ربما يصاب البعض بخيبة الأمل حينما يذهب الى احدى دور بيع الكتب ليجد في أحد الرفوف التي تحمل اسم "ميتافيزيقا" كتبا تتحدث عن الفطنة، الكرستال، وعن الحياة الماضية للناس. لم يكن الامر مستغربا لو ان الدارسين الجدد للميتافيزيقا يتعلمون حججا حول طبيعة الواقع والهوية الفردية ومشكلة الرغبة الحرة.
هذا الالتباس في موضوع الميتافيزيقا هو قديم قدم الموضوع ذاته. تاريخيا، حينما كان يُسأل احد عن تعريف هذا الحقل من الفلسفة يجيب بان الميتافيزيقا هي ببساطة دراسة ذلك النوع من القضايا التي جرت معالجتها في ميتافيزيقا ارسطو، وهو اول كتاب ترد في عنوانه كلمة ميتافيزيقا. لكننا نحتاج الى التحفظ الشديد تجاه هذا الجواب لأن ارسطو ذاته لم يستخدم هذا المصطلح وان الكتاب في الحقيقة كان عبارة عن مجموعة من مختلف المواد رُصفت الى بعضها بعد قرون من وفاة ارسطو.
وبسبب ان الميتافيزيقا عمل مركب، فلا يجب ان نتوقع منها ان تكون موضوعا موحدا. ربما هي تسمى بهذا الاسم فقط لأنها تُقرأ بعد (ميتا) نقاش ارسطو في فلسفة الطبيعة ضمن الفيزياء. ومن جهة اخرى، ربما هناك سبب مقنع للمؤلف دفعهُ الى ضم المواد مجتمعة الى بعضها كنص منفرد. القرّاء المفكرون بدءا من المعلق القديم الكسندر افروديت Alexander of Aphrodisias وحتى معلقي القرون الوسطى مثل افيروس وتوما الاكويني، اكتشفوا بالفعل مشروعا واحدا يتناول كل الميتافيزيقا رغم عدم الاتفاق على ماهيتها. لكن عدم الاتفاق هذا كان مجرد امرا متوقعا.
تتناول الميتافيزيقا نطاقا واسعا من المشاكل بدءا من مبدأ عدم التناقض ووصولا الى طبيعة الاله، ومن تحليلات الشكل المادي الى رفض افكار افلاطون حول الرياضيات. لو اردنا الجدال بان الميتافيزيقا هي فقط حول موضوع مركزي واحد، فان هذا الموضوع الاكثر ترجيحا سيكون الوجود (being). تحدّث ارسطو كثيرا عن الوجود، خاصة في كتبه الوسيطة والصعبة التي كانت تتلائم جدا في تحقيقاتها للمادة مع دراسة الوجود نظرا لأن الترجمة اليونانية لكلمة مادة (ousia) قد اشتُقت من الفعل (einai)، ويعني "يكون" او (to be).
طبقا لهذه الطريقة في التفكير حول الميتافيزيقا، باعتبارها موضوعا متعلقا بالوجود ذاته، فهي تمتلك تبريرا كافيا لتكون أكبر واعظم موضوع فلسفي على الاطلاق، وبهذا ستكون، اعظم علم اساسي. الاخلاق تدرس الفضيلة وسعادة الانسان، علم الحيوان يدرس الحيوان فقط، الفيزياء تدرس فقط الاشياء الفيزيقية.
الميتافيزيقا اذاً تدرس كل شيء طالما ان كل شيء له وجود. الميتافيزيقي سيتذكر قول ارسطو بان كلمة "الوجود تُقال بعدة طرق". انا ذاتي مثلا، لي وجود بطريقة مختلفة واكثر جوهرية من القول ان صلعتي لها وجود. في مصطلح ارسطو، صلعتي هي فقط "حادث او طارئ" وهي خاصية تعود لي وتعتمد عليّ في وجودها، بينما انا "كجوهر" substance تعني لدي وجود مستقل عن المواد الاخرى.
الآن ونحن نفكر على طول هذا الخط، فربما نتساءل هل هناك وجود او نوع من الوجود هو الأكثر جوهرية؟
اعتقد العديد من القراء، خاصة في القرون الوسطى، ان الوجود برز فقط في 12 كتاب من بين 14 جزء من الميتافيزيقا لارسطو. هنا يناقش ارسطو العقول اللامادية التي حسب رأيه هي المسؤولة عن حركة السماوات. هناك عقل واحد يقف فوق جميع العقول الاخرى منسقا وجامعا لحركة الكون كله عبر التفكير. هذا العقل هو اله ارسطو.
كانت خطة ارسطو تنطلق من التحرك عبر خطوات تمهيدية من النقاش قبل ان يصل في النهاية الى الهدف الحقيقي لتحقيقاته، اي الاله المحرك الاول. وهكذا حالما نعمل من خلال الميتافيزيقا سنكون قد توصّلنا الى معرفة طبيعة العلة الاولى للأشياء.
طبقا لأرسطو، بما اننا نفهم الاشياء بتتبّع سلسلة عللها الخلفية، لذلك فان الميتافيزيقا تزودنا بالأساس لدراسة كل الاشياء الاخرى. واذا كان الامر هكذا، فان الميتافيزيقا، ولسبب مختلف، ستبقى العلم الرئيسي والاساسي لجميع العلوم، لذا اصبح من الملائم القول ان السيادة الفلسفية للميتافيزيقا هي سيادة الله.
هناك طريقتان مختلفتان لفهم الميتافيزيقا، الميتافيزيقا: هي بحث او فرع من الفلسفة اما حول الوجود او حول الله؟ او ربما هناك نوعان من العلم: هناك الميتافيزيقي المتخصص في مجال (الله) وهناك الميتافيزيقا العامة حول (الوجود). لكن هذا سيتجاهل فكرة المشروع الموحد الذي سعا ارسطو لأجله.
آراء فلاسفة الاسلام
ذلك التمييز جرى افتراضه سلفا في الخلاف بين اثنين من المفكرين الكبار في العالم الاسلامي، وهما ابن سينا وابن رشد. اعتقد ابن سينا ان الميتافيزيقا هي في الواقع دراسة الوجود، وان الحديث عن الله، او حتى اثبات وجوده، هو فقط جزء من هذا المشروع العام. اما ابن رشد فقد رفض ذلك. هو اشار الى ان ارسطو اثبت وجود الله في الفيزياء، وبهذا فان الميتافيزيقا تناقش فقط اسلوب سببية الله. بما ان الله السبب الاول للوجود، فالله هو الموضوع الملائم للميتافيزيقا، وارسطو يؤكد عدم وجود علم يمكنهُ اثبات وجود موضوعه الخاص به.
هذا الجدال نراه اليوم ملائما لفهمنا للميتافيزيقا، لأن الارتباط المستمر بين كلمة "ميتافيزيقا" والثيولوجي او الطبيعة المتعالية supernatural (التي تأتي "بعد الفيزياء")، له جذور تاريخية حقيقية. هناك البعض منْ يشكك بكامل المشروع. لكن هؤلاء ليسوا بحاجة لرفض المصطلح او الحقل طالما هناك سوابق تاريخية تبدو بنفس المقدار سليمة لفهم الميتافيزيقا باعتبارها شيء مختلف جدا. هذا يجعل الميتافيزيقا هي ذلك الجزء من الفلسفة الأهم والأعم والاكثر جوهرية.
اضف تعليق