عندما نسمع بالقرار الاميركي غير المفاجئ بالتخلّي عن دعم "التحالف السعودي" في حربها ضد اليمن، وحديث الناطق باسم البنتاغون عن الحاجة إلى تقليص الخسائر في صفوف المدنيين إلى الحد الأدنى"، نعرف أن الضحايا المدنيين، لاسيما الاطفال منهم، ليسوا فقط الحلقة الأضعف في الحروب، إنما هم ايضاً، الوسيلة الأقل كلفة لممارسة الضغوط السياسية في الوقت المناسب.
حديث هذا في اليمن، كما يحدث بالتزامن، مع أطفال سوريا واطفال العراق، واطفال البحرين، وبلاد أخرى تشهد سقوط الاطفال ضحايا الحروب والنزاعات السياسية، فالطفل في هذه البلدان وغيرها، يتعرض للموت بأبشع الصور، كما يتعرض للعوق الجسدي وجملة من المشاكل المتاعب النفسية بسبب التشريد والترهيب والجوع والمهانة، وفي الوقت نفسه، نراه يتحول فجأة الى ورقة ضاغطة تدين المسؤول عن كل هذه المآسي والويلات، فهل هذه هي المكانة الحقيقية للطفل في بلاد الحضارات والثروات؟ و أي مستقبل للشعوب مع أطفال اليوم وكبار الغد؟.
مستقبل الاطفال: عوق جسدي وآخر نفسي
بهذه العبارة المقتضبة عبّر طبيب محبط في إحدى مستشفيات صنعاء، وهو يروي كيف أن المستشفى التي يعمل فيها تستقبل يومياً بين خمسة الى ستة أطفال مصابون جراء القصف الجوي العشوائي لما يسمى بطائرات التحالف بقيادة السعودية، وتحدث عن أن الجيل القادم في اليمن، إما يكون معوقاً جسدياً وإما معوقاً نفسياً.
وحسب المصادر فان حوالي 4005 طفلاً في اليمن سقطوا بين قتيل وجريح منذ بدأ القصف الجوي للطائرات التي تمولها السعودية، وتشير الاحصائيات الى أن نحو 2107طفلاً قضوا بفعل هذه الغارات، فيما أصيب 1898 طفلاً بجروح.
وأظهرت التقارير أن نحو 21988 طفلاً يتعرضون للرعب يومياً جراء عمليات القصف الجوي، إلى جانب حرمان قرابة 3،4 مليون طفل من الذهاب إلى المدارس، و 6،5 طفل حرموا من التعليم لمدة ثمانية أشهر منذ عام 2015 وقرابة نحو 10،5 مليون طفل بحاجة إلى المساعدات الإنسانية العاجلة.
ولابد ان نتذكر دائماً إن إنصاف أطفال الحروب يكون فقط بغض الطرف عن السبب او المسبب، الطفل الذي يرى للمرة الاولى الدماء تسيل من جسده، او أن أحد اطرافه قد بترت، او فقد ذويه وتم استخراجه من تحت الانقاض، يشعر بحالة واحدة فقط لا غير؛ أنه ضحية لهذه الحرب التي "لا ناقة له فيها ولا جمل".
ففي مدينة عدن التي تنازع عليها طرفا الحرب باليمن، يتحدث فتى يافع ذو السادسة عشر من العمر، كيف أن جماعة جاءت الى داره ليلاً، وعندما فتح لهم الباب ألقوا اليه مسدساً وقالوا له: تصرف كرجل واتبعنا...! بمعنى؛ إنس التعليم والدراسة ومستقبلك، وانتبه الى ساحة المعركة التي يخوضها الكبار.
وهكذا الحال بالنسبة لأطفال سوريا الذين يفوقون اقرانهم في اليمن وبلاد أخرى في تقديم قوافل الجنائز الصغيرة، إذ بلغ يبلغ عدد الضحايا الاطفال حوالي 13ألف قتيل، من مجموع حوالي 250ألف قتيل بين عسكري ومدني منذ خمس سنوات من الحرب.
ولعل الآثار النفسية على الاطفال الجرحى ومن يستخرجون من تحت الانقاض، ومن شهدوا حملات الهجرة عبر الجبال والبحار مروراً بمخاطر الموت في الطريق، تكون أشد وطأة على عليهم، فالذاكرة الطرية للطفل التي يفترض ان تخصص لأجواء التعلم والتربية والابداع، نجدها اليوم تحفظ مشاهد الاشلاء المقطعة لأفراد العائلة في عمليات القصف، او الخوف المرير من أصوات الانفجارات، يكفي أن نعرف أن نحو 3.7 مليون طفل، أي طفل من بين ثلاثة في سورية، ولدوا منذ بدء النزاع في آذار/مارس 2011، لم يعرفوا إلا العنف والخوف والنزوح. ويشمل هذا الرقم أكثر من 151 ألف طفل ولدوا كلاجئين في زمن الحرب.
هذا المآل المحزن للاطفال يستدعي جهوداً سريعة من منظمات مجتمع مدني ومؤسسات ثقافية ودينية لأن تفكر وتخطط أولاً؛ في كيفية استيعاب هؤلاء الاطفال المتضررين نفسياً من الحروب والتشرّد، ثم تقديم البرامج العملية لإزالة الآثار النفسية السيئة، من خلال إثارة المواهب والابداعات، وتوفير أجواء التعليم والتربية على ثقافة العيش المشترك واحترام الآخر وتحمّل المسؤولية.
البحث عن الحل وليس فقط عن المسؤول
الاوساط السياسية في بعض البلاد التي تحمل قضايا عادلة، تتهم وتدين أطرافاً أخرى بانها المسؤولة عن انتهاك حقوق الطفل والتسبب في كل هذه المآسي التي يمر بها في بلاد الحروب والنزاعات المسلحة.
وطالما أن القضية انسانية بامتياز، فان الجميع يبرأ نفسه من دماء الاطفال والتسبب في إيذائهم، وهذا ما نلاحظه في سوريا واليمن والبحرين والعراق، ونلاحظ التراشق الاعلامي في هذا المجال على قدم وساق عبر القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تعرض الصور المؤثرة لاطفال صغار بين قتيل وجريح ومشرد، وهم في دوامة؛ بين القول أنهم ضحية هذا النظام السياسي، وبين القول أنهم ضحية الاعمال الارهابية لتلك الجماعة.
وبغض النظر عن الدوافع والاهداف من هذه التعبئة الاعلامية، فان النتيجة التي تهم الطفل تحديداً، الحال الحاضر والمستقبل وما يرجوه من بصيص أمل، وإلا ما الذي يفيد الطفل اليمني او السوري او العراقي مشاعر المواساة التي يطلقها الكثير بلمسة أصبع خفيفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي على هذا المنظر المؤلم او ذاك؟
إن البرامج العملية والمشاريع التنموية لاطفال الحروب هي التي تمكنهم من معرفة السبب الحقيقي وراء الويلات التي تعرضوا لها، وفي الوقت يتعرفوا على المجتمع الذي حولهم والذي ينتظر منهم المشاركة الفاعلة في حياة جديدة.
ولو ألقينا نظرة خاطفة على التجربة الكردية في العراق، وجدنا حجم الخسارة الكبيرة لجيل مضطهد كان يفترض ان يؤدي دوراً بناءً في مستقبل شعبه، ففي سني الثمانينات تعرض الطفل الكردي الى معاناة رهيبة، ربما لم يسبقه أقرانه في دول المنطقة، حيث التعرض للموت خنقاً بالغازات الكيمياوية والقتل والابادة الجماعية فضلاً عن حملات النزوح عبر الجبال والوديان والعيش تحت الخيام لفترات طويلة.
واليوم يفترض اننا أمام جيل جديد نتاج أولئك الاطفال الذين مُلئت صحف العالم ووسائل الاعلام في ثمانينات القرن الماضي بصورهم المأساوية وما صنعه بهم نظام صدام البائد، فأين هم الآن؟
انهم يعيشون في اقليم كردستان العراق التي تحظى بأجواء اكثر أمناً واستقراراً قياساً بما يجري في العراق وسوريا وحتى تركيا، ولكن؛ لمن يقتفي أثر الشباب الجامعي في هذا الاقليم الذي يشهد نسبة من الرخاء والرفاهية، يصاب بالصدمة، حيث يتركز تفكير هؤلاء الشباب نحو الهجرة الى الغرب للخلاص من شبح البطالة والفراغ القاتل، واشار مراقبون وخبراء الى فشل المسؤولين الحكوميين الكرد وايضاً مؤسسات المجتمع المدني في ايجاد حلول وبدائل لهؤلاء الشباب الذين فتحوا اعينهم على التشرد والقتل والرعب، واليوم حيث ينعمون بأجواء الحرية والرفاهية، ولكنها تبدو مجرد نسمات بعيدة عن واقعهم الذي يعيشونه، إذ لا فرص عمل ولا مشاريع تنموية ولا أجواء مساعدة على الابداع والتطوير، فكل شيء في خدمة السياسة والسياسة وحسب.
اضف تعليق