عندما تعتمد القيادة السعودية على خطط قصيرة المدى فلا غرابة من قراراتها المتضاربة مع بعضها، خطاب الامس معاكس لخطاب اليوم وسياستها الخارجية تترنح بين العداوة المفرطة والصداقة الحميمية في ظرف اشهر معدودة، والشواهد في هذا المجال معروفة حتى لغير العارف بشؤون السياسة.
بعد النصر الذي حققه الجيش السوري وحلفاؤه ضد الجماعات المسلحة المدعومة خليجياً وتركياً كانت وقفة داعمي هذه الجماعات خجولة ولم ترتقي الى مستوى التهديدات في الاشهر الماضية، وينطبق هذا الحال على قطر وتركيا تحديدا، لكن الحليف السعودي تجاوز هذه الحدود لينقلب على الجماعات السورية المقاتلة ويضعها تحت رحمة الحلف السوري الايراني الروسي.
وزير الخارجية السعودية عادل الجبير توقف عن عزف سمفونية رحيل بشار الاسد "سلما او حربا" حسب قاموسه، وبقي نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وحدهم في الذود الاعلامي عن "حلفاء الامس" مسلحي حلب، فالموقف السعودي تراجع كثيرا ويبدو ان القرار قد اتخذ بشكل قطعي ووقد ظهر ذلك جليا من خلال موقفين من اعلى هرم السلطة، ففي خطاب الملك سلمان بن عبد العزيز الذي القاه في افتتاح الدورة السابعة لمجلس الشورى والذي ركز على ثلاث قضايا أساسية، يقول الكاتب عبد الباري عطوان انها تحدد أولويات مملكته في الوقت الراهن:
الاولى: تمثلها الاوضاع الاقتصادية الداخلية وما تواجهه المملكة من أزمات في الوقت الراهن، انعكست على شكل فرض ضرائب، ورفع الدعم عن خدمات وسلع أساسية، وتعهد بأن تكون هذه "المتغيرات" و"إعادة هيكلة" الاقتصاد "المؤلمة" عابرة، ولمنع حدوث الأسوأ لو تم التأخير في اتخاذها. الثانية: مسألة التطرف والغلو التي هدد بمواجهتها بقوة، وقال الملك سلمان "لن نسمح لكائن من كان من التنظيمات الإرهابية، ومن يقف وراها ان يستغل أبناء شعبنا لتحقيق اهداف مشبوهة في بلادنا او في العالمين العربي والإسلامي"، في إشارة واضحة الى تنظيمي داعش والقاعدة.
الثالثة: الحرب ضد اليمن، عندما قال "ان امن اليمن الجار من امن المملكة ولن نقبل باي تدخل في شؤونه الداخلية، او ما يؤثر على الشرعية فيه، او يجعله ممرا او مقرا لأي دول، او جهات، تستهدف امن المملكة والمنطقة والنيل من استقرارها" في إشارة واضحة الى ايران.
المؤسسة الدينية كان لها دور في تهيئة الجماهير السعودية للتحول القادم فقد اتهم إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف، حسين آل الشيخ، "الثورة" بما آلت إليه الأوضاع اليوم في سوريا من حرب وأحوال إنسانية مزرية. وقال الشيخ في تغريدة له في حسابه الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" الثلاثاء 13 ديسمبر/كانون الأول: "نسأل الله العون والخلف لإخواننا في سوريا.. 10 مليون مشرد، ونصف مليون قتلوا، وجرح 2 مليون كما في بعض التقارير، فهل أدركنا خطورة الثورات ؟". وأثارت التغريدة ردود أفعال متباينة، حيث اختلف كثيرون معه في الرأي، فرد على أحدهم بقوله "يجب أن نتذكر أن من دفعوا بالثورات فهم على خطأ". ولا نعرف هل نسي هذا الشيخ ان رجال دولته قد دعموا تلك الجماعات المتطرفة طيلة الازمة السورية.
السعودية وعلى مر تاريخها لم تدعم الحركات الثورية، وما كان يسمى بالثورة السورية والدعم السخي لها لم يأتي عن عقيدة سعودية راسخة بل هو محاولة لامتطاء الازمة بعد ان لاحت شمس النصر لصالح الجماعات المسلحة، وقد ظن السعوديون في بداية الحرب ان ايام بشار الاسد والنفوذ الايراني في سوريا معدودة، ما دفعهم لتقديم المزيد من الدعم الذي سوف يوفر لهم النفوذ على الحكام الجدد، الا ان الوقائع اثبتت ان من يخطط ويفكر بالمستقبل هو صاحب الكلمة الاخيرة.
وفوق كل هذه المتاعب السعودية جاء انتخاب دونالد ترامب كرئيس للولايات المتحدة ليعجل في هذا التحول السعودي، اذ توعد ترامب بالقضاء على الجماعات السنية المتشددة، وهذا ما يعد سببا مهما لدفع السعودية الى التخلي عن ادواتها في الحرب ضد ايران، ومن غير المستبعد ان تحول الرياض المال الذي سوف تتوقف عن دفعه للجماعات المسلحة الى مجالات اخرى قد يكون من بينها استخدام شركات العلاقات العامة لتلميع صورتها امام الادارة الامريكية، فضلا عن امكانية اغراء القيادة الامريكية الجديدة بعقود اقتصادية كبيرة، تخفف ولو قليلا الغضب "الترامبي" عنها.
السعودية مقبلة على وضع اقتصادي صعب للغاية والعجز في ميزانيتها يتجاوز الثمانين مليار دولار، واتبعت ميزانية تقشفية اعتمدت على تقليل النفقات ورفع الضرائب، وفي هذا الحال فان الاحتجاجات الشعبية واردة لا محال، وحديث خطيب المسجد النبوي عن مخاطر الثورات لم يأتي عن فراغ بل جاء نتيجة مخاوف حقيقية لاحتجاجات قد تحول البلاد الى دوامة من الازمات والمشكلات في الوقت الذي حسمت اغلب جبهات المواجهة السعودية الايرانية لصالح الاخيرة.
سياسة الرياض القائمة على اشعال الحروب من تحت شعار "الحزم" انقلبت عليها ولجاجتها في تأكيد نفسها كقوة اقليمية جاءت بنتائج عكسية تماما، فهل سيقتنع ساستها ومخططيها بحجمهم ام ان هذا التراجع في الميدان السوري سوف يقابله توحش في الميدان اليمني؟ العام المقبل كفيل بكشف ما ستؤول اليه الامور، مع يقيننا بصعوبة التنبؤ بالقرارات السعودية.
اضف تعليق