"حب لأخيك ما تحب لنفسك"، هذا الحديث النبوي الشريف جديرٌ بأن يكون أمام كل دعاة التماسك الاجتماعي ونشر المودة والحب والاحترام المتبادل، فهي دعوة الى الحب، كما هي دعوة لنبذ الأنانية في آن، بمعنى أن الذي ينطوي على ذاته؛ يحب لها دائماً المكاسب والامتيازات وكل خير، لن يوفق بأي حال من الاحوال لأن يستشعر الحب إزاء الآخرين، فهو في الوقت الذي يجد صعوبة في التخلّي حب الذات والأنا، يرى نفسه مندفعاً – أحياناً- لاتخاذ مختلف المواقف السلبية إزاء الآخرين، بصرف النظر عن قرابتهم وعلاقتهم به، فربما يكون ذلك الانسان، أخاه او ابنه او حتى أبواه أو زوجته، فضلاً عن المحيطين به في المجتمع الكبير.
ولم نكن نسمع بمصطلح "الكراهية" إلا بعد استفحال ظاهرة التطرف الديني لدى بعض الجماعات الاسلامية وتصديرها الى بلاد الغرب، مما وضع المعنيين هناك في وضع حرج أمام شعوبهم التي تعيش مفاهيم الحب والمودة وممارسة الحرية الفردية، في وقت تشهد نمو بذور التكفير في أماكن تجمع هؤلاء في مدنهم وبالقرب منهم، لذا كان عليهم تدارك الأمر بسرعة لضرب طوق حول هذه الظاهرة يحمل عنوان "الكراهية" التي لابد من مكافحتها واستبدالها بالحب والوئام والقبول بالآخر مهما كان، أو بالأحرى؛ "أن لا تكره شيئاً"! وهذا كما روج له في بلاد الغرب، فانه تسلل ايضاً الى بلادنا الاسلامية.
كيف نعالج الكراهية
يقول الباحثون في الأخلاق: إن الافعال نتاج أمرين يكون عليهما الانسان؛ إما من مَلَكة حسنة باطنية، وتسمى الأخلاق، وإما من حالات انفعالية، فالاولى تمكن الانسان من القيام بأعمال ومواقف ايجابية وحسنة بصورة عفوية دون أي تكلّف من نفسه، بينما الحالة الانفعالية، فهي نوبة سريعة تأتيه في ظروف مختلفة، فتهيج مشاعره وتصدره منه حالات انفعالية، ربما تكون ايجابية؛ مثل البكاء عند جنازة أحد الأحبة، كما تكون سلبية بسبب شجار وخلافات عائلية او اجتماعية وغيرها. فالاول؛ يتصف بالاستمرارية ويشكل سمة لصاحبه، بينما الثاني؛ يتصف بالزوال مع انتفاء السبب خلال فترة وجيزة، لذا يقولون عن الذي يغضّ الطرف عن الاساءة مكرهاً بالضغط على اعصابه وانفعالاته، بانه لم يجسد الاخلاق بمفهومه الحقيقي، إنما هو "متخلّق" لانه "متكلّف"، أما اذا روّض نفسه على كظم الغيظ والعفو والتسامح عن المسيئين، حينئذ يكون خلوقاً يستوعب كل أنواع المنغّصات حتى وإن في أوج قوته الاجتماعية او السياسية وقدرته على الرد.
هنا تحديداً؛ تتجلّى احدى الادوار الريادية التي قام بها النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، لبناء المجتمع المتماسك الخالي من الكراهية والتنافر، من خلال لجم حالات الانفعال النفسي الموروثة من النظام التربوي الجاهلي القائم على مفاهيم مثل؛ "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، او الحميّات والعصبيات التي تحدث عنها القرآن الكريم بـ {الحمية الجاهلية}، والمتجهة لصالح العشيرة والقبيلة والأقوى بين القوم.
وليس من السهل أن يتحول انسان تطبّع على خوض المعارك الدامية لسنين طوال بسبب ضرع بقرة أصابها سهم طائش خطأ من قبيلة اخرى، أن يكون خلوقاً وسمحاً بين ليلة وضحاها، لذا نقرأ الشواهد العديدة في السيرة على كيفية تعليم النبي الأكرم اصحابه على كظم غيظهم والسيطرة على انفالاتهم النفسية، مهما كانت الاسباب، وذلك بطريقته الحكيمة والذكية المحببة الى النفوس، منها ما جرى مع ذلك الاعرابي الذي تجرأ على النبي في محاورة جرت بينهما بحضور عدد من الاصحاب، فكان أن ثارت ثائرتهم – كما في حالات مشابهة- فهرب الرجل خوفاً من بطشهم، فدعاهم النبي الى الهدوء، وقال لهم: إنما مثلكم مع هذا الرجل، مثل صاحب ناقة نفرت منه، فكلما جرى خلفها الناس ازدادت بعداً عن صاحبها.
وهكذا كان النبي الاكرم، يبين ويؤكد المرة تلو الاخرى طيلة فترة حياته في المدينة، أن الانفعالات النفسية لن تخدم بناء المجتمع كما لم تخدم صاحبها بشيء، إنما تتسبب في تعقيد المشكلة وتصعيد الازمة اكثر فاكثر، ومن ثم ينتج الضرر على صاحبه اكثر من غيره، وهذا ما حصل في قصة خالد بن الوليد مع بني جذيمة عندما فتك بهم بذريعة أنهم لم يسلموا، او انه لم يسمع كلمة الاسلام منهم، بيد أن التاريخ كشف حقيقة نواياه وعصبيته الجاهلية، فهو كان في سرية ضمن الجيش الاسلامي بعثه رسول الله الى قوم ليدعوهم الى الاسلام، في حين كان هو ما يزال في حنينه الى الجاهلية، وعصبيته الى قبيلته التي كانت لها ثارات مع هذه القبيلة، ففعل ما فعل من الجرائم من قتل للرجال وترويع للاطفال والنساء ثم أسرهم، فكان موقف النبي الحازم بالدعوة الى الله أمام الناس، بأن "اللهم اني أبرأ اليك مما فعل خالد".
تنمية الكمالات الاخلاقية
بما أن الاخلاق عبارة عن منظومة من الكمالات والخصال المكتسبة التي يتطبّع عليها الانسان، فانها تتستدعي التنمية والرعاية من لدن الانسان الفرد أولاً؛ ثم المجتمع ثانية، وكما أن البذرة الصغيرة في باطن الارض بحاجة الى عناصر النمو من ماء وأملاح وضوء الشمس حتى تتفتح عن نبتة صغيرة ثم تنمو وتتحول الى نخلة باسقة أو شجرة مثمرة، فان بذرة الاخلاق هي الاخرى بحاجة الى عناصر للنمو والتكامل نجدها بسهولة في ثنايا سيرة النبي الاكرم مع اصحابه وعموم المجتمع الاسلامي الاول في المدينة، فاذا اردنا تحقيق نسبة عالية من التماسك الاجتماعي المشحون بالحب والود والوئام، ما علينا سوى النظر في صفات جسدها النبي مثل التواضع والعفو عن المقدرة واللين من القول، حتى شهد له القرآن الكريم بتلك الشهادة الكبرى {وإنك لعلى خلق عظيم}، فالانسان الذي كان يعيش الى جوار النبي آنذاك، هو نفس انسان اليوم من حيث التكوين، فالنوازع والغرائز والحالات النفسية هي نفسها في كل انسان على مر التاريخ البشري، تبقى الظروف ومستوى الادراك العقلي هو الذي يتطور ويتغير من زمن الى آخر.
وفي هكذا أيام مباركة معطّرة بذكرى المولد النبوي الشريف، يجدر بجميع ابناء المجتمع الاسلامي اينما كانوا أن يبذلوا المزيد من الاهتمام لرعاية الخصال الاخلاقية في نفوسهم، كما كان يفعل النبي الاكرم بحضور اصحابه وافراد مجتمعه، بكبح جماح الانفعال مهما كان السبب وراء الغضب، وهذا يبدأ من البيت الصغير ومع افراد العائلة، من الطفل الصغير والشاب والشابة والزوجة، ومن ثم التوسع قليلاً الى الجيران والاصدقاء والزملاء في العمل والدراسة وجميع شرائح المجتمع، وليكن إحياء هذه المناسبة بمنزلة باقات ورد تنتشر بين الافراد كباراً وصغاراً بالكلام الطيب والموقف الحسن.
اضف تعليق