تجاوزت النصف قرن من عمري، ولأني متابع لأحوال بلاد النهرين منذ وعيت، اصلح "كما اعتقد مع نفسي" ان أكون شاهدا على تلك المسيرة لهذا البلد الذي طحنته الحروب وويلات الاستبداد..
ليكن انقلاب العام 1968 هو البداية، والذي اطلق عليه البعثيون تسمية (ثورة 17 – 30 تموز المجيدة). وهو انقلاب وليس ثورة تبعا للموضة السائدة آنذاك في البلدان العربية. مجموعة من الضباط تقود دباباتها باتجاه القصر الجمهوري ومبنى الإذاعة والتلفزيون ثم تعلن بيانها الأول باسم الشعب والجماهير الكادحة والمظلومة (وهلم جرا من هذا الخرط). ولما كان الجمهور في كل مكان وزمان من بلداننا إمّعات يتبعون كل ناعق، حدث ذلك وخرج العراقيون يهتفون بحياة القيادة الجديدة.. اكو امل..
بعد سنتين يكشف قادة الانقلاب عن توجهاتهم، حفلات اعدام لما تبقى من يهود العراق ومجموعات من المعارضين بتهم التجسس والخيانة العظمى. وكان يقال أكو امل..
في العام 1973 يشترك الجيش العراقي في حرب تشرين ضد إسرائيل، وتذهب قطعاته الى الجولان ودمشق لحمايتها من السقوط، وقسم من تلك القطعات لا تعود جثامينهم الى ارض بلاد الرافدين، تدفن هناك في ارض غريبة رغم انها عربية. وقيل يومها: اكو امل..
طيلة السبعينات انشغل رجال الثورة المجيدة بتطهير العراق من المعارضين لخط الثورة، ثورة الفلاحين والعمال والكادحين، وانشغلوا بالقتال مع الاخوة الاكراد، حتى لم تبق طلقة واحدة يستخدمها سلاح الطيران (حسب شهادة قائد الرفاق صدام حسين)، وكانت معاهدة الجزائر وتخلي ايران عن دعمها للأكراد وتنازل العراق عن شط العرب، وقيل اكو امل..
في العام 1979 تنفجر الثورة الإيرانية، وبعدها بعام واحد يقف الرفاق البعثيون في وجه تصدير الثورة، كما قيل يومها، الى باقي البلدان العربية، فالعراق حارس البوابة الشرقية، سنتان اسكرت الانتصارات القيادة العراقية، وكان يقال اكو امل..
بعد السنتين، استمرت الحرب رغم انسحاب العراق الى حدوده قبل الانتصارات الخاطفة، تحت تسمية (انسحابات تكتيكية)، ولم تتوقف الحرب بل أصبحت اكثر دمارا وشراسة وعنفا، وكان يقال اكو امل..
احلى احلامنا وسنواتنا وشبابنا وزهونا ضاعت على السواتر الامامية وفي الخلفيات لجبهات القتال، وكان يقال لنا اكو امل..
ولا ننسى في سنوات السبعينات والثمانينات حملات التسفير والاعتقالات والاعدامات، والتعذيب واحواض التيزاب لتصفية الخصوم من الإسلاميين والشيوعيين وحتى رفاق الدرب من البعثيين وكل معارض ولو بشطر كلمة، ورغم كل تلك التضحيات والدماء المسفوحة كانت الجماهير تنساق خلف مقولة اكو امل..
وضعت الحرب اوزارها في العام 1988، وفرح العراقيون رغم كل احزانهم التي عبّدت الحرب طرقها في قلوبهم، لانهم هذه المرة مثل كل مرة صدقوا بانه "اكو امل" يستحق العيش والقتال لاجله..
لكن مهلا.. سنتان انقضتا على وقع التهديد بالكيمياوي المزدوج، وقضية الجاسوس بازوفت الشهيرة، ولم ينته العراقيون من ترميم الخراب الذي اصابهم طيلة ثماني سنوات ليصحوا في صبيحة من آب اللهاب العام 1990 على بيان القيادة العامة للقوات المسلحة للكادحين والعمال والفلاحين والعراقيين الشرفاء، انهم الان في الكويت يعيدون الفرع الى الأصل، ذلك الفرع المحصّن اكثر من عشرات الدول، يصبح في صبيحة من آب محافظة تاسعة عشرة من محافظات العراق..
كنت يومها اتمتع بإجازة التسريح من خدمتي العسكرية، وكان دفتر خدمتي في دائرة التجنيد، اتصل والدي بي هاتفيا وهو يخبرني بانه سيذهب الى صديقه ضابط التجنيد لتسريع الافراج عن دفتر خدمتي العسكرية.. بعدها بساعة واحدة اتصل بي فرحا باطلاق سراح دفتر خدمتي. ونقل فرحته الي، لكن غصة في القلب لاتفارقني. الم اقل لكم اكو امل..
في العاشرة صباحا، استمع الى بيان المديرية العامة للتجنيد تدعو مواليدي الى الالتحاق بدوائرها.. (يافرحة الماتمّت)، يتصل بي والدي مرة أخرى (ها بوية تروح؟) ما اروح.. لا بوية كفينة شرهم.. اكو امل..
وكان الامل معقودا على ناصية الفرهود الكويتي الذي تناثر على ارصفة شوارع بغداد والمحافظات، عطور –مواد تجميل – أجهزة كهربائية – مكيفات هواء – سيارات – ملابس – ادوية، وكل ما يخطر او لا يخطر على بال..
عاش العراقيون كرنفالا شعاره تنزيلات .. تنزيلات (الله يديمك يارخص) بضاعة مستوردة.. وكانت صيحات الباعة وهم ضباط صغار وجنود (بيع واضحك، لم الدخل وابكي)،وقيل يومها اكو امل..
لكنه سرعان ما تبدد تحت وقع القاذفات الامريكية وغيرها، وتناثرت الجثث مع البضائع على اكبر طريق للمحرقة عرفته البشرية في تاريخها الحربي الحديث، وسميت يومها من قبل القائد الضرورة ام المعارك..
وتبدى الانكسار في انتفاضة شعبية، اذاق القائد المهزوم المدن المنتفضة الويل والثبور وكانت هوسات المنتفضين يومها تقول اكو امل..
ندخل الى سنوات التسعينات، بدايتها انفتاح بوابات الجحيم والتي ستطبق على العراقيين من كل الجهات.. فلا شيء مما يملكونه او امتلكوه في سنوات سابقة في فورة الامل على ارصفة الشوارع الا وباعوه من اجل رمق إضافي للحياة.. وكان يقال لهم اكو امل.
ثم جاءت تلك الحملة الايمانية، ليهرب بها النظام وعراقه الى الامام وليكرس في العقول، عقول الجماهير اليائسة، هذا الامل نحو الخلاص مستقبلا، الم يقل لهم طيلة سنوات سابقة اكو امل وصدقوه؟
لم يتبق شيء لم يكن له سوق رائجة في عراق التسعينات، الملابس الرثة ، شبابيك المنازل وابوابها، كتب المثقفين واوراقهم، جينكو، رصاص، بلاستك، مواد غذائية عفنة، شرف مباع، عزة مغدورة، وقيل يومها اكو امل..
في العام 2003 سقطت دكتاتورية الامل، واستبشر العراقيون خيرا بالأمل الأمريكي الجديد، لكن دعونا نرجع الى الوراء..
حرب السنوات الثمانية مع ايران لم يبرد ثأرها لدى الإيرانيين، وهاهي تسيطر على القرار السياسي العراقي وتتدخل في شؤونه.
الفرهود الكويتي لازال العراقيون يدفعون اثمانه تعويضات بالمليارات..
دول الخليج تلعب على المسرح العراقي..
اسلاميو الحقبة الايمانية يتسيدون المشهد السياسي، تطرفا وعنفا وارهابا وفسادا..
الصبيان والشقاوات يحكمون باسم الامال الضائعة طيلة تلك السنوات السابقة منذ العام 1968 ..
الجماهير الموعودة بالخلاص لازالت تصفق وتهتف بحياة القادة الجدد الذي يقولون لهم بان هناك امل..
هل فعلا هناك ثمة امل؟
يمكن بحالة واحدة، ان تستيقظ الجماهير من سباتها الذي استراحت اليه طيلة عقود الاستبداد، وان تثور على نفسها قبل الثورة على الاخرين، وان لا يكون الامل عبارة عن تحقيق نجاح فردي في العمل او المال او القوة، وهو موجود ومتحقق في كل زمان ومكان، بل يجب ان يكون نجاحا على مستوى المجموع، وتحقيق مصلحة عامة وليست خاصة.
نحتاج الى صفعة قوية لأنفسنا تدير خد الألم الى الامل. هل نمتلك تلك القدرة لفعلها؟
اضف تعليق