المتعارف عن الجماعات الإرهابية انها تختار مناطق ذات رمزية لدى جمهور او فئة اجتماعية معينة، لتلحق بها أكبر ضرر مادي ومعنوي وهو الغاية الأهم بالنسبة للإرهابيين، واستهداف المناطق التي تحظى بشعبية مهم أيضا لتحقيق تغطية إعلامية واسعة، إذ يوفر الحدث اغلب الشروط اللازمة لتغطيته، إذا ما اخذنا في الحسبان ان الاعلام بات يركض وراء الاحداث الصادمة لكونها صادمة فقط! متناسيا الرسالة التي يحملها تجاه المجتمع، وهي ثغرة تستغلها الجماعات الإرهابية بفعالية.
في العراق حيث تكون الاخبار الأمنية في المقدمة يتحول الانسان الى رقم في نشرات الاخبار بضغطة زر لإرهابي يسابق الزمن "للحصول على عشاء مع الأنبياء في الجنة" بحسب شريعة التكفير والقتل الوهابية. الأسواق والأماكن العبادية ودوائر الدولة هي الهدف الدائم للجماعات الإرهابية منذ ان بدأ النشاط الاجرامي لتلك الجماعات، ولان تكرار الجريمة يؤدي الى فقدان عامل الصدمة الذي يستوجب التغطية الإعلامية، "التي تعد الهدف الأهم بالنسبة للإرهاب من اجل اخافة اكبر عدد من المواطنين، فضلا عن إبقاء اسم المنظمة او الجماعة الإرهابية على أولويات احاديث الناس، لتحصل في النهاية على متعاطفين وربما اعتراف شرائح واسعة بوجودها"، فقد لجأت الجماعات المتطرفة الى ابتكار أساليب جديدة تبقيها طافية على سطح النقاشات الرسمية والشعبية.
الأساليب الجديدة كانت واضحة عندما حولت الجماعات المتطرفة مسار عملياتها من استهداف الرموز والأماكن الدينية والتراثية الى صناعة تلك الرموز واستهدافها بشكل متكرر، فسيطرة الاثار الواقعة في محافظة بابل كانت شاهدا على هذه الاستراتيجية الإرهابية، إذا غالبا ما تستهدف بسيارات ملغمة ذات كميات تفجيرية هائلة لتثير الرعب والخوف لدى المواطنين، وقد تكرر هذا المشهد أكثر من مرة حتى باتت تلك السيطرة شديدة التحصين رمزا للفشل الحكومي الذي صنعته الة القتل والإرهاب.
مدينة الكرادة اصحبت هي الأخرى رمزا صنعته الجماعات الإرهابية من خلال التفجير الذي ضربها قبل حلول عيد الفطر الفائت، واستفادت من الحجم الكبير لردود الأفعال المحلية والعالمية التي غذت هذه الرمزية للمدينة التي جعلت أي استهداف لها يثير الفضول والتعليقات والمناشدات، بالإضافة الى الضغط الشعبي والسياسي على الحكومة لوضع خطط كفيلة بمنع هكذا اعتداءات. كل هذه العوامل تسهم في ترسيخ الرمزية للمدينة وتجعلها غنيمة للإرهابيين لا يمكن التفريط بها، ولم نستغرب الاعتداء الذي ضرب الكرادة لسببين:
1- ضعف الإجراءات الأمنية: فالإجراءات التي قالت الحكومة والجهات الأمنية انها وضعت لمنع تكرار اعتداء مماثل لما بات يعرف بـ"اعتداء الكرادة الدامي"، لم تكن لتتجاوز ردود الفعل على الغضب الشعبي وهي لا تلبي الاحتياجات الأمنية للمدينة، وكانت عربات كشف المتفجرات الحديثة غير كافية لذلك، فالأزمة الامنية بحاجة الى حلول شاملة، ونصب عربات كشف المتفجرات على مدخل الكرادة من جهة نصب كهرمانة فقط غير كافية ابدا ولا تتجاوز حدود الترقيع والاستهلاك الإعلامي، فقد اغفلت الجهات الأمنية مناقشة حجم الاختراق الحاصل في صفوفها والذي يراه مراقبون بانه أساس الازمات الأمنية المتفاقمة.
2- رمزية المكان التي صنعها الاعتداء الأول: وكما هو واضح للجميع ان ردود الأفعال على اعتداء الكرادة الأول كانت كافية لتخلق رمزية لحجم الظلم والقتل الذي يتعرض له الشعب العراقي، فضلا عن كونها رمزا لحجم الفشل في إدارة الملف الأمني من قبل الحكومة العراقية، ولا ننسى ان التفجير الأول والثاني الذي حصل ليلة الثلاثاء كانا قُبيل العيد بأيام، وبالتالي فان التفجير كان متوقعا لكونه سيحظى بتغطية إعلامية ترفع من معنويات مقاتلي الجماعات الإرهابية.
الأجهزة الأمنية العراقية وكما يقول الخبير الأمني الدكتور هشام الهاشمي في صفحته على فيس بوك بانها لم تكن تبحث عن خطط امنية او اجراء تحقيق بأسباب الاعتداء الإرهابي؛ بل كانت تعول على انتصار المنتخب العراقي على نظيره السعودي لينسى المواطن هذا الخرق الأمني، ولذلك وبحسب الهاشمي فان الساعات والأيام المقبلة ستشهد الترويج لعملية امنية غير موجودة يروج لها إعلاميا لتغطي على ما حصل في الكرادة. ولم نذكر هذا المثال لجلد القوات الأمنية او التقليل منها، فدورها بحفظ الأمن يشهد له القاصي والداني لكن ذلك لا يعني نسيان الخروقات التي يكون غالبا سببها بعض القيادات الأمنية عديمة الخبرة او عديمة الاهتمام بأرواح الناس وربما بعض القيادات التي لا تعمل لصالح البلد أصلا، مستفيدة من الغطاء السياسي للحزب الذي تنتمي اليه.
الجماعات الإرهابية تسير اسرع من البرق لحصد اكبر عدد من أرواح العراقيين فيما القوات العراقية تسير كالسلحفاة المرهقة لتتبع تلك الخطط، وبعد ان أصبح تفجير الرموز التاريخية غير مجديا تقوم تلك الجماعات المتطرفة بصناعة تلك الرموز بنفسها وضربها وحينما يتحول التفجير في المكان "الرمز" امراً معتادا فإنها ستبحث عن مكان اخر تصنع منه رمزا للقتل والفشل الحكومي وبما ان الكرادة لم تصبح حتى الان مكانا اعتياديا للتفجيرات، فلا غرابة ان نشهد تفجيرات أخرى، وكل ما نتمناه ان تكون هذه التوقعات غير صحيحة فمشاهد الدمار في العراق تدمي حتى القلوب المتحجرة.
اضف تعليق