لاضير في المراجعات التي تقوم بها النخب الثقافية والفكرية او السياسية لمسيرتها، افرادا او جماعات، اذا كان ذلك يقود الى تصحيح في مسيرتها الراهنة لأجل المستقبل، ومعالجة اخطاء الماضي وعدم تكرارها نتيجة لغياب الرؤية، او عدم وجود التخطيط لهدف معين واضح المعالم عند انطلاقها في العمل الثقافي او الفكري او السياسي.
على مستوى الافراد من النخب الثقافية، كانت لدينا عدد من تجارب المراجعات الفكرية، مثل ما حدث مع العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وعلي عبد الرازق وخالد محمد خالد وزكي نجيب محمود وغيرهم، والتي أفضت إلى تراجع بعضهم عن الأطروحات الداعية إلى التجديد الجذري، والتصالح من ثم مع ما هو مألوف وسائد من أفكار وطروحات، وخصوصاً في مراحل متقدمة من العمر.
غير أن عمق هذه المراجعات، أي درجة حدتها، وأشكال الإفصاح عنها، إنما يختلف كثيراً بين كل مفكر وآخر، على نحو يرتبط ارتباطاً كبيراً بالدوافع التي قادت إليها، والتي تشي بمغزاها، وهل هي مجرد (مراجعات) منطقية ومن ثم مبررة بحكم العمر والتجربة الإنسانية، أم أنها (انقلابات) على الذات، تتسم بالنفعية والراديكالية. صلاح سالم/مغزى المراجعات الفكرية لدى النخبة الثقافية العربية.
هناك عدة اسباب كانت وراء مثل هذه المراجعات وضغطت على القائمين عليها "افرادا وجماعات": (الأول معرفي -الثاني وجودي -الثالث سياسي -الرابع نفعي/أناني/سوقى يتعلق بالانقلاب على الذات سعياً إلى مآرب مباشرة، وذلك بعد فشل القوى التي طالما دافعوا عنها أو ذبول التجارب التي تحمسوا لها، ومن ثم بدأوا في التكيف مع الواقع واللعب على المضمون بغرض انتهاز الفرصة لتحقيق مصالح مادية أو أدبية بعد أن فات قطار العمر ولم تتحقق الرؤى المثالية أو الأحلام السياسية. (ياسر قنصوة – ابراهيم السخاوي/محنة الاسلام السياسي.. الايديولوجية المارقة).
على مستوى الجماعات (حركات فكرية او سياسية) ايضا حدثت عدة مراجعات فرضتها ظروف معينة تبعا للأحداث السياسية العاصفة التي مرت بها البلدان العربية والمسلمة، او احداث خارجية تأثرت بها تلك الحركات، من تلك الاسباب (نكسة حزيران – سقوط جدار برلين – تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001 – تغول السلطة وبشاعة استبدادها) ويمكن لنا ان نذكر على سبيل المثال:
المراجعات العميقة لدى عدد من منظري التيارات اليسارية في العالم العربي – مراجعات حركة الجهاد والهجرة المصرية لوقف العنف – مراجعات حسن الترابي بعد انشقاقه عن الحركة الام للاخوان المسلمين – مراجعات حركة النهضة التونسية وتحولها من جماعة دعوية الى حزب سياسي).
المهم في هذه المراجعات ورغم اختلاف الاسباب الداعية لها فأنها تقوم على (نوع من الرغبة في زحزحة وتجاوز المواقف والاقتناعات السائدة، والسعي لتركيب ثقافة أخرى وأساليب أخرى في المواجهة والعمل). كمال عبد اللطيف/ما بعد انفجارات 2011 من زمن المراجعات الكبرى/تحديات الطور الانتقالي
في الشأن العراقي، ورغم مرور اكثر من عقد على المرحلة الانتقالية في شكل النظام السياسي لم تحدث مثل هذه المراجعات، رغم التشابه في التجربة بين احزاب الاسلام السياسي العراقية، ومثيلتها في البلدان العربية في صعودها الى السلطة بعد ما عرف بالربيع العربي.
واخترت احزاب الاسلام السياسي لأنها هي المتسيدة للمشهد السياسي العراقي منذ العام 2003 وحتى الان، بشقيها الشيعي والسني (...) مع عدم تجاهل الانشقاقات التي حدثت في صفوف هذه الاحزاب والحركات، فهي لاتعد مراجعات طالما ان البنية الفكرية المؤسسة هي نفسها باقية رغم فداحة التجربة التي مرت بها ومر بها العراق.
لم تقم الاحزاب السياسية الدينية الشيعية بأية مراجعة اصلاحية او تحديث في الاصول الفكرية والسياسية من اجل استيعاب المتغيرات السياسية النابعة من واقع التطورات والتحديثات في نظم واساليب العمل التنظيمي. ولم يصاحب صعود الاحزاب السياسية الشيعية الى سدة الحكم تطوير لنظريات الحكم والسلطة، او اقامة دولة حديثة تنهض على أصلين هما الحرية والمساواة. غانم جواد/الشيعة والانتقال الديمقراطي: كيف تعاملت قوى التيار السياسي الاسلامي الشيعي مع المتغيرات السياسية في شؤون الحكم وبناء الدولة في العراق. غانم جواد: الشيعة والانتقال الديمقراطي، كيف تعاملت قوى التيار الاسلامي الشيعي مع المتغيرات السياسية في شؤون الحكم وبناء الدولة في العراق؟
فشل التجربة السياسية التي شاركت فيها الاحزاب الاسلامية، وخصوصا الشيعية منها لم تكن حافزا كافيا لبدء المراجعات الفكرية لأطرها التأسيسية التي قامت عليها، وان هي فعلت، فأنها تذهب الى إطلاق رصاص الاتهامات في جميع الاتجاهات، محملة جماعات شيعية اخرى ليس لها علاقة بالسياسة، او انها بعيدة عن الاداء السياسي او مواقع السلطة، لتحميلها فشلها الذي تعاني منه.
والاغرب من ذلك، ان تلك الجماعات الشيعية لا تشكل منافسا سياسيا يمكن ان يصارع على النفوذ او مواقع السلطة والقوة داخل الدولة العراقية، فهي جماعات تنهج طريق العمل الفكري والثقافي، التي تطمح الى توعية شيعة العراق بقضاياهم والدفاع عنها ضد كل انواع السلطات المستبدة..
يعاب على تلك المراجعات، على قلتها، كمية الاتهامات الجزافية التي تطلقها على الاخرين، ومحاكمتهم على شخوص او افكار تطرح هنا وهناك، من خلال جعلهم متحدثين رسميين عن تلك الجماعات، وهم في الحقيقة لا يمثلون الا أنفسهم. متناسين او متغافلين عن هذا الكم الكبير من دعوات التسامح واحترام التعددية واعطاء الحقوق للأقليات واللاعنف والشورى وغيرها الكثير من المفاهيم الانسانية والاسلامية الكبرى.
نحتاج في العراق الى مراجعات حقيقية وليست نفعية راديكالية، تصحح مسار التجربة السياسية التي نعيشها منذ العام 2003، ووصلت بالعراق الى ما وصلت به من عنف وتطرف وارهاب وفساد، وان تكون تلك المراجعات تعتمد على الاطر البناءة للحوار والمكاشفة واليد الممدودة بالسلام.
اضف تعليق