عندما اقترب عيد ميلادها، رفضت ان تعمل الحلوى وتزين الدار بقولها ان الوضع الذي يمر فيه بلادنا غير صالح للاحتفال، ومن يأتي لعيد ميلاد سيدة بلغت من العمر اربعين عاما، وفي المقابل بلد ينزف، شعرت بالحزن فمنذ العام الماضي وانا انتظر هذا اليوم، بالخفي والستر طلبت من أبي ان يشتري هدية لأمي بقدر الاموال التي معه، جلب ابي معه شال من الصوف رسم عليه عصافير واغصان ورود، اسرعت نحو امي واغمضت عينيها بأصابع يدي الصغيرة، وانا انشد لها نشيد العيد، ضحكت امي وابي، عند نافذه الشباك شمعة صغيرة انفذت دموعها عند النافذة لكنها مازالت موقدة تنير سماء الغرفة، صرت انفخ عليها لطفى الشمعة فكان فكري انها توقد لحفلة الميلاد وليست لعدم توفر الكهرباء.!!
تعجبت من صبركِ يا أمي تثقين بنفسك ومن حولكِ، وقوية رغم العواصف التي ضربت حياتنا، افترشت لحاف واغطتني بتلك الحرامات، ككل مرة لا انام من دون حكاية من حكايتها الجميلة، هذا اليوم جعلت راسي بين صدرها، وبدأت تحكي قصتها، كان يا مكان في سالف الزمان، مدينة تعيش بسلام وأمان، السماء تحميها والارض تلقيها، مزروعة بالحب والورد، مآذن الجوامع تعانق اجراس الكنائس، تحلق فيها الطيور وتزغرد بين اغصان اشجارها العصافير، زهور الياسمين تغفى بين اوراقها امنه، ونافورة الماء وصوت خريرها، كان كل شيء، يسودنا نظام واحد وسلطة واحدة، لانعرف الثورة ومن جاء بها، وفجأة جاء الظلام واختفى كل شيء .. يا أبنتي .
شهقت امي شهقة كادت ان تموت بلوعتها، اصبحنا نخاف من بعضنا، نتقاتل من اجل رغيف خبز، رائحة الحرب باتت معلقة على ثيابنا، لم نعد نسمع اجراس الكنائس، ولا اصوات الجوامع، ما نسمعه اليوم يخالف الديانات، اقتلوا.. اذبحوا.. قتلوا فينا الحرية والكرامة.
غفت امي ودمعتها على خدها، وحسرات ابي مازالت عالقة في ذهني، مرت الايام واوضاع البلد تتدهور اكثر من السابق، تعرضت مدرستي الى القصف وتوقفت عن الذهاب الى المدرسة ورؤية رفاقي، تأزمت الامور بشكل خطير حتى ان الجيران بدوا بنزوح عن هذه المدينة، فطيلة اليوم قتال عنيف وقذائف لم ينفذ الرصاص بعد، مضى على ذلك الحال سنتين ونصف، والان نعيش على رماد الانقاض، واحجار المدينة الشامخة.
اقتربت من الاشلاء المتناثرة في كل مكان، ابحث عن بقايا مدينة شهباء، كبرت جدا يا أمي ولم أعد تلك الفتاة النقية، كبرت واصبحت الان هادئة كهدوء السماء، ضربني الربيع الدموي، وكأنها تدفعني ثمن مشاغبتي، اصدقاء طفولتي قضوا تحت هذه الاكوام، كبرت يا أمي وعلمت ان العرب ليسوا عربا، وان الحكام عبيد الاموال، علمت ان الحرية عروس مهرها الموت، وان حرائر حلب لا تركع امام جبروتكم وطغيانكم، تبقى الحرائر حرائر والعبيد عبيد.
وقفت تحت سماء الوطن، سمراء لون دخان الحرب صبغ بشرتها فلم تعد ناصعة البياض ، ذات عيون واسعة، اغلقت الان من رماد البارود، وليست جميلة بعض الشى ثيابها مرقعه، منثورة الشعر يواسي الشيب خصلات شعرها، تدعو ربها وكانت جملة واحدة تترد على لسانها، وهي يا رب انقذ أبي وأمي من هذا القصف، يا رب احفظ عائلتي من نار عبدك،
ظلت منهمكة في الدعاء تناجي ربها حتى انتبهت لصوت امها من الخيمة تعالي يا صغيرتي، ستنتهي الحرب، وسيرحلون، فلتكن مشيئة الله يا طفلتي.
بدأت غارات القصف شعرت بالخوف، دخلت داخل الخيمة ترتجف وضعت يدها على اذانها و أغلقت عيناها، هدأت الاصوات ونامت العيون، اخذت تفكر برهة من الوقت ثم اغمضت عيناها افاقت على يد ابيها وهي يحاول ان يرفعها من الانقاض، خرج خائفا يترقب من المسلحين، يحملها على كتفه، وبيده زوجته، وبين الركام يسيران وتخط المنايا من خلفهم، جثث ممددة لا صلاة عليهم ولا مراسيم دفن او عزاء، جثث صماء لجار للأخ لصديق، مدينة اشباح، بعد عدة خطوات توقف عن السير كمن جال في خاطرة شيء نادى الاب الى متى يا حلب، حرقوا دارك، وقتلوا اولادك، واستوطن الغرباء في ارضك، اين العرب، هل مازالوا في سبات !! أم ان لحان حزنك اعجبتهم فاخذوا يتراقصون على ايقاع التأوه ، وخان العرب يا حلب، لا احد في تلك المدينة يسمع ما يقول ، صدى صوته رجع باكيا، انتهت شهباء بيد الغرباء، عند اخر كلمة سقطت قذيفة من الاعلى فادت بحياة الام والاب، و أَنْشَلَ الطفلة من بين مخلفات الحرب وهي الان في مركز النازحين من مدينة حلب تمر بحالة نفسية سيئة جدا، وتكاد ان تحلق بركب الشهداء.
اضف تعليق