تابعنا في الأيام القليلة الماضية، بقلق كبير ما حدث من تصادم بين العراق وتركيا على أعلى المستويات، وسبب تواجد قوات تركية في منطقة بعشيقة العراقية القريبة من الموصل، فتركيا تقول أنها دخلت بموافقة الحكومة العراقية والأخيرة تنفي ذلك، وبلغ التصاعد أوْجهُ عندما بدأ أعلى شخصين في السلطة التنفيذية للبلدين بتحويل هذا التصادم الى ما يُشبه التضاد الشخصي.
فقد حاول أوردغان الرئيس التركي، أن يقلل من شأن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، وقال في تصريح مباشر له (أنك ليس في مستواي)، قاصدا بذلك الرئيس العبادي، وهذا في الحقيقة تصريح قلما يتورط به رئيس دولة لها تأريخ معروف كتركيا، كذلك كان لرئيس الوزراء حيدر العبادي ردّه لهذه التصريحات بطريقة أوردغان أو تقترب منها.
من الغريب حقاً أن يتابع العالم مثل هذه التصريحات من رؤساء دول، والأكثر غرابة أن يذهب الطرفان الى تصريحات غير محسوبة قد تذهب بالبلدين الى حرب شعواء لا تبقي ولا تذر، لاسيما أن عالم اليوم يغص بالتوترات المستمرة، وكأنه اعتاد على اشتعال الحروب في أية لحظة، فلم يعد هذا العالم يكترث للصراعات ولا للأرواح التي يتم إزهاقها ظلما، خاصة من الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذه الحروب، كذلك لا يحسب حساب الممتلكات العامة والخاصة وتعريض المصالح الكبرى للخطر.
في تربيتنا الاجتماعية والأسرية تعلّمنا أن هناك كبيرا للقوم، وهذا الكبير سمّي بهذا الاسم لأنه الأكثر رجاحة بين أفراد قومه، من حيث الحكمة والتعقل ومعالجة المشاكل بأقل الأضرار، لدرجة أن الكبير يستطيع أن يطفئ النار التي تستعرّ بين طرفين من قومه مهما كان حجمها او درجة اشتعالها وتعقيدها، ولهذا السبب يستحق هؤلاء الكبار هذا اللقب.
ولكن عندما ينسى الكبير وظيفته، ويذهب بشعبه نحو حافة الحرب، ويتحول من كبير حكيم ذي عقل راجح، الى عامل مؤجج ومساعد على الحروب والنزاعات، ولا يهمه النتائج الكارثية التي ستلحق بشعبه فعند ذاك لن يكون كبيرا، ولعلنا ندرك أن الشعوب هي التي تكتوي بنيران الصراعات أكثر من قادتها، إن ما فعله أوردغان يؤكد بأنه لا يستحق صفة كبير القوم، وأنه بتحويله لمشكلة بين دولتين جارتين الى قضية شخصية، أثبت بأنه لا يتحلى بما ينبغي أن يتحلى به الكبار.
في السياق المقارب، كان من الأفضل للجانب العراقي ممثلا بالسيد حيدر العبادي، أن لا ينزلق في هذا المنزلق الذي أعدّه أوردغان عن قصد أو من دونه، وأن ينأى بنفسه بعيدا عن شخصنة هذه المشكلة التي توجد لها عشرات الحلول عبر القنوات والمنظمات الدولية وعشرات الحلول الدبلوماسية المتحضّرة، ولكن ما جرى وما شاهده العالم كان يؤكد أن ما حدث لا علاقة له بأية رؤية دبلوماسية تكبح الجنوح الى التصادم، والمفارقة أن الدولتين تدينان بالدين الإسلامي الذي يطالب المسلمين وغيرهم بالجنوح الى السلم، ومعالجة المشاكل بأسلوب (ادفع بالتي هي أحسن).
موقف الاعلام والمحللين السياسيين
لا يثير الاستغراب ذلك الدور الذي لعبته بعض وسائل الإعلام الدولية والإقليمية المدرَّبة جيدا على الإصطياد بالماء العكر، من أجل توريط الأكثرية من الشعبين وإدخالهم في نفق يقودهم الى القبول بتفاقم المشكلة وليس طريق حلها، ولعل الملاحظ على المحللين السياسيين كما تابعنا ذلك على قناة البي بي سي العربية التي تبث من لندن مثالا، أنهم في الغالب لم يكونوا بالمستوى المسؤول الذي ينبغي أن يرتقي إليه المحلل السياسي.
فالمعروف أن المحلل السياسي ينبغي أن يتحلى بالحيادية وبعد النظر والذهاب الى الحلول الأكثر عمقا والأقل ضررا في معالجة المشاكل الدولية من أي نوع كانت، ولكن لاحظنا أن دور أولئك المحللين وتحليلاتهم كمن يصب الزيت على النار بدلا من أن يقلل من حرائقها او يطفئها، وكان هناك نموذج من المحللين الأتراك يدفع بقوة الى تأجيج مشكلة القوات التركية في بعشيقة، وكان يستقتل بالدفاع عن هذه الخطوة، وحمل الجانب العراقي كل أعباء المشكلة من بدايتها حتى نهايتها، وعندما كان يصرّح ويحلل بعصبيته الواضحة، كنا نعتقد أن الحرب بين البلدين لا مفر منها او هي قاب قوسين أو أدنى.
ترى هل هذا هو دور المحلل السياسي النزيه، المسؤول عن أمانة كبيرة تتعلق في المساهمة بصنع أفضل الظروف ونشر أفضل القيم لجعل العالم أكثر أمنا، لا أن يكون دوره معاكس تماما، كذلك الحال بالنسبة لبعض القنوات التلفازية والإعلامية الأخرى، فهي أيضا قامت بدور المؤجّج للأحداث بدلا من صبّ الماء عليها.
لا شك أن الدول من حقها أن تدافع عن مصالحها المشروعة، وأن الجهد السياسي مع الاعلامي ينبغي أن يتآزر معاً لكي يحقق هدف، بل ينبغي أن تتآزر جميع الجهود في هذا الإطار، ولكن لابد أن تكون هناك رؤية سليمة لكيفية إدارة الأزمات والمشاكل بين الدول، فالعراق الذي اكتوى بنار سلسلة من الحروب المدمّرة، ليس من صالحه أن يدخل في صراع مسلح مع أي طرف كان، أما تركيا فهي ليست أفضل حالا من العراق، وإن كان أوردغان يظن أن العراق ليس بتلك القوة القادرة على مواجهة تركيا، فإنه ينزلق في توقّع واهم.
آفاق الحلول الناجعة للمشاكل الدولية
ثمة آفاق واسعة وسبل كثيرة وخيارات لا تُحصى أما السياسيين الكبار من قادة الدولة، شريطة عدم الانزلاق في شخصنة هذه المشكلات، وعدم التسرع في اطلاق التصريحات، والعمل بأقصى ما يمكن لاحتواء التصادم بالطرق السلمية، ولعلنا نلاحظ مثل هذا الاسلوب الحكيم لدى أكبر دول العالم وأكثر قوة وأكبرها حجما من حيث الترسانة النووية وسواها، فعلى سبيل المثال، لم نلاحظ أوباما بكل ما تمتلك أمريكا من قوة، لم نلحظ أنه دخل في صراعات فردية مع رئيس آخر، ولم يحاول أن يستفز أصغر دولة في العالم.
السؤال، لماذا يقوم أوردغان باستفزاز دولة يظن أنها أضعف من دولته، ألا يعني ذلك وجود خلل في مقاييس الرئاسة والقيادة، كذلك الحال، لماذا يتحول بعض الساسة العراقيين في مواقفهم الى مجارين لأوردغان في فعله هذا؟، ولماذا لم يكن أولئك المسؤولون أكثر قوةً من أوردغان، ويذهبوا الى السبيل الأسلم (إدفع بالتي هي أحسن)، ويجنحوا صوب السلم، ولا يجاروا أوردغان فيما ذهب إليه من تعقيد وتأجيج للمشكلة.
إن حلول المشكلات الدولية تستدعي خطوات تنسجم مع الموقع القيادي الأول في المعالجة، ولابد من اتخاذ خطوات تبتعد عن شخصنة التصادم ومنها:
- لم يعد العصر الحالي مناسبا للحروب، إذ ينبغي أن تكون حقب الحرب قد انتهت وصارت في خبر كان.
- انتهاج سياسة احتواء التصادم والنزاعات بدلا من تأجيجها.
- لا يليق بالقادة الكبار أن يتحولوا من قادة دول الى مصارعين فرديين في حلبة واحدة.
- على من يستصغر الآخر، أن يدقق أكثر بالنتائج الفادحة التي خلفتها الحروب بين الدول.
- لا ينبغي توريط الشعوب بالميول الشخصية للقادة، فالحاكم الدكتاتور لا يخوض الحرب بسيفيه، بل سيكون الشعب هو حطب الحروب تحقيقا لرغبة الدكتاتور.
- لا ينبغي إشعال الحس الشعبوي واستغفال الشعب وتوظيفه لصالح ما يريد ويبتغي القائد الأعلى.
- اللجوء الى الحلول الدبلوماسية كخيار لا ينبغي إهماله بين الدول مطلقا.
- لا يصح للشعوب التي اكتوت بنيران الحروب أن تصفق لقادتها وتدفعهم صوب التصادم.
- من غير الملائم للإعلام وخاصة المحلي والإقليمي أن يلعب دور المؤجج للصراع بدلا من المساعدة في التهدئة.
- جميع التجارب البعيدة والقريبة تقول بترجيح الحكمة والتعقل والدبلوماسية على سياسة التصادم.
اضف تعليق