ان عمل الحكومات الرأسمالية، مع الشعوب أشبه بالاستعمار الفكري الذي يتبع المستعمَر بالفتح المستعمِر بالكسر، لأنه أصابه غسل المخ، فإن تلك الحكومات أقنعت شعوبها بصحة الانتخابات وهي غالباً مزيفة، حيث إن المال المتمركز في أيدي القلة، يجمع حول نفسه الجماعات الضاغطة والإعلام والضمائر المشتراة، وبذلك يكون الحكم بيد من يريده رأس المال لا بيد من يريده الشعب، وهذه ديكتاتورية مغلفة بغلاف من الديمقراطية والحرية، وتكون النتيجة الاستبداد لكن مشوباً بشيء من الحرية الصورية. الفقه/السياسة: الامام الشيرازي الراحل (قدس سره).
ليس الشرق وحده يعيش الاستبداد والديكتاتورية بالصورة الفجة والصارخة التي عرفتها شعوب ذلك القسم من العالم، فها هي أمريكا وعبر تجربة الانتخابات الأخيرة التي تعيشها تنزلق الى نوع جديد من الاستبداد والديكتاتورية، افرزته التحولات الكبيرة في النظام الرأسمالي ان على مستوى الاقتصاد او الثقافة.
لقد لاحظ الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغامبن» أن الديمقراطيات الغربية تعيش اليوم مسارا معاكسا للديمقراطية الأولى (اليونانية) التي قامت على تسييس المواطنة بنقل الهوية الجماعية من مبدأ التمايز الاجتماعي إلى مبدأ المشاركة السياسية، في حين أن ما نعيشه راهنا هو نزع السمة السياسية عن معيار المواطنة، باعتبار أن المواطن لم يعد له أي دور فعلي في القرارات الحاسمة التي تصوغ مصيره وأصبح الهامش المتاح له محصوراً في مناسبات انتخابية موسمية شكلية لا تغير من الواقع شيئا.
يستشعر كثير من المسؤولين الامريكيين والصحفيين والمحللين، إلى أن النظام السياسي الأميركي ينهار، وهو يتداعى منذ زمن، والنخبة التي تسيطر على مؤسسة الحكم تعرف ذلك وتشعر بالخوف منه. وما المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية دونالد ترامب إلا مظهر من مظاهر هذا الانهيار، وليس سببه، في حين أن هيلاري كلينتون وزوجها بيل هما السبب والنتيجة في آن واحد.
على صعيد المرشح الجمهوري دونالد ترامب، اعتبره الكثير من المنظرين نسخة حديثة من بينيتو موسوليني، الذي يجلب سياسات مرحلة الثلاثينيات الخطيرة إلى أمريكا، وهو جزء من التراجع الديمقراطي في العصر الحديث الذي يجري لمدة عشر سنوات في العالم النامي، والذي يشق طريقه إلى أمريكا وأوروبا الغربية.
البيئة التي أفضت إلى صعود ترامب لديها الكثير من القواسم المشتركة مع تايلاند في عام 2000 وتركيا في عام 2010 وإيطاليا أو ألمانيا في عام 1933، والنهج السياسي لترامب هو أقرب إلى نهج الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الفنزويلي السابق هوجو شافيز، أو رئيس الوزراء التايلاندي السابق تاكسين شيناواترا، بحسب تقرير كتبه جوشوا كورلانتزيك، وهو زميل في مجلس العلاقات الخارجية لدول جنوب شرق آسيا، ونشره موقع «بلومبرج» مؤخرًا، رصد فيه ملامح الديمقراطية التي نشهدها في الوقت الراهن، والفروق التي نلحظها بين الحكام المستبدين في الثلاثينيات من القرن العشرين، ومن أطلق عليهم الحكام المستبدين المنتخبين في الوقت الحالي.
والمرشح الجمهوري تشكلت حوله مابات يعرف ب (الترامبية) التي تستند على التحيز والمظلومية والجهل والخوف المنبهر بالانتهازية، مستغلة الغضب وعدم الأهمية والتهميش التي يستشعره البيض في بعض الولايات الامريكية.
والترامبية تعكس رؤية مشوهة عن قوة أمريكا التي قامت على المهاجرين، وصارت خائفة منهم ، وتؤمن الترامبية بأن الدولة العظيمة، التي أدخلت التسامح الديني في دستور ريادي وحقوق وقوانين، يجب أن تدمر الآن مبادئها الخاصة، وتقوم بالتمييز، وبشكل مقصود، ضد المسلمين؛ من أجل حماية نفسها". كما وصفت ذلك احدى افتتاحيات صحيفة الاوبزيرفر الامريكية..
والترامبية أيضا كما في نموذجها الراسمالي الأمريكي، تقوم على جعل (الآخر) عدوا، وتساوي بين القومية والتجانس، وتطلق على النقاد الحقيقيين كذبة، وتحاول تهديد وسجن وإيذاء معارضيها، وتقول إن الفردية تتفوق على سلطة الدولة، كما يبدو في الحق المطلق لامتلاك السلاح. وتخشى الترامبية من الأجانب ولا تثق بهم، وتعتقد أن التجارة الحرة والمعاهدات الدولية والاقتصاد المعولم، بشكل عام، قطعة شطرنج، يقصد منها سرقة الأمريكيين.
وعلى صعيد مرشحة الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، فان السلطة هي كل شيء عندها وعند زوجها، وان الاتجار بالنفوذ قد ساعد آل كلينتون على الإثراء، وهم ليسوا تجارًا ماهرين ولم يكونوا اصحاب مهنة أو صناعة، وهم لم ينتجوا شيئًا ملموسًا، إنما بضاعتهم الوحيدة هي النفوذ.
الوصف الذي يمكن اطلاقه على شخصيتي المرشحين هو وجود نوع من النزعة التسلطية التي نراها في شخصيات الحكام الديكتاتوريين والمستبدين..
وهذه النزعة التسلطية تقوم على عدد من الخصائص: (التمركز على الذات وكذلك التمركز العائلي - الميل الى الافكار الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحافظة التي تعادي الديمقراطية - التماثل بالقوي والامتثال للكاريزما والاهتمام بخصائص الانا - الاهتمام المفرط بالقضايا الجنسية، ولكن بشكل مخفي او مبطن - اتجاه نحو عدم التسامح مع الآخر وعدم احترام الاثنيات والاقليات والاديان الاخرى).
اختم هذه السطور بما بدأته من الرؤية التي قدمها الامام الشيرازي الراحل (قدس سره) في نفس الكتاب، وهذه المرة في وصفه للشعوب التي تسمى بالديمقراطية، فهي (تعرف تلاعب الساسة بمقدرات الناس، وأنهم ديكتاتوريون في أثواب مهلهلة من الديمقراطية، وأنها تعرف أن الرؤساء إنما يعملون لأجل أنفسهم أكثر مما يعملون لأجل شعوبهم، وإن ذلك من لوازم الديكتاتورية، إذ الديكتاتور أناني يريد نفسه لا غيره، وأنها تعرف أن الضرر عليه، والنفع ليس له).
اضف تعليق