الدولة حقيقة لا نشاهدها بذاتها، لكننا نشاهد آثارها، نتحسس وقعها في واقعنا، لذلك تكاد ان تكون حقيقة علوية حين نستدل بأثرها عليها، لعل غيب حقيقتها هو الذي يدعونا الى التفكير بقداستها، بعظمتها، بقدرة الرفض الكامنة في اعماقنا على خيانتها، وحتى لا ترتقي الى الغيب المقدس في أدياننا، فإننا ننعتها بمقاربة المعنى المقدس لها، ويبقى المعنى شكل من الغيب يقابل التجريد في معنى الدولة الذي ننساق اليه عبر ضرورته أو ضرورتها أي الدولة، إنه اللامشاهد لكنه المحسوس في نفوسنا، الملموس في واقعنا، إنه مجرد شكل من الغيب لا يدخل جوهر الغيب وموضوعه، وان حاولت النظرة التقليدية القديمة للدولة أن تعتبرها قدر إلهي واختيار فوق قدرة البشر أن يمارسوه، فمنحوا للدولة سلطة لا تعارض، وحق في السلطة يقابله في المعادلة الإلهية القديمة واجب الطاعة، فالملوك أنصاف آلهة أو ابناء آلهة او هم وكلاء آلهة والبعض اعتبرهم آلهة.
لكن في المعنى الحديث للدولة فإنها صارت إرادة الكل، تجسيد ارادة أمة وهو معنى يبقى مجازي-تأويلي مثمر وبناء.
الدولة تتشكل في اللغز وتعبير الرمز
لماذا نحرص على أن نصف الدولة إنها دون الهي حتى نتخلص من سطوة المقدس في السياسة؟، لماذا نحرص على أن نصفها بأنها فوق بشري حتى نمنع تدنيس السياسة لها؟ فالدولة ليست مجتمعا سياسيا أو مجرد تنظيم سياسي فحسب، من أجل أن نمنع التلاعب بها وفق مشيئة بشرية ضالة، كذلك فإنه ما يمكن فيها من انبساط العدل والمساواة بعد ذلك، هذا المعنى المجازي – التأويلي يبقى موسوماً بسمة الفكر الذي ابتكره أو اضفاه على واقعة تأريخية من وجهة نظره هي الدولة، أو قد يكون اكتشفه، إنه الفكر الغربي الحديث، لكن حين كف الغيب عن تدخلاته في هذا الفكر منذ حركة التنوير وسعي الحداثة نحو تجاوز، الوحي، الدين، فإنه لم يتجاوز مداخلته فيما لم يستطيع هذا الفكر من القبض عليه باعتباره لغزا أو شيئا غامضا لم تدرك أصوله مثل الدولة من وجهة نظر هذا الفكر، الذي استبدل فكرة او عقيدة الغيب بمفهوم الاسطورة التي تنكشف مقومات مفهومها في نظام الرمز الذي وظيفته في الدولة تحريك المشاعر نحو الانتماء الى الدولة بشكل كوني وحالم وشاعري، وهي ثلاثة عناصر تشكل أبعاد كل رمز أصلي عند جلبرت ديران.
من هنا جاءت فكرة أن أصل الدولة لغز، وان مرورها الى حياة الإنسان جاءت عبر أسطرة مفهوم السلطة الذي يحاول هذا الفكر من خلاله تفسير خضوع الانسان والمجتمع الى سلطة ما، ثم الى دولة ما، بعد إن لم يقبض هذا الفكر على أصول وحقيقة الدولة تاريخياً.
فالدولة وفق (جورج بوردو) نجمت عن تطور عميق لايمان متعلق بالسلطة، فكانت هوية المجتمعات البدائية تتحقق عبر استمرار السلطة، إنها اتساع سلطة عائلة أو وظيفة دينية، وتبقى خلفية هذا الايمان وأصله فيما هو لغز. ويحدد جاك باغنر مكان السلطة الحقيقي بواسطة الجماعة في كليتها، وهذا مكان غامض وإن لم يشر باغنر الى هذا الغموض، إلا إنه تاريخيا تم مصادرة هذه السلطة لصالح طبقة أو من قبل أصحاب الامتيازات – باغنر- وصار مكان السلطة واضح.
إن غموض الدولة واستنتاجاً عن باغنر نابع من تناقض ذاتي – دنيوي في تركيبة الدولة، فهي من جهة تمثل عالم الحق الذي يسعى الى السلام وتوكيد معيار عقلي في مجريات الدولة النظرية والعملية، وهو افتراض أوربي حديث في الدولة يريد باغنر تعميمه لأن الدولة في رأيه -ويشاركه أوربيون كثر- ظاهرة متموضعة في اوربا تحديداً منذ القرن السادس عشر الميلادي، ومن جهة أخرى فهي مشحونة بعالم السياسي وهو عالم من التقلبات والانفعالات والصراعات الملونة باللامعقول وفق باغنر.
أما الجانب الآخر الذي يشف عن المعنى الغامض في الدولة وتمر عبر المقوم الاسطوري في الوعي البشري لها، وأعني بالمقوم ما تقوم به الدولة في الوعي وما يقوم به هذا الوعي من أسطرة ضرورية للدولة لغرض الإيمان بها ايماناً يقارب الإيمان المنبثق عن الأديان، فالإله في التفسير الدوركهايمي تعبير عن روح الجماعة ووحدتها استبدلته الدولة الحديثة بذاتها في التجسيد للأمة أو تجسيد ذاتها الجماعية عبرها، هكذا نجد أن الدولة الحديثة تزاحم تنافس الإله الدوركهايمي في صياغة الرمز المعبر عن علاقة أنطواء الذات في الأمة، في الدولة، فالاله الدوركهايمي تصوغه روح الجماعة، او وحدة الجماعة، او هو تعبير عن روح الجماعة في وحدتها الذي تجسده في الهها، فهو تجسيد للجماعة بينما تقمصت الدولة الحديثة دور التجسيد هذا وصارت هي تجسيد للجماعة عبر تجسيدها لإرادتها، اي ارادة الجماعة، فأقصت الاله الدوركهايمي عن دوره وتعبيره وصياغته الرمزية في الجماعة.
وكان من اشتراطات الدولة الحديثة في الغرب هو اقصاء الاله بكامله عن عقيدتها، عن نظامها، عن سياستها، وهو ملخص إشكالية الدولة الحديثة في الفكر الإسلامي السياسي الذي يؤمن بدولة تعبر عن سلطة الله تعالى، بينما الدولة الحديثة في نموذجها الغربي تعبر عن ذات أدنى هي ذات الانسان، وهو سبب يقف خلف علمنة الدولة الحديثة وأقصاء الدين عن تشريعاتها وسياساتها، لكن الدولة الحديثة في الغرب منحت الأنسان دور الإله في تحديد معايير الحق والصواب، وجاءت الصياغة الحديثة الدولية للدول العظمى أو للدول الكبرى تعبيراً عن هذا الحق الممنوح لها، الذي صارت هذه الدول بواسطته تمثل وجهة نظر المجتمع الدولي وفق إملاءاتها هي وليس عن طريق توافق او إجماع بشري عام.
ان الدولة الحديثة تنوء تحت سلطة مجموعة من البشر تقمصوا سلطة الإله، هذه السلطة التي ظلت ترشح عن المعنى المؤله في الدولة، فإنه قد فتح أمامه امتدادات في السلطة غير محدودة أخذت تتنامى وتترسخ عبر سعي الدولة الى اثبات ذاتها الخاص والمنافس للإله دوركهايمي من خلال نظام رمزي يحشد، ليس مجرد التأييد للدولة، بل الى تبني الدولة بشعور باطني–جواني، ذلك لو انها كانت واضحة لماذا تلجأ الى الرمز، الى نظامه من اجل إقناع يرفع الدولة الى مصاف المقدسات، ويفتح لها كوة واسعة الى مقاربات غيبية، او دعنا نقول معنوية.
فالطقوس والشعائر التي ترعاها الدولة في حالات السلم والحرب تكشف عن ارتهان واضح بالأسطورة لا تتمكن الدولة من البقاء والتشبث بالوجود السياسي لها إلا من خلال هذا النظام الرمزي، فمناسبة العلم، والعيد الوطني، ومناسبة التشريفات، والشرف، والتنصيب، والوقوف في لحظة أداء القسم، وتلاوة الشرف، وانحناءة أجلال أمام العلم، ولحظة اجلال أمام جثامين الشهداء حيث تعزف موسيقى السلام الجمهوري أو الملكي، وتمجيد أيام خاصة في تاريخ هذه الدولة، تلقي ظلال هيبة وروعة الدولة في روع المواطن عبر تأريخ مؤسطر وبوعي خاص وقصدي في توجيه الذات الوطنية نحو مرجعية وشمولية الدولة في هذه المرجعية. هكذا يتكشف الرمز والأسطورة في بناء أهم هو مشروعية الدولة وجودياً عبر الأسطورة، وتاريخياً عبر الحق لها في الظهور والتمدن، وسياسياً عبر السلطة تمثل هذه الدولة أو تحتكر رمزيتها.
الدولة وتأويل السلطة
اذا كان كل التاريخ الرمزي يوحي بالبلادة اذا لم يتم تعبأته قصدياً، ثم امكانية استبداله بتاريخ رمزي آخر، فهو غير متأصل على نحو من السبق أو القبل الضروري، فإن ضرورة الدولة تستوحيه في اللاحق او البعد، وتعبر عن مكنونها الذاتي من خلاله بما انها تمثل ذاكرة جمعية وسيرورة جماعية ورهانة مصيرية تبرز او تظهر بشكل جلي مع مأسسة السلطة، تلك المأسسة التي تمنحها بعدها التاريخي والاجتماعي والسياسي، لكن تبقى عوامل المأسسة أو انبثاق السلطة شيء غير مدرك بالعيان، بل ما يدرك فاعليتها في الاستجابة للسلطة والخضوع لأوامرها، ذلك إنها جزء من لغز استجابة الإنسان–المواطن للدولة، أو جزء من لغز الدولة. وتوصف الدولة في ثقافتنا الشرقية–العراقية بأنها رب ثانِ "وليس اله حتى لا نقع في مطبات الشرك" أو أنها اب ثان، فالربوبية والأبوية صفات كائنات عليا في أوراق ثقافتنا الشرقية مما يبرر أسطرتها في الفكر الإنساني عامة، لأنها لغز غير مرئي.
ويرى روبرت ماكفري، إن تكريس قدسية السلطة، هذه القدسية التي تجعل الخضوع مبرراً للناس – المواطنين يتم عبر طريقتين: أحدهما ما يطلق عليه ماكفري الحكمة الأسطورية، وثانيهما نظام جهازي يمهد أو يؤسس للتقديس. فالحكمة الاسطورية تصنع من الحاكم الهاً أو بطلاً استثنائياً أو مجسداً لكل فضائل الأسلاف، إنه صورة تفتن مخيال الشعوب، وتغذي فكرة استثناء منصب الرئاسة او ذروة الحكم من معايير البشر العادية، وتتوطد تلك الصورة في الذهنية الوطنية عبر نظام جهازي يجهز للسلطة – للدولة- كل اشتراطات الهيبة والرهبة، وهو ما تؤديه المراسم الشكلية – الرسمية التي تشتغل بالقوة الاقناعية للرموز، التي قد تفوق قوة المنطق – ماكفري- واذا كانت المؤسسة – السلطة تدل على وجود غير مرئي للدولة، فإن المراسيم – النظام الرمزي يدل على وجود مرئي بشخوصه برموزه اقوى تأثيراً هو السلطة – الحكومة، وتحاول او تسعى السلطة دائماً الى اختزالها، أي اختزال الدولة الى التعبير بانفراد عنها، سعي السلطة الى كبحها-كبح الدولة- الى الهيمنة عليها، إنه اختزال يمر عبر التمثيل السياسي والقانوني الذي تمارسه السلطة تجاه الدولة، وهو ما يذكرنا بمقارنة باغنر بأن الدولة حقيقة غامضة بين عالم الحق الذي تستند اليه لتعريف ذاتها، وعالم السياسة المنفعل والطاغي بأهوائه ومصالحه وصراعاته ومن أجل ان تبرر السلطة ذاتها فإنها تلجأ الى التأويل في علاقاتها بالدولة، فإنها تتأول سياستها وفق المصلحة العامة، أو وفق ضرورة تفرض حالة استثنائية مثل حالة طوارئ التي تحكم فيها السلطة قبضتها على الدولة، أو ان الدولة باعتبارها اوسع من السلطة قد تتأول علاقتها بالسلطة بحالة من الضدية وعدم السير وفق مصالحها كدولة تجسد أمة، أو بالأحرى تجسد مصالح أمة، وتكون الأمة في هذه الحالة هي من يمارس التعبير عن الدولة بصيغة معارضة، او صيغ في التغيير تجد الأمة تعبيرها أحياناً في الثورة على السلطة، مما يفند كل تأويلات السلطة وتكون محاولة انتقال منها أي من الأمة الى التعبير عن ذاتها، عن كيانها، عن معناها في الدولة تعبيراً حقيقياً وليس مجازياً يجد تعبيراته في سلطة تحتكر حق التعبير عنها، او التمثيل لها بالقوة المشروعة او العنف المحتكر لها من دون الأمة، وحين يتقحم التأويل علاقة الدولة بالسلطة فإن الدولة تبدو من عالم المعنى اللغز الغامض، الساحر، اللغز في قبالة حال السلطة الحاضر المشاهد، الغامض في قبالة واقع السلطة الواضح، الساحر في قبالة سلطة الجذب التي تمارسها الدولة بواسطة السلطة تجاه الناس.
الدولة والمعنى المتجدد
ان ما يبرر انتماء الدولة إلى عالم المعنى، أنها لم تخرج عن مسارات المعنى المكتشفة في حياة الانسان، فلذلك تعددت افكار المعنى فيها أي معنى الدولة من ابوية، الى طبقية، الى تجليات في الروح الكبرى، الى امكان القوة، وهي تفسيرات في معنى الدولة تكشف عن ظاهرة نشوئها وتشكلها.
أن انتمائها الى عالم المعنى، اللغز الغامض، ضمن لها عدم انحطاطها الى مجرد صنع بشري شأنها شأن النظام السياسي، السلطة، الحكومة، وانتمائها الى هذا العالم يجعل منها كمعنى، كفكرة تتموضع في المسافة الفاصلة بين ما هو إلهي وما هو بشري، إنها دون الإلهي لكنها فوق البشري، وفي تلك المسافة دوماً تكمن اكتشافات المعنى–الحقيقي في وجود الإنسان والمتأول في حياته في تاريخه. إنه نوع من عالم المتصوفة الذي يجولون به في سكراتهم الروحية ويتذوق الحقائق فيها الصوفي الواله، لكن الغموض يكتنف التعبير الصوفي، إنه احساس بالمعنى يعجز عنه تحسس اللفظ، ويندر تشكل المضمون فيه حرفياً. ولا يكون مجرد اضفاء معنى لأنها (أي الدولة) الأعمق ضرورة في تاريخ الانسان، في حياة الانسان، بل هو معنى منكشف بذاته عبر اندياحه عن الضرورة، يفيض بقوة حيويته على العقول والنفوس فيصنع مفهوماً وتتجلى به حقيقة ذلك لأن معنى الدولة كامن أو كائن يتهيأ للظهور الاجتماعي دائماً.
ولعل أرسطو كان يؤمن بهذا المعنى في الدولة المنكشف او المنبثق، والكامن مسبقا في الطبيعة، فيقول إن الانسان له طبيعة حيوان سياسي الغرض، لدى أرسطو أن الانسان حيوان سياسي سوى القول أن الدولة وفق تفسيراتها القديمة ظاهرة طبيعية، ووفق تفسيراتها الحديثة ظاهرة صناعية، لكن حين يلتبس الامر على جورج بوردو وكغيره من الغربيين في تأصيل الدولة، أو في أصل الدولة، وهو جزء من غموضها عند الغربيين، فإنه يلجأ الى اختصارها في تاريخ اوربا، فالدولة صناعة اوربا منذ القرن السادس عشر الميلادي عندما بدأت كجهاز جديد بأناس هذا القرن، فأعطوه اسماً تناقلته شعوب هذا العصر عنها – بوردو – اذاً هناك تاريخ ملغى بالقدر الذي الغت به الحداثة كل معنى قديم، كل معنى لم يكن مجرد اضفاءة يمارسها العقل على من حوله كما صنع مع الدولة، أو فكرة يصف العقل بها كذات العالم من حوله كموضوع، فاخرج الدولة من الطبيعة الى الموضوع، فالعقل الحداثوي هو الذي يصنع المعنى والحقيقة بآن واحد، فالدولة معنى متصور في العقل الحداثوي، لكن يبقى يكتنفه الغموض وفق هذا التصور أيضاً، ذلك لأنها لغز وحل، لغز يجد تعبيره في اشكالياتها التي تستغرق الجدل في المعنى فيها، وحل يجد تعبيره في نموذجها المتطور تاريخيا، سياسياً، ادارياً، اجتماعياً، لكن النموذج يبقى دوماً منخرطاً في جدلية الاشكالية، فالدولة يتجدد المعنى فيها باستمرار ويتجدد تعريفها باستمرار، وهو ما يمنحها القوة في الاستمرار والبقاء.
من هنا نجد ان الكتابة في الدولة اصطلاحاً، ومفهوماً، وتعريفا، ونظاماً، وتاريخاً، وتجديداً، وتطويراً، لم تنقطع في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وحين تصدق الدولة انها نموذج لا يخضع الى جدلية الإشكالية، أو هي فوق الجدل في اشكالات المفهوم والمصطلح. هنا نأخذ مثال دولة العربية السعودية فإنها تجد نفسها غارقة في مشكلة دولة غير قادرة على اكتشاف المعنى في ذاتها، فهي لازالت خاضعة الى المفهوم الديني والدنيوي القديم للدولة، فيتعطل المضمون بها وينحل الشكل فيها وتتحول بذاتها الى مشكلة تجد الامة محنتها فيها.
ختاماً علينا أن نجدد المعنى في دولتنا التي أطلت برأسها علينا وبشكل مفاجيء بعد 9/4/2003. وحين نتفق أو نؤمن بالمعنى في الدولة حينها ستبدأ أزماتنا ومشاكلنا بالتوقف عن استنزافنا واستنزاف هويتنا التي هي الضحية الاولى لغياب المعنى لدينا في الدولة..
اضف تعليق