صوت مجلس النواب العراقي بأغلبية الأصوات الخميس 25 أغسطس/آب، لصالح سحب الثقة من وزير الدفاع خالد العبيدي بعد سلسلة اتهامات بملفات فساد قدمها ضده نواب من كتلة دولة القانون بدأتها حنان الفتلاوي في العام الماضي وختمتها عالية نصيف. وجرت عملية اقتراع سري على الورق، صوت خلالها 142 نائبا مع سحب الثقة مقابل 102 نائب ضد الإقالة.
الوزير المقال دافع عن نفسه في ساحات البرلمان والراي العام، مثل جندي محترف، بأسلوب ابهر الكثير حتى كُتِبَتْ الكلمات والمقالات المشيدة بأدائه، واستطاع رد الاتهامات باتهامات مضادة على نواب البرلمان ولم يسلم من هجومه حتى سليم الجبوري، فجاء الجواب بعدم القناعة بأجوبة الوزير وغياب الأدلة والوثائق التي تثبت تورط من اتهمهم.
وكما هو متوقع انقسم الراي العام العراقي بشكل متقاطع حول الإقالة والياتها والاولويات التي كان الاجدر ان تناقش، وارتفعت حدة السجال السياسي ومعه الشعبي الى مستويات عالية أدت الى نسيان الكثير من المشاكل التي كانت في الأمد القريب هي الشغل الشاغل للشعب العراقي، وحلت لغة التصعيد مكان الإصلاح وجاءت المقارنات والتشبيهات بين ملفات الفساد المختلفة لتعطي بعض الافضليات لطرف على اخر.
الفريق الذي رفض الإقالة "اعتبرها عقابا للكفاءات المفقودة في دهاليز الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 وحتى الان"، وتم تحشيد كافة الطاقات الممكنة لإدانة ما قام به مجلس النواب باعتباره أصبح أداة لتنفيذ سياسات للدول الأخرى بحجة الإصلاح، وذلك من خلال نواب صمتوا عن إخفاقات وزارة الدفاع منذ سنوات وألقوا بكامل ثقلهم لإقالة العبيدي لأنه رفض الانصياع للوضع السياسي القائم ولم يعترف بقوانين المحاصصة المعمول بها في المنطقة الخضراء، متناسين انهم اول من دعا لمحاسبة جميع وزراء الحكومة من "دون استثناء". وهذا التناقض لم يسلم منه دعاة اقالة وزير الدفاع الذين وقعوا أيضا في تناقض فاضح، ففي السابق كانوا يرفضون مناقشة هكذا قضايا منها ما يتعلق بوزير الدفاع السابق او الوزراء المشاركين في الحكومة السابقة بذريعة تهديد الامن والسلم الأهلي لاستمرار الحرب الإرهابية ضد الشعب العراقي.
السيد مقتدى الصدر قائد التظاهرات الشعبية والذي عرف عنه عبارته المشهورة "شلع قلع" اتهم مجلس النواب، بالفساد ودعم الفاسدين قائلا في بيان له "إن البرلمان أثبت فساده بنفسه، بل وأثبت أنه داعم لمن يدعم الفساد من الحكوميين ويعادي من يكشف الفساد". وخاطب الصدر النواب قائلا "على كل الشرفاء في البرلمان وعلى كل محب لوطنه، إن بقي فيهم من يعرف معنى الوطن والدين، أن يسعى لدعم رئيس الوزراء من أجل أن تكون تلك الوزارتين لأشخاص مستقلين".
مراقبون للشأن السياسي العراقي اتفوا على ان خالد العبيدي كان من الشخصيات التي ادارت وزارة الدفاع بكفاءة عالية في اشد الظروف قساوة على البلاد، حيث كانت ولا زالت تواجه اشد الجماعات الإرهابية اجراما، وتم تحرير الكثير من الأراضي تحت إدارة واشراف وزارة الدفاع التي استطاعت تنسيق الجهود بين الجيش العراقي والحشد الشعبي والقوى الأخرى الساندة للجهود العسكرية لمحاربة داعش، وهذا بحد ذاته يعد إنجازا يجب ان يضعه مجلس النواب في ميزان انجازات العبيدي لا سيما وان الحرب لم تنتهي بعد ومعركة الموصل قد تكون الأصعب بحسب الخبراء العسكريين.
ورغم ان اقالة العبيدي كانت متوقعة لكنها افرزت وضعا سياسيا يمكن ان يوصف بالجديد وذلك لسببين:
1- كشفت عملية الإقالة وما سبقها من تمرد برلماني على رؤساء الكتل السياسية عن نضج سياسي وقدرة لدى بعض النواب على تحريك قضايا كبيرة بعيدا عن الأعراف السياسية السائدة والتي تشترط موافقة رؤساء الكتل قبل المضي في أي مشاريع سياسية، وهذا بحد ذاته سيوفر البيئة الإيجابية لولادة برلمان عراقي يستطيع تمثيل الشارع العراقي حتى وان جاءت عملية الإقالة التي تبناها بعض النواب لأسباب انتقامية اكثر منها مهنية، لكن الأهم في كل ما حدث هو كسر هيبة رؤساء الأحزاب وإعطاء حرية اكبر للنواب وهذا الوضع ستتضح معالمه في الدورة البرلمانية المقبلة.
2- ما قام به مجلس النواب أكد ان طريق الإصلاح ليس معبدا كما يعتقد بعض المتابعين وقد تم ضرب المنادين بمشروع الإصلاح من نفس جنس الشعارات التي خرجوا بها، وكان النواب الذين اقالوا العبيدي اعطوهم رسالة مفاده "انكم أيها الإصلاحيون تطالبون بتفعيل مجلس النواب وها نحن قد فعلنا عملنا، وتريدون اصلاحا جذريا لجميع الشخصيات الموجودة بالحكومة وها نحن بدأنا بالتغيير من وزير الدفاع رأس الهرم الأمني في البلاد". وهذا جعل دعاة الإصلاح في موقف محرج واسهم في اخراج رافضي الإصلاح من الزاوية الضيقة التي حشروا فيها سابقا، فإقالة الوزير العبيدي تعطيهم دفعة قوية للأمام.
لا يمكن لعملية الإصلاح ان تنجح في ليلة وضحاها ومخاض الديمقراطية في العراق سيطول أكثر، لكن ولادتها ستكون حتمية لا محال إذا ما استمر الضغط الشعبي على هذا المستوى من الرفض والنقاش لمختلف القضايا السياسية. نقاشٌ حتى وان طغت عليه العاطفة والانحياز أكثر من النقاش العقلي والموضوعي، الا ان هناك قاعدة تقول "ان الكم يولد النوع"، وبالتالي فنحن مقبلون على بزوغ فجر جديد يزحف ببطيء نحو عمق العملية السياسية وقوده استمرار الحراك الشعبي، والتمرد البرلماني على قادة الأحزاب والكتل الكبيرة.
اضف تعليق