q

عند الحديث عن القيادة والحكم وطريقة التعامل مع افراد المجتمع او الجماهير، لاسيما في بلاد خرجت للتو من ظلام الديكتاتورية والكبت والاضطهاد، وبالكاد تكتشف ذاتها واستحقاقاتها، يكون من الصعب الحديث عن العفو والتسامح واللين مع مرتكب المخالفة المزعجة لشخص الحاكم الاعلى، او المسؤول المحلّي او حتى مسؤول البلدية! متذرعين (هؤلاء المسؤولون وغيرهم) بضرورة خلق عناصر القوة والمنعة لحماية القانون والنظام العام، وإلا عمّت الفوضى، بينما المعروف أن هذه القوة تنصرف دائماً على قمة السلطة.

وبشكل عام؛ يخشى الكثير من الساسة وأهل الحكم من لفظة "العفو" لما يتصورونه نوعاً من الضعف والهشاشة في الحكم، ومن ثم الخشية من افتراس المنافسين على كرسي الحكم. ولكن؛ هل يا ترى، ضمنت هذه التصورات الذهنية لأهلها، قوة وتماسك النظام الحاكم، او ممارسة آمنة للسلطة؟.

العفو مقابل الثقة

طالما كرر الحكام الخطأ الفاحش بانتهاج سياسة العصا الغليظة ثم التوقّع من الجماهير حظوهم بالثقة، وهم يخالون الغلظة والشدة من معالم القوة والهيبة السياسية، لاسيما اذا كان في الشارع شريحة لا بأس بها من الصفقين والمتزلفين الذين يباركون السياسات الجائرة في السياسة والاقتصاد والخدمات وغيرها، وحتى في امور انسانية تهمهم مثل الحقوق والحريات، وما يطعنها بعنف بقرارات إعدام او اعتقالات او مختلف الاجراءات التعسفية، لأن القضية تتعلق بالضمير اكثر مما تتعلق بالموقف الظاهري المدفوع دائماً بحوافز مادية، في حين الضمير والوجدان لا يقبل إلا بالحق.

ولو بحثنا الامر نفسياً، وجدنا أن ارتكاب أي انسان لأي خطأ بحق انسان آخر، أو مخالفة للقانون، فانه – من حيث لا يشعر- يعتريه نوع من الضعف والهوان ثم الحاجة لإزالة آثار الخطأ او الجريمة، حتى التبرير وإيهام النفس بالحق فيما ارتكبه، فانه ربما يخادع الآخرين دون نفسه التي بين جنبيه، فالخطأ لا يستحيل صواباً ولا الحق باطلاً بالمرة، وللهروب من هذا الواقع يبحث الجاني عن مخرج يبرأه مما فعل ليطوي الصفحة نهائياً ويبدأ حياة جديدة.

هذه الالتفاتة النفسية الدقيقة، لاحظها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، خلال تعامله مع مرتكبي الجرائم الفظيعة من مشركي مكة لدى دخولها فاتحاً ومنتصراً، فضلا عن سائر الناس (المشركين) الذين كان لكثير منهم إسهامات في إيذائه نفسياً ومادياً، وكذا الحال؛ خلال تعامله مع ابناء مجتمعه الاسلامي الأول، وما كان يواجه من تصرفات غير مؤدبة وحتى إساءات وتشكيك بأحكامه وقيادته.

يكفي أن نأتي بمثال واحد من عشرات الأمثلة في السيرة العطرة، وهي تعود الى أيام الانتصار الكبير للمسلمين على المشركين في فتح مكة، حيث أعلن النبي قرار إهدار دم أربعة من المشركين فقط، لما ارتكبوا من كبريات الجرائم بحق الاسلام والمسلمين، منهم شخص يُدعى "عكرمة" فهرب بعيداً حتى بلغ البحر الأحمر خوفاً من العقاب، بيد انه كانت لديه زوجة، يصفها التاريخ بأنها "كانت عاقلة ومدبرة"، فتشفّعت لدى النبي بإعطائه الأمان، وجاءت الموافقة فوراً! فذهبت اليه تخبره وتدعوه للعودة بسلام وأمان، وقبل أن يصل عكرمة الى النبي، توجه، صلى الله عليه وآله، الى أصحابه وقال لهم:

-لا تشتموا أباه عندما يقبل علينا، فان سبّ الميت يؤذي الحي".

ولم يكن أبا عكرمه سوى "أبو جهل"، ذلك الرمز الكبير في صفوف المشركين الذي طالما حارب وآذى النبي، وخطط لقتله، الى درجة أن قال فيه: صلى الله عليه وآله: "إن هذا الرجل – والد عكرمة- أعتى على الله من فرعون"، لأن فرعون آمن بالله عندما أدركه الغرق وقال: "آمنت"، ولكن هذا الرجل عندما أدركه الموت قال: "واللات..."!

ليس هذا وحسب؛ فما أن دخل عكرمة على رسول الله، حتى قام، صلى الله عليه وآله واعتنقه، ثم قال له: أنت آمن يا عكرمة.

وبعد أن أسلم هذا الرجل بين يدي النبي الأكرم، تحول من إنسان مهدور الدم وعدو لدود، الى ولي حميم، بل ومنفق ومجاهد في سبيل الله ومحب للشهادة، فكان ما نوى وأراد واستشهد في إحدى المعارك مع المسلمين.

فكم هي المسافة بين قائد يفقد ثقة الناس واطمئنانهم، بحيث يشعرون بالخوف والدائم منه ومن قراراته وسياساته، ويتمنون كل يوم وكل ساعة هلاكه للتخلص من الكابوس الجاثم على صدورهم، وبين قائد يحول المعارض او العدو في مجتمعه من خلال العفو، ليس فقط الى عنصر قوة، وإنما الى مصدر استثمار لتعزيز قوة الدولة والمجتمع.

القوة السياسية المستديمة والدروس للأجيال

الماء البارد الذي يثلج صدر التائبين والمشمولين بالعفو، لا ينتج مكاسب سياسية آنية للقائد او رئيس الدولة، إنما تمتد الآثار الى سنين طوال حيث الأجيال، تذكره بغير قليل من الفخر والاعتزاز، على أنه نجاح باهر لتأسيس كبير، كالذي حصل لدولة الرسول الأكرم الممتدة على سطح الجغرافيا وايضا ًعلى مساحات واسعة من القلوب حول العالم، منذ ذلك الحين وما يزال.

إن العفو الذي شهده ولمسه كل من واجه النبي الأكرم، من مشركين ويهود، لم يكن "سياسة" يتبعها النبي الاكرم، بقدر ما كان منهجاً ضمن منظومة قيمية متصلة بالسماء، فالعفو عن هذا المشرك او ذلك اليهودي المقاتل وذاك المسيء وغيرهم ممن يستحقون العقاب الشديد، إنما هو انعكاس لصفة البارئ – عز وجل- وهو نفسه، صلى الله عليه وآله، يؤكد هذه الحقيقة في قوله: "أدبني ربي فأحسن تأديبي". هذه الآداب هي التي تعطي القائد والزعيم القوة الحقيقية ومزيد من المصداقية لنظام حكمه، لأن بكل بساطة؛ فان الذين يشملهم العفو السياسي – بغض النظر عما اقترفوه- سيجدونه أنفسهم ملزمين بالحفاظ على أمن واستقرار الدولة التي ضمنت حياتهم وصفحت عنهم أو قللت من العقوبات الشديدة عنهم، فهم سيكونوا – شاءوا أم أبوا- ضمن البناء الجديد الذي يفترض ان يقوم على أنقاض النظام الخاطئ والبائد.

فعندما أعلن النبي قراره المدوي بأن "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، فإنما حمّل جميع سكان مكة، ومنهم رموز الشرك وأعدائه الرئيسيين، مسؤولية الحفاظ على أمن واستقرار الدولة الاسلامية الفتية، لان مكة تحولت – بعد الفتح- الى مدينة اسلامية – بالمعنى الحديث- وكما لهم حقوق، عليهم واجبات أمام القانون الاسلامي.

هنا لنتسائل؛ أين هذه التجربة الحضارية الرائدة، من جميع التجارب السياسية التي أعقبتها وشهدتها الامة، سوى أربع سنوات من حكم أمير المؤمنين، عليه السلام؟ وأين التجربة السياسية للنبي خلال عشر سنوات من عمره الشريف في المدينة، ومن اكثر من ألف و اربعة مائة سنة من الاضطرابات السياسية والدماء والويلات والكوارث على المسلمين، وهم يسمعون من الحاكم بانه يطبق "الشريعة الاسلامية" بالحديد والنار.

وحتى يكون للحديث مصداقية على الارض، ولا يكون ضرباً من المثالية، لنا ان نشير الى تجربتنا "الديمقراطية" في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام الديكتاتوري والدموي، فقبل حوالي عشرين عاماً على سقوط صدام، دعا سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي الى إعلان العفو العام فيما اذا تمت الاطاحة بصدام وانهار نظام حكمه، وما أن سمع البعض بذلك حتى شرع بالاستهجان والسخرية لهذا الطرح الغريب، فامام جرائم مريعة ارتكبها صدام وأعوانه، كيف بوسعنا العفو عن المجرمين والقتلة ومن وشى على هذا وذاك، او من تسبب باعتقال هذا واستشهاد ذاك، وهي إثارات ومطالبات محقّة من حيث المبدأ، بيد أن الانفعالات النفسية ودوافع الانتقام يُفترض أن توجه الى طريق آخر اذا كانت النية والعزيمة راسخة لإقامة نظام حكم جديد وناجح على أنقاض الماضي.

ويبدو أن المسؤولين والمعنيين بالحكم في بغداد لم يتذكروا هذا النداء إلا بعد مرور ثلاثة عشر سنة عجاف تخللتها شلالات من الدم والدموع وسقوط الآلاف من القتلى ضحية فتنة طائفية سوداء وجدت ثغرتها في كيان هذا البلد فأوغلت في الجسد العراقي نهشاً وتقطيعاً، حينئذ؛ نسمع بما يُدعى بـ "التسوية" او محاولات للتفاوض مع هذا وذاك لإنهاء الازمة السياسية وتحقيق ما يحلمون به من أمن واستقرار كاملين في العراق.

اضف تعليق