لم تكن رئيسة الوزراء (تيريزا ماي) أول رئيس دولة غربية تحضر قمة لدول مجلس التعاون الخليجي، فقد سبقها قبل عام ونصف تقريبا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند عندما حضر القمة الخليجية التشاورية في الرياض، كما إن الرئيس الأمريكي باراك اوباما شارك في نيسان الماضي في القمة الخليجية التي عقدت في الرياض من اجل طمأنة دول الخليج التي تتخوف من نتائج توقيع الاتفاق النووي مع إيران.
لكن ما يميّز الحضور البريطاني الأخير في القمة الخليجية عن الحضور الفرنسي والأمريكي هو التصريحات النارية التي أطلقتها (تيريزا ماي) تجاه إيران عندما قالت "أود أن أؤكد لكم إنني على دراية تامة بالتهديد الذي تمثله إيران بالنسبة إلى الخليج ومنطقة الشرق الأوسط" مضيفة "علينا العمل معا من اجل التصّدي للتصرفات العدوانية لإيران في المنطقة" وهذا التصريح بحد ذاته يحمل في طياته نهجا عدائيا ضد إيران ويتناغم مع رغبات دول الخليج وخصوصا السعودية في ضرورة اتخاذ الغرب مواقف متشددة حيال إيران، كما انه يعطي انطباعا بأن بريطانيا تسير باتجاه شراكة أمنية مع دول الخليج.
وعند العودة للوراء نجد إن الحضور البريطاني في الخليج ليس بالجديد، صحيح إنها انسحبت عسكريا في 1971م لأسباب داخلية وأخرى تتعلق بمعطيات دولية لكنها عمدت على الإبقاء على نفوذها السياسي والاقتصادي من خلال إقامة علاقات دبلوماسية وتجارية متميزة مع دول الخليج، وإدامة حجم تجارة متبادلة كبير خصوصا في مجال بيع الأسلحة البريطانية، لكن يبدو إن النفوذ لا يتكامل إلا بوجود عسكري على الأرض واضح وفاعل وهذا ما أدركته بريطانيا جيدا وبدأت تعمل عليه في الآونة الأخيرة عندما بدأت في تشرين الأول 2015 بناء قاعدة بحرية في ميناء سلمان قرب المنامة وهي أول قاعدة دائمة لها تبنيها في الشرق الأوسط بعد أربعة عقود من الزمن.
والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: ما الدوافع الكامنة وراء القرار البريطاني بالسعي إلى العودة من جديد وبقوة إلى الخليج؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ لعل البحث عن الإجابة يدفعنا إلى التفكير جديا بالقرار الشعبي البريطاني الخاص بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي والأسباب التي أدت إلى هذا القرار، فالبريطانيون يفتقدون الشعور بالانتماء الاجتماعي والثقافي لأوروبا، كما إنهم بدأوا يدركون حجم المخاطر والتحديات الاقتصادية التي يواجهونها نتيجة الأزمات المالية التي تمر بها بعض دول الاتحاد مثل اليونان، مما دفع البعض من البريطانيين للدعوة إلى تطبيق النموذج السويسري المتميز في الاستقلال، فضلا عن الهاجس الأمني الذي بدأ يتحرك بعد تصاعد موجة اللاجئين إلى أوروبا ووقوع أعمال إرهابية فيها.
كما ان هيمنة اليسار الأوروبي على مفوضية الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي وما أدى إليه من تصاعد حالات الفساد، جعل البريطانيون يقتنعون بأن الانسحاب ضمان لهم من تهاوي دولتهم واقتصادها، ولعلنا نضيف سببا سياسيا آخر وهو تراجع الدور السياسي والقيادي لبريطانيا في الاتحاد الأوروبي أمام كل من ألمانيا وفرنسا، وفي ظل هذه المتغيرات، تسعى بريطانيا لتشكيل دورها من جديد، وهيكلة سياستها تجاه الشرق الأوسط، حيث أخذت تراجع أوليات مصالحها بهدف تعويض أي تراجع لدورها في النظام الدولي وخصوصا في أوروبا.
عند مراجعة السياسة الخارجية البريطانية تجاه الشرق الأوسط عموما والخليج بشكل خاص نجد إنها قائمة على استراتيجية استغلال الأزمات وتوظيف التناقضات بين الدول بشكل براغماتي يضمن تحقيق المصالح العليا للدولة، وهذا ما نلاحظه في مناورة بريطانيا بين محاولة التقرب من طهران تارة ومن دول الخليج تارة أخرى، فعندما أعادت لندن فتح سفارتها في طهران في آب 2015 بعد أربع سنوات من غلقها اثر اقتحامها من قبل متظاهرين إيرانيين احتجاجا على فرض بريطانيا عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، لم تسهم تلك الخطوة في إحداث تطور نوعي في العلاقات البريطانية–الإيرانية لأسباب عديدة منها عدم رغبة بريطانيا في إلحاق الضرر بمصالحها مع دول الخليج خصوصا السعودية والإمارات اللتان تتخوفان من تطبيع الغرب لعلاقاته مع إيران، الأمر الذي دعا الحكومة البريطانية إلى إعادة النظر في ميزان علاقاتها لترجح كفته الخليجية على الإيرانية، حرصا منها على عدم خسارة تبادل تجاري سنوي يصل إلى 30 مليار دولار سنويا بينها وبين دول الخليج.
وعند التفكير بعمق عن المطامح البريطانية في العودة إلى الخليج مرة أخرى بعد الانكفاء عنه لما يقارب أربعة عقود، نستنتج إن الخليج له من المزايا والسمات ما تجعل الدول الكبرى تتوق لعقد الشراكة مع دوله، فالموقع الستراتيجي المسيطر على طريق التجارة البحري مابين أمريكا وأوروبا من جهة وبين جنوب وشرق آسيا من جهة أخرى، هو عامل جذب مهم، ودول الخليج بما فيها إيران والعراق تمتلك ما يقارب 40% من حجم احتياطي النفط العالمي، كما إن السوق الخليجية وطاقاتها الاستيرادية الكبيرة قد شكلت عامل جذب كبير للصناعة البريطانية التي من المأمول أن تكون بديلا عن السوق الأوروبية التي ستخسرها بريطانيا بعد انسحابها بشكل نهائي من الاتحاد الأوروبي.
فضلا عن ذلك فان ما يعزز الرغبة البريطانية في تأسيس تحالف متعدد الأغراض مع دول الخليج هو الترحيب الخليجي الواضح بدور بريطاني متزايد في المنطقة خصوصا بعد إن شعرت دول الخليج وفي مقدمتها السعودية بخيبة أمل كبيرة من مواقف واشنطن الأخيرة تجاه قضايا الشرق الأوسط وخصوصا الاتفاق النووي مع إيران ومن الحرب في سوريا، فالولايات المتحدة انتهجت أسلوب إدارة الأزمات وفق مبدأ القيادة من الخلف، خلاف ما تفضله دول الخليج في أن تتدخل الولايات المتحدة بقوة إلى جانب الدول الخليجية فيما يتعلق بالصراع مع إيران أو فيما يتعلق بإسقاط حكومة بشار الأسد، مما دفع دول الخليج إلى التلويح بورقة إيجاد حليف استراتيجي بديل للولايات المتحدة، فالتقت مصالح بريطانيا المنسحبة من الاتحاد الأوروبي مع مصالح دول الخليج الباحثة عن مظلة أمنية تستقوي بها على خصومها في إيران.
لكن من يريد أن يتنبأ بمستقبل الشراكة أو التحالف البريطاني–الخليجي يجب أن يضع في الحسبان إن بريطانيا وعلى طول تاريخها السياسي غير مستعدة للتضحية من اجل الحلفاء لا بل هي سرعان ما تنقلب عليهم وتنساق وراء سياسات ومواقف غامضة مترددة وهذا واضح جدا في خذلانها للعرب بعد وقوفهم إلى جانبها أثناء الحرب العالمية الأولى وكذلك تأييدها لمواقف واشنطن على حساب حلفاءها الأوربيين في أكثر من قضية.
كما إن الخلافات مابين حزب العمال والمحافظين بشأن القضايا الدولية والتحالفات القائمة دائما ما تضعف الإرادة البريطانية وتجعلها تنهار وتتنصل من التزاماتها الدولية، كما إن المخاوف من تكرار حالات الفشل البريطاني في الخليج الذي دفعها للانسحاب منه في 1971، في ظل حكومة يرأسها حزب العمال، قد تخفف من حماس البريطانيين للحضور بكل ثقلهم العسكري والسياسي إلى الخليج، ونحن نعلم إن البرلمان البريطاني قد صوت في 2013 على عدم دخول بريطانيا عسكريا في حرب سوريا، مما يعكس حقيقة غياب الرغبة البريطانية في ممارسة دور محوري في الشرق الأوسط، وان كل ما يقال عن شراكة بريطانية–خليجية مستقبلية قد يفضي في النهاية إلى نتيجة دون مستوى الطموح الخليجي.
اضف تعليق