هناك قلق في بعض الأوساط من أن تكون وتيرة التخطيط العسكري لاستعادة الموصل تفوق وتيرة التخطيط اللازم للتحقق من عدم سقوط المدينة في فوضى جديدة أو نزاع آخر بعد تحريرها، انا اتوقع ان الإدارة العراقية لاتمتلك مخططا متفقا عليه لحكم المدينة، ولا ردا إنسانيا شاملا، ولا إجماعا حول من سيقوم بتوفير الأمن للمنطقة بعد طرد الإرهابيين.
ثم إنه لا أحد يعتقد أن القوات الكردية التي تشارك بتحرير الموصل، لايمكن أن تحتل المدينة بشكل او بآخر، اما العرب السنة فانهم سيواجهون مهام كثيرة جداً تفوق حجمهم في الموصل، ناهيك عن الاقليات الاخرى التي ستصاب بالرعب من تقبل فكرة التعايش من جديد بعد المجازر التي اصابتهم، وعلاوة على ذلك، فإن القوات التركية داخل الموصل تزيد من تعقيد الوضع أكثر، والمعركة نفسها تعِد بأن تكون طويلة ودموية.
لكني قبل ايام سألت رئيس الوزراء حيدر العبادي عن ملامح الاستراتيجية الحكومية بعد داعش في الموصل؟ اجاب "هنالك خطة لن نعلن عنها لكن نحن نعتمد بشكل كبير على الحكومة المحلية الحالية والمحافظة على تنسيق الوضع الامني والاداري فيها" لكنه لم يتطرق الى حجم التحديات المقبلة التي اراها أكثر سقفا من ان تحدد بالاعتماد على مجلس محافظة منهك وسيفقد شرعيته بعد اشهر.
إن التخلص من التحدي العسكري يطرح امام، العراق جملة تحديات لايزال يواجها في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، اذ تسببت الحرب بتشريد آلاف من العراقيين ودمرت البنى التحتية، ولذلك يحتاج العراق إلى إعادة الاعمار والتنمية بشكل عاجل من أجل تخفيف المعاناة الانسانية، وإعادة تقديم الخدمات للمناطق المحررة، وعلاج أولئك الذين تعرضوا للصدمة ومنع حدوث حالة عدم استقرار مرة أخرى، ولكن سيكون صعباً على العراق أن يتحمل تبعات كل ما سبق مع وجود معاناة من آثار الحرب وانخفاض أسعار النفط؛ ولذلك فإن العراق سيحتاج إلى الحصول على الدعم لإعادة الاعمار والتنمية.
لكن اعادة الاعمار والبناء والمصالحة والعدالة الانتقالية تحتاج الى تثبيت رؤية حول تأثير توقيتات تنفيذ تلك السياسات وتسلسلها على نتائج الانتقال في مرحلة ما بعد الصراع.
اذ من الملاحظ في موضوع إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد الصراع عادة ما تميل الحكومات نحو برامج عمل ذات أفق ضيق، مركزةً على سياسات الإصلاحات السياسية أو الاقتصادية وهذا يقلل من شأن التعقيد الحقيقي في انتقالية المجتمعات ما بعد الصراع ويبقي الأبواب موصدة نحو الجوانب الأخرى من إعادة البناء، كإعادة بناء العلاقات الاجتماعية والثقة، فضلاً عن العلاجات النفسية التي دائما ما تكون حاضرة في تلك المجتمعات.
ولهذا لابد ان تسعى الحكومة والبرلمان لتشريع وصياغة عدد من القوانين الفعالة تتناسب ومستوى التحولات الطارئة والمتوقعة ولابد من السعي ايضا نحو خلق فهم حول نوعية البرامج والتدخلات المطلوبة لبناء السلام في الأوقات المعينة، مراعين بذلك أهمية التوقيت وترتيب الأولويات.
فهنا نحذر من أن حجم التحديات وتعقيداتها تدفع دوما صناع القرار ليعملوا بـالمنهج العشوائي ويقوموا بعمل كل شيء في آن واحد وبالنتيجة فهم لم يصنعوا شيئاً، فالوقت السياسي والاجتماعي مطلوب فمسألة الوقت الذي تعدُّه الحكومة والمساهمين لابد ان يكون كافياً بالنسبة للمجتمعات مابعد الصراع فالاختلاف في مفهوم الوقت قد يؤدي إلى قطع الصلة في السياسة بين الحكومة والمجتمع.
اذا لابد من ترتيب مجالات السياسة العامة والإجراءات التي تتخذها الحكومة في جدول الأولوية في مرحلة ما بعد داعش فيما يتعلق في التنمية الاجتماعية وتقليص الفقر في وسط الدمار المادي والاقتصادي والبشري الناجم عن الارهاب.
وانا استبعد ان يكون لدى صناع القرار العراقي القدرة على مواجهة هذه التحديات لكنهم سيعولون للنجاح بمسألة يتيمة وهي التأسيس الديموقراطي من جديد والتعويل على الانتخابات التي تستعمل كمقياس للنجاح؛ في مثل هكذا ظروف ولهذا سيتم التعجل بتنفيذها من دون إجراء التحضيرات اللازمة، وهذا من دون المشاركة أو المصالحة الحقيقية سيكون قوة تدميرية بحد ذاته، ولذلك يفضل قبل التعجل بإجراء الانتخابات تفعيل موضوع المصالحة ومعالجة الصدمة، والجروح النفسية والشخصية والروحية على نطاق واسع من أجل ترسيخ التعايش السلمي، كما لابد ان نتعامل مع التعليم الهادف لترسيخ قيم التعايش والسلام بمرحلة ما بعد داعش على محمل الجد، فاذا غيبت الفرص التعليمية، فليس هنالك حاجة إلى البناء والاصلاح والتعايش، لان إعادة البناء الاجتماعي في ظل هذه الأجواء المعقدة بمرحلة ما بعد داعش تحتاج الى نظام تعليمي كفوء ورصين وهادف يحاكي متغيرات المرحلة.
والاهم من ذلك كله لابد علينا ان لانخلط ونمزج بين العدالة الانتقالية والمصالحة اذ أن أي مشروع مصالحة يجب أخذه بحذر...
عموما بعد التخلص من التحدي العسكري لابد ان نفكر بجدية، كيفية تجنب تكرار الكوارث التي حصلت السنوات القليلة الماضية، واتخاذ خطوات ملموسة وإعادة إعمار وتطوير دائمي للمجتمع المحررة من داعش مع وجود هذه التحديات والمعاناة ناهيك عن الخلافات السياسية العراقية والاقليمية والدولية حول مستقبل الموصل بل ومستقبل العراق ستكون هناك حاجة ماسة الى وجود دعم خارجي اممي ودولي بلا حساسيات وعوارض وهذا سيفتح باب اعادة التموضع الدولي والاقليمي في الشأن الداخلي العراقي، وسيكون هذا الخيار ربما هو الخيار الوحيد المتاح امام الحكومة الاتحادية لكنه سيكون بوابة للتحكم بالمسارات السياسية المستقبلية المطروحة للعراق من القوى المتصارعة في المنطقة والغلبة لمن يمتلك ادوات النفوذ والقدرات التفاوضية والميدانية.
* الدكتور احمد الميالي باحث مشارك في ملتقى النبأ للحوار واستاذ العلوم السياسية جامعة بغداد
اضف تعليق