مقدمة
المراجعات الفقهية والفكرية التي تظهر بين الفينة والأخرى داخل جماعات الإسلام السياسي أو بعض قياداتها تستحق التوقف عندها ودراستها بتمعن، نظرا لأن القائمين بالمراجعة شخصيات قيادية لها وزنها داخل الجماعات، ولأن هذه الجماعات شغلت خلال العقود الثلاثة الاخيرة حيزا كبيرا من المشهد السياسي العربي والإسلامي سواء على مستوى التنظير ومحاولة ملء فراغ تراجع الأيديولوجيات الشمولية كالأممية والقومية، أو على مستوى الممارسة كمعارضة أو كأحزاب سلطة، وهي ممارسة اتسمت بالعنف والدموية بشكل غير مسبوق في التاريخ العربي الحديث خصوصا خلال سنوات ما يسمى بالربيع العربي، كما تركت بصماتها المدمرة اجتماعيا واقتصاديا وتنمويا على الدول والمجتمعات الوطنية وعلى القضية الفلسطينية. [1]
في الوضع الطبيعي فإن المراجعات الحزبية أو النقد الذاتي حالة صحية وجزء من الحياة السياسية للأحزاب والجماعات السياسية وللأيديولوجيات والأفكار، من منطلق أن المعرفة الإنسانية بشكل عام معرفة نسبية، والمطلق الوحيد أو المقدس هو الله والكتب السماوية المُنزَلة، وحتى على هذا المستوى هي مقدسة ولا تخضع للمراجعة بالنسبة لمعتنقيها فقط، كما أن التطور سنة من سنن الحياة.
لكن بالنسبة للجماعات العقائدية كجماعات الإسلام السياسي فالأمر مختلف ليس لأنها جماعات ذات مرجعية دينية بل لأنها تضفي على نفسها وأشخاصها واجتهاداتها طابع القدسية مما يجعل المراجعات أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا لأنه يعتبر مسا بالمقدس، ليس المقدس الحقيقي المرتبط بالقرآن والسنة بل اجتهادات وتأويلات وأشخاص تم إضفاء طابع القدسية عليها.
كما سنبحث في خصوصية الديني والوطني في التجربة الفلسطينية ومدى تأثير المراجعات التي تمت عند جماعات الإسلام السياسي وخصوصا عند جماعة الإخوان المسلمين على حركة حماس، وهل جرت مراجعات جادة داخل حركة حماس؟ وهل أن خطاب خالد مشعل يوم السبت 26 سبتمبر 2016 في الدوحة يندرج في إطار المراجعات.
سنقارب الموضوع في ثلاثة محاور: يتناول الأول مقاربة لمفهوم المراجعات عند الجماعات العقائدية الأممية وأهمها في التاريخ المعاصر، ويتناول الثاني المراجعات عند جماعات الإسلام السياسي، والمحور الثالث مراجعات حركة حماس الفلسطينية وتداعيات مراجعات الجماعات الإسلامية على القضية الفلسطينية.
المحور الأول: مقاربة لمفهوم المراجعات
مراجعة المواقف والتوجهات السياسية والأيديولوجية للأحزاب والحركات العقائدية وما يُبنى عليها من ممارسات أمر محمود ومطلوب في الحياة السياسية بشكل عام، فكيف إن أدت هذه المواقف والممارسات لنتائج كارثية على الشعب والقضية أو العقيدة بما في ذلك العقيدة الدينية نفسها التي يدافع عنها الحزب أو الجماعة العقائدية. لقد أكدت التجارب التاريخية والمعاصرة أيضا أن العمر السياسي للأحزاب والنظم الدوغماتية والدينية المغلقة قصير، وكلما تأخرت عملية المراجعة والتحول عند هذه الأحزاب والأنظمة كلما كان سقوطها أكثر حتمية وأكثر دموية.
لا نقصد بالمراجعات في سياقنا هذا عملية التقييم للسلوك والمواقف التي تقوم بها الاحزاب أو أية مؤسسة وحتى الأشخاص بين فترة وأخرى لمعرفة أسباب الخلل والتقصير لتجاوزها مستقبلا، كما لا نقصد بالمراجعة هنا النقد الذاتي أو المراجعة الروتينية للمواقف والسلوكيات، فهذه كلها أمور تدخل في صلب العمل السياسي ومن طبيعة الحياة بشكل عام.
تعريفنا الإجرائي للمراجعات أنها العملية التي تقوم بمقتضاها الأحزاب والجماعات العقائدية وخصوصا الإسلامية بمراجعات كلية أو جزئية لاجتهادات أو سلوكيات، وتكون الأمور التي تم التراجع عنها من الثوابت والأساسيات في فكر ومنهج هذه الجماعات، كما أن سياق المراجعات يأتي بعد سنوات من ممارسة العنف وتكفير أو تخطيء النظام والمجتمع أحيانا ومعاداة الدولة الوطنية وتشريعاتها الوضعية وعدم الاعتراف بها، وغالبا ما تأتي المراجعات بعد أزمة عميقة تمر بها هذه الجماعات.
فالمراجعة بهذا المعنى تعني إعادة نظر جذرية فيما كان يُعتبر بالنسبة للجماعة مسلمات لا مجال للشك فيها، وإدراجها في سياق الاجتهادات التي تقبل الخطأ والصواب أو اعتبارها من الاخطاء التي يجب التخلي عنها نهائيا. والمراجعة لا تعني الرجوع عن القواعد الثابتة في العقيدة التي لا يُختلف عليها أو يُشكَك بها، بل مراجعة اجتهادات وتفسيرات كانت الجماعة تعتبرها مسلمات. فالمراجعة تنصب على الانتاج البشري من فكر وسلوك وليس على الكتاب السماوي –القرآن- أو أحاديث الرسول ونهجه، حيث كل ما هو خارج هذين المصدرين غير مقدس وغير مُلزم ويمكن الرجوع عنه.
من خلال قراءة لأهم المراجعات التي تركت صدى كبيرا نلاحظ أنها تخص الجماعات العقائدية أو الأصولية، سواء كانت أصولية دينية كالأصولية الإسلامية أو أصولية علمانية، فالأصولية ليست سمة أو مرض يصيب الحركات الدينية فقط بل يتعداها إلى الأيديولوجيات الدنيوية أو الوضعية كالايدولوجيا الماركسية وبعض الأحزاب القومية.
إن ما يجعل المراجعات تؤدي لزعزعة الجماعات العقائدية وإحداث أزمات عميقة داخلها قد تؤدي إلى انهيارها أو تفككها، هو انغلاق هذه الجماعات لعقود على نفسها، وإضفاء طابع القدسية على تنظيراتها ومنظريها بحيث لا تُفسح المجال لأن تجدد نفسها ومقولاتها من خلال التجربة والواقع وتستمر بالمكابرة والعناد وإدارة الظهر للفجوة الكبيرة بين مجريات الواقع ومتطلبات الحياة اليومية من جانب وتنظيراتها ومنظريها من جانب آخر.[2]
إن كان مصطلح المراجعات الفكرية ارتبط في عصرنا الراهن بالجماعات الأصولية الإسلامية الاممية الإسلامية- فقد سبقها في ذلك مراجعات داخل الأممية الشيوعية نتيجة عوامل متعددة، إما حزبية ذاتية مرتبطة بتطور الوعي السياسي والفكري ونتيجة تدافع الأجيال، أو نتيجة تلمس خصوصيات اجتماعية (قومية) تتطلب خصوصية في تطبيق النظرية، أو نتيجة هزائم وعجز في الممارسة، أو تمرد الفروع على المرجعية الأم في موسكو، وفي حينها لم تكن تسمى مراجعات بل كان الماركسيون المتمسكون بالأصول الماركسية اللينينية ينعتونها بالتحريفية.
في هذا السياق نستحضر مراجعات الحزب الشيوعي الصيني بزعامة ماوتسي تونغ لأسس الماركسية اللينينية وخصوصا من حيث خصوصية المجتمع الصيني وتركيبته الطبقية بما لا يسمح بتطبيق الماركسية بحذافيرها، وقد أدت اجتهادات ماوتس تونغ لظهور الماركسية الماوية[3]، والمراجعات التي قام بها الحزب الشيوعي المجري –هنغاريا- عام 1956 والتي أدت لثورة تم سحقها بتدخل عسكري مباشر من موسكو، نفس الأمر جرى في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 أو ما سمي (ربيع براغ) وتم سحقها أيضا بتدخل الجيش الاحمر. [4]
في بداية السبعينيات برزت ظاهرة الأورو شيوعية حيث تمت مراجعة جذرية عند الأحزاب الشيوعية في اسبانيا وفرنسا وايطاليا بحيث جرت عملية توطين أو قومنة هذه الأحزاب وتخلت عن أهم مرتكزات النظرية الشيوعية حول السلطة والحكم، كالوصول إلى السلطة عن طريق الثورة وديكتاتورية الطبقة العاملة، الأمر الذي مكنها من المشاركة في الحياة السياسية الديمقراطية.[5]
في منتصف الثمانينيات ومع استمرار أزمة الشيوعية على المستوى الفكري ومستوى الممارسة والحكم، طرقت المراجعات أبواب موسكو نفسها والحزب الشيوعي السوفييتي، وكان ذلك على يد غورباتشوف عام 1985 بعد وصوله للسلطة وقيادة الحزب الشيوعي. فقد أعلن بصراحة عن حاجة الاتحاد السوفيتي لإعادة البناء أو "البيروسترويكا" على المستوى الاقتصادي والشفافية أو "الجلاسنوست" على المستوى السياسي والعام. أدى العمل بهذين المبدأين إلى مراجعات شمولية بدلا من أن تصحح الأوضاع الاقتصادية والسياسية أدت في النهاية إلى انهيار الاتحاد السوفيتي ومعه المعسكر الاشتراكي والايدولوجيا الشيوعية بشكل عام 1991.
في العالم العربي هناك تجربة حركة القوميين العرب حيث حدث التحول والانتقال من القومية المثالية إلى القومية الاشتراكية ثم مراجعة شمولية امتدت من 1964 إلى 1968 أدت لتحولها إلى قوى وأحزاب وطنية، وقد صاحب ذلك مراجعات فكرية عميقة [6]. ومراجعات الفلسطينيين الذين كانوا منتمين لأحزاب قومية أو يسارية أو دينية قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، حيث راجع هؤلاء مواقفهم من الوطنية الفلسطينية بعد هزيمة حزيران 1967، وقرروا هجر تنظيماتهم والانتماء لمنظمة التحرير فرادي أو دخول أحزابهم لمنظمة التحرير في إطار المشروع الوطني الفلسطيني.
وفي المغرب جرت مراجعات منتصف الثمانينيات عند قوى اليسار. حيث انتقلت هذه الأحزاب، كحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والحزب الشيوعي –التقدم والاشتراكية لاحقا- ومنظمتا إلى الأمام و23 مارس، من مرحلة المعاداة المطلقة للنظام وإشهار السلاح ضده لإسقاطه وإقامة نظام سياسي بديل يتبنى المنهج الماركسي، إلى مرحلة الاندماج والمشاركة في النظام السياسي في إطار مصالحة تاريخية مع المؤسسة الملكية والنهج الديمقراطي، وقد آلت الأمور إلى أن يشكِل حزب الاتحاد الاشتراكي الحكومة وصيرورة أمينه العام عبد الرحمن اليوسفي من محكوم بالإعدام يعيش في المنفي في فرنسا إلى رئاسة الوزراء، بعد الانتخابات البرلمانية عام 1998 وتشكيل حكومة التوافق الوطني. [7]
المحور الثاني: المراجعات عند جماعات الإسلام السياسي
تصريحات راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة التونسي في المؤتمر العام العاشر للحزب 19-21 مايو 2016 وتصريحات لاحقة له لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية قال فيها "إن حركة النهضة تطورت من حركة إسلامية شمولية إلى حزب مدني وطني متصالح مع الدولة والمجتمع"، وتأكيده على قطع الصلة التنظيمية بجماعة الإخوان المسلمين وبالإيديولوجيات الشمولية والفصل بين الدعوي والسياسي.[8] هذه التصريحات فتحت مجددا موضوع المراجعات عند الجماعات الأصولية وتأثيرها على مستقبل الظاهرة المسماة الإسلام السياسي وعلاقتها بالدولة الوطنية والمجتمع بشكل عام.
مع أن التجربة الشخصية لراشد الغنوشي المرتبطة بحياته في المنفى في فرنسا ولندن لعبت دورا في صقل أفكاره ومرونتها، وما ساعد على ذلك أيضا خصوصية الإسلام السياسي في تونس وهي خصوصية مستمدة من طبيعة المجتمع التونسي والثقافة التي رسخت خلال عقود ما بعد الاستقلال، إلا أن هذه المواقف لحزب النهضة وللغنوشي تحديدا تندرج في إطار ما يمكن أن نسميه فقه المراجعات عند جماعات الإسلام السياسي، وهي ظاهرة ليست جديدة، ولكن هذه المرة مختلفة حيث جاءت بعد تراجع شعبية جماعات الإسلام السياسي وفشل تجربتها في الحكم في بعض الدول [9]، وتحميلها مسؤولية فوضى الربيع العربي وما صاحبها من مظاهر عنف، وانكشاف علاقتهم بالغرب وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية.
يمكن إرجاع أولى الاجتهادات التي يمكن إدراجها في سياق المراجعات المعاصرة عند المرجعيات الدينية وداخل جماعات الإسلام السياسي إلى أحد علماء الأزهر على عبد الرازق، الذي اعتبر أن نظام الخلافة نظام دنيوي وليس ديني [10]، وقد تعرض في حينه لانتقادات كثيرة وأصدر الأزهر بينانا قال فيه إن اقوال على عبد الرزاق لا تمثل الأزهر.
ما بين عامي 1997 و1999 أقدمت بعض قيادات الجماعة الإسلامية المصرية أثناء وجودها في السجن، على مراجعات أثارت كثيرا من الجدل داخل الجماعة وخارجها، وهي مراجعة اقتصرت على التراجع عن نهج العنف والأسس الفكرية الفقهية التي يستند إليها [11]. ومع أن جدلا ثار لاحقا حول مصداقية وجدية مراجعات السجون إلا أننا نعتقد أن أهم قيادات الجماعة الإسلامية كانت صادقة في مراجعاتها ومنهم ناجح إبراهيم [12]. وبعد سقوط حكم محمد مرسي وبداية محاكمة قادة الإخوان في السجون تجري مجددا مراجعات داخل جماعة الإخوان وإن كان البعض يشكك بجدواها ومصداقيتها حيث ينظرون لها كمناورة للخروج من السجن أو كممارسة باطنية تميز بها الإخوان.
في نهاية السبعينيات أثار حسن الترابي في السودان ضجة كبيرة بمواقفه التي اعتبرت مراجعات خطيرة حتى إن بعض علماء السودان طالبوا بـ "استتابته" وبعضهم الآخر قال إنه تأثر بأفكار الخميني حيث كانت الثورة الإيرانية في بداياتها. مست مراجعات الترابي جوانب متعددة، كالموقف من المرأة وكانت له رؤية متقدمة تجاه المرأة، وعلاقة الدعوي بالسياسة، حيث قال بأولوية الدولة على المجتمع، أيضا حول الجهاد والعلاقة مع اصحاب الديانات الأخرى، ومع أن الترابي انشق عن جماعة الإخوان المسلمين مبكرا وشكل " حزب المؤتمر الشعبي السوداني " إلا أنه استمر في مراجعاته المثيرة للجدل حتى وفاته. [13]
وبالنسبة لتنظيم القاعدة العنوان الأبرز للإسلام السياسي المتشدد، فقد مارست القاعدة نقدا عنيفا لجماعة الإخوان المسلمين وأخذت عليها نهجها البراجماتي المفرط بل وصفت الجماعة بأنها "مرجئة العصر"، إلا أن تنظيم القاعدة لم ينج بدوره من مراجعات من داخله بدءا من عام 2007 وكان اشهرها مراجعات سيد إمام الشريف المشهور بالدكتور فضل "ومفتي المجاهدين في العالم" كما اطلق عليه تنظيم الجهاد، وقد دون مراجعاته في ثلاثة كتب، أولها "وثيقة ترشيد العمل الجهادي " وثانيها "التعرية" وآخرها "الصراع في أفغانستان"، وأهم ما جاء مراجعاته: الدعوة لترشيد العمل الجهادى في مصر والعالم، كما استنكر ظهور صور مستحدثة من القتل والقتال باسم الجهاد انطوت على مخالفات شرعية، ويرى أن الجهاد في الإسلام فريضة مستمرة وباقية، لكن (الجهاديين) مارسوا أخطاء عديدة، وصلت إلي حد المفاسد. كما قال "إن سفك الدماء وإتلاف الأموال بغير حق، من أكثر الأشياء التي تجلب سخط الرب" [14]. بالإضافة إلى مراجعات الأردني أبي محمد المقدسي، في كتابه "وقفات مع ثمرات الجهاد" ورسالته "مناصرة ومناصحة" الموجهة لأبي مصعب الزرقاوي قبل وفاته سنة 2006. [15]
وفي ليبيا حدثت مراجعات عند الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وقام سيف الإسلام القذافي بدور كبير من خلال حواراته مع قادة الجماعة في السجون اللبيبة استمرت لعامين 2007-2009، ووردت المراجعات في وثيقة موسومة بـعنوان "دراسات تصحيحية في مفاهيم الجهاد والحسبة والحكم على الناس” [16].
وفي المغرب حدثت نقلة نوعية عند حزب العدالة والتنمية بعد فوزه بالانتخابات التشريعية لأول مرة 2011 حيث بدى واضحا توطينه للايدولوجيا الدينية لصالح الوطنية المغربية و(الإسلام المغربي) [17]. وسبق ذلك مراجعات داخل حركة الشبيبة الإسلامية المغربية التي كانت تميل للعنف وأدت المراجعات إلى ظهور حركة التوحيد والإصلاح عام 1996، ومن أبرز قادتها الدكتور أحمد الريسوني الذي وثَّق مراجعات حركته في أحد كتبه حيث يقول في مقدمة الكتاب إن "الفقه الإسلامي عموما هو اجتهاد بشري، فإذا كان الوحي معصوما ؛ فإن فهمه والاستنباط منه ليس عملا معصوما".[18]
وفي الأردن أعلن فرع جماعة الإخوان المسلمين في يناير 2016 عن انفصاله عن جماعة الإخوان في مصر مؤكدا أن ما يربط الجماعة في الاردن ببقية فروع الإخوان مجرد تنسيق وليس علاقة تنظيمية [19]، كما يشوب التباس علاقة حزب التجمع اليمني للإصلاح في اليمن بجماعة الإخوان المسلمين.
أن تراجع القوى السياسية مواقفها وأيديولوجياتها لا يعني التراجع والتخلي عن القيم والأهداف والمصالح الوطنية أو التخلي عن العقيدة الإسلامية، بل مراجعة مواقف وأيديولوجيات مؤسَسة على فهم خاطي للمصلحة الوطنية أو للدين أو لهما معا، فالمراجعة في هذه الحالة هي عملية تراجع عن شطط في التفكير وتقصير في الفهم والإدراك أديا لأخطاء في الممارسة، والمراجعة تعني التصالح مع الشعب ومع الوطن والوطنية.
ولكن وحتى تكون المراجعة حقيقية وليس مجرد مناورة للخروج من مأزق أو الانحناء للعاصفة حتى تمر، يجب أن تكون مراجعة جذرية للفكر والأيديولوجيا ومراجعة للسلوك والممارسة في نفس الوقت، كما يجب أن تؤسَس المراجعة على اعتراف حقيقي بالخطأ واستعداد لتصحيحه وتَحَمُّل نتائج ذلك، حيث لكل مراجعة ثمن يجب أن يُدفع، وأن يُدفع اليوم بخسائر أقل أفضل من أن يُدفع مستقبلا بخسائر أكثر فداحة حزبيا ووطنيا وقد يصل الأمر لإخراج الحزب أو الحركة السياسية من المشهد السياسي موسوما بالخيانة. لذا فمن الافضل أن يُدفع الثمن اليوم للشريك الوطني أفضل من أن يُدفع غدا لأطراف خارجية.
إن تغيير السياسات على أرض الواقع والتخلي عن حالة الاستعلاء على الوطن والقوى الوطنية والاستعداد للانخراط في الحالة الوطنية في إطار شراكة لا تعطي تميزا على أساس احتكار الحقيقة الدينية... هو المحك للحكم على مدى مصداقية خطاب المراجعة والنقد الذاتي. كما أن المراجعة والنقد الذاتي لا يُسقطا المسؤولية ولا يمنحا شهادة حسن سير وسلوك للمراجعين تؤهلهم لأن يستمروا في السلطة إن كانوا يتولونها أو يستلموا سدة الحكم وقيادة النظام السياسي مباشرة إن كانوا في المعارضة، بل يجب أن يمروا بمرحلة من إعادة التأهيل واختبار المصداقية، حتى لا يصبح الوطن والدين حقل تجارب لكل من هب ودب.
من خلال ما سبق واستقراء كل حالات المراجعة عند جماعات الإسلام السياسي نلاحظ بأن المراجعات لا تمس المرجعية الدينية بحد ذاتها بل هي مراجعة لاجتهادات وتفسيرات في بعض القضايا الفقهية أدت لدخول الجماعة المعنية في أزمة داخلية أو بينها وبين الدولة والمجتمع. أحيانا تكون المراجعات كلية أو جزئية تقتصر على بعض الاجتهادات الفكرية أو السلوكيات بدون أن تؤثر على النهج او الخط العام للحركة.
المحور الثالث: مراجعات حركة حماس حول إشكالية الوطني والديني
كتبنا منذ عقد من الزمان مطالبين بتوطين الايديولوجيات الدينية في فلسطين لتصبح جزءا من الحالة الوطنية ومتصالحة معها، وتجنب افتعال صدام كما يجري في بعض البلدان العربية ما بين الوطنية والدين كما تفهمه وتوظفه جماعات الإسلام السياسي [20].
الإسلام دين كل المسلمين وهو حالة دائمة لا يرتبط وجوده بحزب أو شخص وهو منزه عن الأهواء والأغراض الشخصية والفئوية الضيقة، بينما جماعة الإخوان المسلمين وجماعات الإسلام السياسي الأخرى أحزاب سياسية لها مصالح بشرية ودنيوية حتى وإن رفعت شعارات دينية أو اتكأت على الدين في تبرير سلوكياتها، وقادتها ليسوا منزهين عن الخطأ، كما أنها أحزاب معرضة للزوال في أية لحظة. لو عدنا للتاريخ السياسي الإسلامي لوجدنا آلاف الفرق والجماعات والأحزاب التي كانت تدعي بأنها تمثل الإسلام، وكلها اندثرت ولم تترك إلا الخراب ومزيدا من فُرقة المسلمين ومن تاريخ دام أسود. لكن يبدو أن البعض في زمننا هذا لا يريد استلهام الدروس والعبر من التاريخ السياسي للمسلمين ويُفضل أن يجرب المجرب ويبدأ دائما من نقطة الصفر، لأن توظيف الدين سياسيا بات صنعة من لا صنعة له وحرفة لا تحتاج لعقل أو علم بقدر ما تحتاج للديماغوجية والتلاعب بمشاعر العامة واستغلال فقرهم وجهلهم.
لو نظرنا للعالم من حولنا اليوم سنلاحظ أنه ما كان لحزب التنمية والعدالة التركي أن ينجح لو لم يوطن أيديولوجيته الدينية ويشتغل ضمن حدود الدولة القومية العلمانية وبما يخدم المصلحة الوطنية التركية دون ارتباط بأي إطار خارجي، نفس الأمر في إيران حيث الانسجام والتناغم ما بين القومية الفارسية والإسلام الشيعي، بل تعمل الأولى على توظيف الخطاب الديني الإسلامي خارج إيران لمصلحة الدولة القومية الفارسية. وفي الحالتين يجري تكييف الدين بما يخدم المصلحة الوطنية وليس العكس، والإسلام يسمح بذلك. وما هو قريب من ذلك ما يجري في ماليزيا واندونيسيا من تعايش وانسجام ما بين الدين والوطنية حيث لا يزعم مسلمو تلك البلدان بأنهم امتداد لأية جماعة سياسية دينية خارجية، والتجربة تتكرر في المغرب بشكل متميز وواعد.
أدركت فروع جماعة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وتونس والمغرب خطورة المأزق الناتج عن كونها فروع لجماعة أممية ترفع شعار الخلافة وأيديولوجية سياسية شمولية عن الإسلام، متجاهلة الحالة الوطنية كثقافة وهوية وروابط يؤسسها العيش المشترك في كيان سياسي متمايز عن غيره، من جانب، والحاجة للانخراط في الحياة السياسية الوطنية المحكومة بدستور وقوانين والمؤسسة على مفهوم المواطنة من جانب آخر.
المشكلة الرئيسية بالنسبة للإسلام السياسي في فلسطين وخصوصا مع حركة حماس لا تكمن في وجود اجتهادات فقهية تستدعي من حركة حماس مراجعتها، نظرا لغياب علماء دين مجتهدين عند حركة حماس وبسبب تبعية جماعات الإسلام السياسي في فلسطين لمرجعية خارجية، إن المشكلة تكمن في اصطناع مواجهة بين المشروع الوطني و(المشروع الإسلامي ) قبل قيام الدولة الوطنية المستقلة وفي خضم المواجهة مع إسرائيل التي تحتل كل فلسطين وتشكل النقيض الموضوعي للشعب والوطن.
انطلاقا من هذه الخصوصية كان على حركتي حماس والجهاد الإسلامي توطين ايديولوجيتهم الدينية لتصبحا جزءا من المشروع الوطني الفلسطيني، نظرا لأن الشعب الفلسطيني يعيش مرحلة تحرر وطني تحتاج لإعلاء راية الوطنية والتمسك بالهوية والثقافة الوطنية، ولخطورة رهن القضية الوطنية بأي أجندة خارجية حتى وإن كانت ترفع شعارات دينية.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى اختلاف حركة الجهاد عن حركة حماس، حيث إن حركة الجهاد وبالرغم من انتماء مؤسسيها الأوائل لحركة الإخوان المسلمين إلا أنها انفصلت منذ تأسيسها عام 1987 على يد عبد العزيز الشقاقي عن الإخوان وبالتالي عن حركة حماس، ولها مواقف سياسية مغايرة عن حركة حماس، كما انها تُشكل جماعة إسلامية وطنية حيث لا تُعلن انها امتداد لمرجعية أو جماعة خارجية، ورفضها الدخول في منظمة التحرير ليس لأن المنظمة علمانية، كما تبرر حركة حماس رفضها دخول منظمة التحرير، بل بسبب النهج السياسي للمنظمة.
توطين حركة حماس لفكرها وأيديولوجيتها مطلب ضروري إن رغبت بأن تكون جزءا من النظام السياسي الفلسطيني و تقود أو تشارك في قيادة الشعب الفلسطيني، لأن الشعب الفلسطيني لا يقبل أن تحكمه حركة سياسية تقول بأنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين وفرع من فروعها، لأن ذلك يعني أن الأصل هو الذي يحكم، أي يصبح الشعب الفلسطيني محكوم ومسير من طرف جماعة الإخوان المسلمين ويصبح مصير قضيتنا الوطنية رهن بما تأول إليه الأمور في هذه الجماعة ولحساباتها وتوازناتها ومصالحها الأممية.
لا يعني أن توطن حركة حماس نفسها تخليها عن بعدها الإسلامي أو قطع صلتها كليا بجامعة الإخوان، فهذا شأنها وشأن المنخرطين فيها، ويمكنها أن تستمر بهذه الوضعية ما دامت خارج السلطة والقيادة أو تمارس الجهاد المقدس، ولكن أن تقول أو تتطلع لقيادة الشعب الفلسطيني وفي نفس الوقت تقول بأنها امتداد لجماعة خارجية فهذا ما لا يقبله الشعب الفلسطيني لأنه لا يقبل أن يقوده تنظيم خارجي، ولا يقبل أن يرتبط مصيره ومصير القضية الوطنية بمصير حزب قيادته غير فلسطينية.
كثيرون تمنوا على حركة حماس عدم الانزلاق نحو مشاريع دينية أممية على حساب المشروع الوطني، وألا ينخدعوا بالأصوات الخارجية التي ضخمت من فوزهم في الانتخابات التشريعية يناير 2006 مصورين ذلك انتصارا للمشروع الإسلامي العالمي يجب الحفاظ عليه بأي ثمن، إلى غير ذلك من الخطابات التي دفعت حركة حماس للتعالي على المشروع الوطني وقواه الوطنية، وتمنينا على حركة حماس أن تقول لحلفائها ومرجعياتها في الخارج، إن كانوا يريدون نجاح مشروع الإمارة الإسلامية فليبحثوا عن هذا النجاح في الدول الإسلامية المستقلة وذات السيادة، أما في فلسطين فهناك خصوصية تجعل المسألة الوطنية والمشروع التحرري الوطني سابق على أي مشاريع أخرى.
في المجتمعات الإسلامية الأخرى يمكنهم تغييب البعد الوطني أو إلحاق الوطني بالديني دون خوف على الهوية الوطنية والدولة الوطنية، أما في فلسطين فيجب إلحاق الديني بالوطني، أي توطين الإسلام السياسي، وعندما ننجز مشروعنا الوطني التحرري ودولتنا الوطنية، آنذاك يكون لكل حادث حديث.
بذلت منظمة التحرير كل الجهد لانضواء حركتي حماس والجهاد الإسلامي في منظمة التحرير وفي المشروع الوطني، ولا يسعنا في هذا السياق تجاهل موقف الرئيس أبو مازن في انتخابات يناير 2006 حيث شجع مشاركة حماس في الانتخابات بالرغم من علمه بما تحظى به من شعبية، كما ناشد وتمنى على حركة حماس أن تتفهم خصوصية وخطورة المرحلة وطلب من السيد إسماعيل هنية رئيس الوزراء آنذاك أن يقدم برنامج حكومي لا يمنح إسرائيل فرصة للإجهاض على الحكومة الوليدة – مع أن إسرائيل لا تحتاج لمبررات إضافية لحصار الشعب ولإضعاف السلطة الوطنية بغض النظر عمن يترأسها أو يشكل حكومتها - ولا يدفع دول العالم وخصوصا المموِلة للسلطة من أن تفرض الحصار على قطاع غزة وعلى السلطة بشكل عام.
كان أمام حركة حماس أكثر من فرصة ومناسبة للدخول بعِزة ومن مركز القوة في النظام السياسي والمشروع الوطني، إلا أنها فوتت هذه الفرص نتيجة ما كانت تتعرض له من ضغوط من طرف الاجندات والمشاريع الخارجية، وبسبب فهم خاطئ لعلاقة الديني بالوطني، وأيضا نتيجة حقد بعض قياداتها على حركة فتح ومنظمة التحرير، وكان ثمن ذلك سقوط الكثير من الضحايا بالإضافة إلى حالة الانقسام المريرة، دون تجاهل أخطاء وممارسات، بعضها مقصودة وأخرى غير مقصودة، من بعض المسئولين في حركة فتح والمعسكر الوطني.
بعد ما جرى ويجري في العالم العربي من فوضى وتراجع جماعات الإسلام السياسي وخصوصا في مصر أخذنا نسمع خطاب المراجعة والنقد الذاتي عند حركة حماس على لسان بعض قادتها من خلال ملامسة مفردات المشروع الوطني، كما خففت الحركة من ملاحقة رموز المشروع الوطني كالكوفية والعلم والأغاني الوطنية، بالإضافة إلى تخفيف حدة علاقاتها مع الشخصيات والقوى الوطنية المعارِضة لها. لكن التغير الأهم هو صدور تصريحات ملتبسة عن علاقة حركة حماس بالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين وتأكيدها بأنها تنظيم وطني فلسطيني، وهذا ما سمعناه خلال وبعد زيارة الوفد الحمساوي المفاجئة للقاهرة منتصف مارس2016.
ومنها ما ذكره النائب في التشريعي يحيى العبادسة في مقابلة صحفية حيث قال "أنا في حركة حماس منذ 40 عام، لا أعلم أنه لهذه الحركة أي ارتباط تنظيمي إداري بحركة الإخوان المسلمين، وما يتم الحديث عنه في هذا الأمر لا أصل له من البداية"، مؤكداً أنه حماس حركة تحرر وطني أجندتها وقيادتها فلسطينية، ومجال عملها ضد الاحتلال في فلسطين " [21]، وتعتبر مواقف وتصريحات وكتابات الدكتور احمد يوسف نموذجا لحالة وطنية متقدمة تتشكل داخل حركة حماس حتى وإن اعتبرها البعض نوعا من تقسيم الأدوار إلا أنها تترك صداها وتأثيرها في القواعد الشعبية التنظيمية للحركة ومناصريها.
وفي نفس السياق يمكن اعتبار ما قاله السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في ندوة نظمها مركز الجزيرة للدراسات في الدوحة يوم السبت 24 / 9/2016 تحت عنوان "التحولات في الحركات الإسلامية" يندرج في سياق المراجعات السياسية لحركة حماس. حيث اعترف بأن حركة حماس أخطأت عندما استسهلت حكم قطاع غزة واعتقادها بأن زمن حركة فتح قد انتهى، بالإضافة إلى كيفية تعامل الإسلاميين مع ما يسمى (الربيع العربي ). وقد سبق للسيد خالد مشعل في ندوة عن "الإسلاميين والديموقراطية" عُقدت في الدوحة 8/10/2012 أن طالب حركات الإسلام السياسي بأن تؤسس لنموذج معاصر للديموقراطية، قائلا: بأن "هناك فرقاً بين موقع المعارضة والحكم، بين التخيّل والافتراض والمعايشة والمعاناة، وفرقاً بين الناقد والممارس... وأن على الإسلاميين الاعتراف بأن الحكم أعقد مما كانوا يتصورون.
دون الخوض بكثير من الجدل ما إن كانت المراجعات السياسية لحركة حماس تعبير عن تطور ونضج حقيقي في التوجهات الوطنية للحركة أم مجرد مناورة والتفاف على المأزق الذي تعيشه داخليا وخارجيا، فإن الحركة اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تستمر في التموضع كامتداد لأصل خارجي وبالتالي قرارها خارجها مما يجعلها عرضة لمراهنات البعض من الأيديولوجيين الإسلاميين على جعل غزة الإقليم القاعدة لدولة الخلافة الموعودة وتستمر إسرائيل في ابتزازها، أو أن تنحاز لفلسطين وللهم الوطني وتعمل مع القوى السياسية الفلسطينية على استنهاض المشروع الوطني، وفي المشروع الوطني متسع للجميع والوطنية الفلسطينية لا تناصب الدين العداء، بل إن هذا الأخير جزء أصيل منها وأحد أدواتها في مواجهة المشروع اليهودي الصهيوني الاستعماري.
إذن من الجيد أن تقوم حماس بتوطين خطابها وتوجهاتها السياسية وأن تتعلم درسا من تجربة مريرة من التبعية لأجندة ومشاريع عابرة للوطنية. مراجعة حركة حماس لا يعني أن تلتحق بمشروع أوسلو أو حتى بمنظمة التحرير بواقعها الراهن، بل بالمشروع الوطني الذي يجب أن يُعاد تأسيسه بمشاركة الجميع، وهو مشروع يحتاج لروح المقاومة والصمود.
خاتمة
بعد ما وصل إليه حال المسلمين من فرقة وتناحر داخلي وسيطرة الفكر المتطرف فإن الأمر يحتاج ليس فقط لمراجعات جزئية من هذا الداعية أو الحزب الإسلامي او ذاك بل لثورة دينية، ليس ثورة ضد الدين ولكن ثورة من أجل موضعة الدين في الحياة السياسية بحيث لا نجعله محل اجتهاد وحقل تجارب لكل من هب.
وعلى المستوى الفلسطيني كان على حركة حماس الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية واختلافها عن الحالة العربية، بمعنى في الحالة العربية الشعوب أقامت دولتها ومشروعها الوطني، وبعض فئات المجتمع تريد أن تنقل المجتمع من مربع الدولة الوطنية الى مربع أشمل وهو الدولة أو الخلافة الاسلامية، لكن الفلسطينيين لم ينجزوا الدولة الوطنية بعد وما زالوا تحت الاحتلال ومهمتهم تحرير وطنهم أولا، وسيكون من المخاطرة القفز لمشروع الخلافة أو الوحدة الإسلامية قبل إقامة الدولة الوطنية وتحرير فلسطين.
اضف تعليق