تنقسم الفلسفة الى ثلاثة حقول: الفيزياء (دراسة العالم الفيزيائي)، الاخلاق (دراسة المبادئ الاخلاقية)، والمنطق (دراسة المبادئ المنطقية). هذه المجالات تستلزم اما دراسة "تجريبية" لتجاربنا، او تحليل "خالص" للمفاهيم. "الميتافيزيقا" هي دراسة المفاهيم النقية المتصلة بالتجربة الاخلاقية او الفيزيائية.
الناس يفترضون عموما ان المبادئ الاخلاقية يجب ان تنطبق على جميع الكائنات الرشيدة في كل الاماكن والاوقات. لهذا يجب ان ترتكز المبادئ الاخلاقية على مفاهيم العقل، في تضاد مع الخصوصيات الثقافية والشخصية. ان الهدف من تأسيس ميتافيزيقا الاخلاق هو لتطوير فهم اوضح للمبادئ الاخلاقية، يمنع تشتت الذهن وصرف الانتباه وكذلك لتطوير العديد من المبادئ العامة حول الواجبات الاخلاقية.
تنطلق فلسفة كانط في الاخلاق من المبادئ التالية:
1- الافعال تكون اخلاقية فقط عندما تتم لأجل الاخلاق وحدها (دون اي دوافع اخرى مختبئة).
2- السمة الاخلاقية للفعل يُحكم عليها ليس طبقا لنتائج الفعل وانما طبقا للحافز الذي انتجها.
3- الافعال تكون اخلاقية فقط عندما تتم لأجل احترام القانون الاخلاقي (عكس الدوافع الاخرى كالحاجة او الرغبة).
طالما ان المصالح المحددة والظروف والنتائج لا يمكن اعتبارها، فان "القانون" الاخلاقي يجب ان يكون صيغة عامة تُطبّق على جميع المواقف. وبدلا من ان يأمر القانون الاخلاقي بتبنّي افعال محددة، فهو لابد ان يعبّر عن المبدأ بان الفعل يجب القيام به بحافز خالص، بدون اعتبار للنتائج. الصيغة التي تلبي هذه المعايير هي التالي: نحن يجب ان نتصرف بطريقة نرغب فيها ان يصبح المبدأ الدافع لسلوكنا قانونا عالميا. الناس لديهم احساس بديهي بهذا القانون، ومن المفيد للفلسفة ان تحدد القانون بوضوح لكي يحفظه الناس في عقولهم.
انه من المستحيل تقريبا ايجاد امثلة عن الافعال الاخلاقية الخالصة. تقريبا، كل فعل نلاحظه يمكن نسبته الى بعض الدوافع او المصالح التي لا تندرج ضمن الاخلاق الخالصة. غير ان هذا يجب ان لا يثبطنا لأن المبادئ الاخلاقية تأتي من العقل وليس من التجربة. في الحقيقة ان المبادئ الاخلاقية لا يمكن ان تأتي من التجربة، لأن كل التجارب تعتمد على ظروف معينة بينما المبادئ الاخلاقية يجب ان تمتلك صلاحية مطلقة مستقلة عن كل الظروف.
ولأنه يُطبّق في كل الظروف، فان المبدأ الاخلاقي الاساسي للعقل يسمى "الضرورة الحتمية" categorical imperative. الضرورة الحتمية يُعبّر عنها طبقا لنفس الصيغة كقانون اخلاقي: تصرّف فقط بطريقة انت تريد فيها للقاعدة الاخلاقية (المبدأ المحفز) لسلوكك لتصبح قانونا عالميا. عندما ينتهك الناس الضرورة الحتمية، فهم يطبقون على سلوكهم معيار يختلف عما يريدون تطبيقه على كل شخص اخر بصيغة قانون عالمي. هذا التناقض ينتهك مبادئ العقل.
ان الضرورة الحتمية يمكن صياغتها ايضا كمطلب لوجوب ان لا نتعامل مع الكائنات الرشيدة الاخرى مجرد وسيلة لأهدافنا. الكائنات الرشيدة لديها المقدرة للسعي نحو غايات محددة سلفا عن طريق رغباتها، ولكن في متابعة اهدافها، هي لا تعتقد ابدا بانها ذاتها مجرد وسائل لهدف آخر، الناس ذاتهم هدف لافعالهم.. هم "غايات بذاتهم".
لو تعاملنا مع الكائنات الرشيدة الاخرى كمجرد وسائل، سنناقض حقيقة ان كل الكائنات الرشيدة هي غايات بذاتها. في هذه الحالة، مبادئنا سوف لن تكون قوانين عالمية، وسوف ننتهك الضرورة الحتمية. طريقة اخرى للإعلان بان الكائنات الرشيدة هي غاية بذاتها هي القول ان الكائنات الرشيدة هي في نفس الوقت الخالق والخاضع للمبادئ التي تنفذها من خلال رغباتها. الضرورة الحتمية ربما يمكن ايضا صياغتها كمطلب لكي نتصرف فقط طبقا للمبادئ التي تكون قوانين في "مملكة الغايات" - او مجموعة قانونية فيها كل الكائنات الرشيدة كانت في وقت ما الخالق والخاضع للقوانين.
الجدال حتى الان اسّس ماهية القانون الاخلاقي، لكنه لم يبيّن لماذا نشعر بوجوب ان نكون اخلاقيين. الاساس للأخلاق هو مفهوم الحرية. الحرية هي المقدرة لمنح قانونك الخاص لرغبتك. عندما نتبع طلبات بعض الحاجات والرغبات او الظروف، سنكون في حالة "فقدان الحرية الاخلاقية"، وان رغباتنا تتقرر بشيء خارج ذواتنا. عندما نتبع الضرورة الحتمية ونختار المبادئ التي قد تكون قوانين عالمية، سنكون في حالة "الاستقلالية الذاتية" نستعمل العقل في تقرير قانون خاص لأنفسنا. بكلمة اخرى، نكون احرارا.
حرية الرغبة لا يمكن ابدا اظهارها بالتجربة. انها مبدأ للعقل بان كل شيء نفهمه ربما يتضح على اساس الظروف المسبقة. بكلمة اخرى، العالم الذي نلاحظه ونفهمه هو عالم محكوم بمبدأ ان كل حدث نتج عن حدث آخر. لكن هذا العالم ليس اكثر من صورة يطورها العقل في صنع احساس بـ "الظهور". ان عالم "الاشياء بذاتها" –الاشياء المجسدة للظهور– له نوعيات مختلفة، بما فيها حرية الرغبة. نحن قد لا تكون لدينا معرفة بالأشياء في ذاتها. وهكذا لا يمكن اثبات او عدم اثبات حرية الرغبة. كل ما نعرف هو اننا نمتلك مفهوم لحرية الرغبة وان الاخلاق تتأسس على هذا المفهوم.
تحليل ونقد
سنعرض هنا عدد من الانتقادات لكانط. بعض الفلاسفة يرون ان عقائدنا الاخلاقية عند التطبيق مرتكزة على البديهية وليس على العقل. هيجل اشار الى ان المعتقدات الاخلاقية لا يمكن ابدا ان تكون غير مشروطة لأن الاسئلة الاخلاقية يجب ان تُحل في سياق المجتمع الذي نعيش فيه. نيتشة جادل بان العقل ليس مصدرا للحرية الاخلاقية وانما هو عائق للاختيار الحر.
الخيط المشترك في كل هذه الانتقادات هو ان موقف كانط شديد التجريد بحيث يصعب ان يكون نافعا. ككائنات بشرية، نحن نعيش في مكان وزمان معينين. ليس من الضروري او المرغوب لنا ان نفصل عقلانيتنا عن الخصائص الاخرى لشخصيتنا. نحن ربما نفكر في قضايا بطريقة مجردة، وربما نتصور مواقف الناس الآخرين، مع ذلك يجب ان تكون نقطة البداية لنا دائما هي موقفنا الخاص في الحياة.
انها سمة اساسية و"غلطة"شائعة، لو افترضنا وفق افكار التنوير اننا نستطيع تجاهل خصوصياتنا وبإمكاننا اكتشاف مبادئ العقل. هذه الغلطة ممكنة لأن فلاسفة التنوير جاؤوا من ثقافة متجانسة نسبيا (اوربا القرن الثامن عشر) ومن موقف طبقة متجانسة نسبيا (الأمن المالي النسبي). هذا التجانس قاد مفكري التنوير للتبسيط المفرط للاسئلة المحددة، مفترضين ان الاجوبة عليها هي "عقلانية" بينما هي في الحقيقة تعتمد على افتراضات ثقافية. فمن جهة، فلسفة كانط وفلسفة التنوير عموما ليست فلسفة الامتيازات.
في الحقيقة، افكار كانط هي ثورية في المساواة. طبقا لكانط، الحقائق الاخلاقية لا تأتي من الأعلى عبر الوحي الديني او الالهام. بل، هي ترتكز على اسباب تجعل هناك معنى لكل الناس الذين يسعون للتفكير فيها. ان الحماس الذي يتبنّى فيه الناس الرؤى الاخلاقية يشير الى ان العديد منهم يستمرون بالإيمان في رؤية كانط بان المبادئ الاخلاقية يجب ان تكون مطلقة وعالمية. لاحقا وفي القرن العشرين اصبح الناس اكثر وعيا بالتنوع مما كان ايام كانط. وبالتالي، نحن ربما لدينا ثقة اقل منه بان ما يجعل هناك معنى لنا سيجعل معنى للناس الآخرين. مع ذلك، في ايامنا هذه كما في ايام كانط، يميل الناس للاعتقاد ان عقائدهم الاخلاقية تعني ما هو اكثر من مجرد انحياز ثقافي.
وكما في كل الفلاسفة الكبار، اثار جدال كانط نطاقا واسعا من الردود الايجابية والسلبية. ومهما تصورنا رؤية كانط، سيكون من الصعب التقليل من قيمة التأثير التاريخي "لثورته الكوبرنيكونية" في الفلسفة. حتى اليوم، وبعد مرور قرابة 200 سنة على وفاته، يبقى لجدال كانط حضوره المؤثر في الفلسفة.
اضف تعليق