لقد انتشرت فوضى الثّقافات والعقائد والاتّجاهات الفكريّة في زمن الامام جعفر بن محمد الصّادق (ع) [تُصادف اللّيلة ذكرى استشهادهِ في عام ١٤٨ للهجرة] بشكلٍ واسعٍ جداً.
واذا تتبّعنا السّبب الحقيقي فسنكتشف انّ وراءها محاولات مستميتة لتضييع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فالقاعدة تقول؛ اذا اردتَ تضييع فكرة فأَكثر الى جانبِها ما استطعت من الأفكار التّافهة والعقائد الفاسدة، واذا اردتَ ان تضيّع سؤالاً مُهمّاً هادفاً يُعتدُّ به فاكثر من طرح الأسئلة التّافهة التي بلا معنى، واذا اردتَ ان تضيّع جواباً سليماً وعقلانيّاً فكرّر عددٍ كبير من الاجوبةِ التّافهةِ التي لا معنى لها او لا ربط لها بالسّؤال المطروح للإجابة، وأخيراً، فاذا اردتَ ان تُشغل العالِم وتستنزف طاقات المفكّر وتشتّت الجهد الثّقافي لمجتمعٍ ما فاكثر من نشر الاكاذيب والافتراءات ليلهو بها وينشغل بتصنيفها، وهكذا، ولذلك قال أَميرُ المؤمنين (ع) كنموذجٍ {إِذَا ازْدَحَمَ الْجَوَابُ خَفِيَ الصَّوَابُ}.
ولولا قوّة الفكر والثّقافة وسلامة العقائد والاصول التي تميّزت بها مدرسة أهل البيت (ع) وخاصّةً ما تصدّى له الامام الصّادق (ع) وتسلّحهُ بقوّة المنطق والعقلانيّة في السّؤال والجواب وعدم انجرارهِ للقيل والقال واستسلامهِ للفوضى المُشار اليها، ولولا انّهُ (ع) خصَّص أصحابهُ وحوارييه بالعلوم والمعارف ليتمكّنوا منها بشكلٍ عميقٍ يمكّنهم من الفَوْز على الآخرين بالمحاججات السّليمة والمناظرات القويّة التي كانوا يفحمون بها الآخر، خاصّة المدفوع منهم، لانهارت المدرسة وانصهرت في الفوضى واستُدرجت للعبثيّة التي كان يهدف لتحقيقها مَن كان يقف وراء هذه الفوضى واخصُّ منهم بالذّكر السّلطة الحاكمة.
نَحْنُ اليوم نعيش نفس الفوضى وعلى مختلف الاصعدة، وانّ ما ساعد على اتساع أَثرها وانتشارها لتغزونا حتّى في مخادعِنا، هو التّكنلوجيا التي سهّلت عمليّة النّشر والتّوزيع وألغت المسافات ودمجَت العقول بشكلٍ كبيرٍ.
وتتجلّى الفوضى التي نعيشها في الكمّ الهائل من الاكاذيب والافتراءات والفبركات التي تصلنا يومياً والتي غالباً ما نُساهم في إِعادة توزيعها ونشرها من دون ايّ تفكيرٍ او انتباهٍ للمحتوى، وأحياناً نبادر الى نشرها حتى قبل قراءتها في عمليّة سباقٍ مع الزّمن! لنكتشف بعدَ حينٍ أَنّها لم تكن أَكثر من كذبةٍ صاغها واحِدٌ وساعدهُ ملايين على نشرِها.
وليس اعتباطاً أنْ قيلَ {حدّث المرء بما لا يُعقل، فَإِنْ صدَّقكَ فلا عقلَ لهُ} فإنك اذا اردتَ ان تكتشف حجم ورجاحة عقلِ ايّ واحدٍ في المجتمع، بما في ذلك عقلكَ أنتَ شخصيّاً، فانظر الى ما يقرأ؟ وبماذا يصدِّق؟ وماذا ينشُر؟ فاذا رايتهُ ينشر الاكاذيب والفبركات والسيناريوهات التي لا تصلُح حتّى لتمثيل الأفلام والمسلسلات في هوليود وما شابه، لضعفِ محتواها وركاكة اسلوبها، فاعلم انّهُ لا عقل لهُ بغضّ النظر عن الشّهادة (العليا) التي يحملها والعنوان الكبير الذي يتمتّع به والموقع الرّصين الذي يتبوأهُ! فلقد وصفوا عند الامام الصّادق (ع) رجلاً بالدّين والفضل والعبادة وغيرها، فقال (ع) كيفَ عقلهُ؟ انّ الثّوابَ على قَدَرِ العقلِ!.
ولذلك قال الامام (ع) {دليلُ العاقلُ شيئان؛ صِدْقُ القولِ وصوابُ الفِعْلِ، والعاقلُ لا يتحدّث بما يُنكرهُ العَقلُ، ولا يتعرّض للتُّهمةِ} فبالله عليكم هل انّ مَن ينشُر الاكاذيب المُفبركة عاقلٌ؟ هل انّ مَن ينشُر ما يصلهُ بِلا ايّ تفكيرٍ او تثبُّتٍ عاقلٌ؟ هل انَّ مَن يتحوّل الى مَطِيَّةٍ للآخَرين فينشر أكاذيبهُم عاقلٌ؟!.
والمُضحك المُبكي انّ بينهُم [مثقّفون]!.
انّ على كلِّ واحدٍ منّا ان يعرِض ما يصلهُ على عقلهِ قبل ان ينشرهُ، فاذا رَآه يتعارض مع العقل والمنطق والذّوق السّليم فليضرب بهِ عَرض الحائِط فلا يتحمّل وِزْرَ نشرهِ، من جانب، واحتراماً لعقول الآخرين على الأقلّ، من جانبٍ آخر!.
السُّؤال الآن؛
فمَن الذي يتعمّد الكذِب والفبركة؟ ولماذا؟!.
الف؛ للصّراع والتّنافس غير الشّريف بين مختلف الاطراف السّياسية وغير السّياسية، والذي أُتخِمت به ساحاتنا، دورٌ في ذلك، وانا أعرفُ شخصيّاً اطرافاً وزعامات تُديرُ شبكاتٍ متعدّدةٍ على مختلف وسائل التّواصل الاجتماعي مهمّتها فبركة الاخبار والتقارير والتّحليلات والافلام والصّور وتغذية السّاحات بها!.
باء؛ كما انّ لاعدائِنا المتربّصين بِنَا الدّوائر دورٌ في هذه الفوضى، ليخلُطوا الامور فيضيع الصحّ بالخطأ والحقّ بالباطل.
جيم؛ انّهم يريدونَ تضييع الحقائق والفكرة السّليمة والرُّؤية الصّحيحة، فعندما يستلم الواحد منّا الفَ مادةٍ في اليوم هي عبارةً عن مقالاتٍ تافهةٍ تحملُ افكاراً ساذجةً الى جانبِ اخبارٍ كاذبةٍ ومُفبركةٍ، فهل تظنّ انّهُ سيتوقّف عند فكرةٍ حقيقيّةٍ وسليمةٍ؟! او عند رأيٍّ مهمٍّ او رؤيةٍ جديرةٍ بالانتباهِ والنّقاشِ؟!.
كما انّهم بهذهِ الفوضى يقتلوا فينا القُدرةَ على التّفكير والقابليّة على التّمييز بين الغثّ والسّمين، انّهم يصرفوا اذهاننا عمّا يجب ان نفكّر فيه! فننشغل بما لا يجب ان نفكّر فيه او حتّى نتوقّف عِنْدَهُ! فليسَ كلّ النّاس مستعدّون لذلك بسرعة البرق، وهي السّرعة التي تنتشر فيها الاكاذيب والفبركات والترَّهات! لا من ناحية الوقت لانشغال النّاس في هذه الحياة، ولا من ناحية القُدرة العقليّة والطّاقة الفكريّة، وبذلك ستتحول هذه الفوضى الى مصدرٍ وحيدٍ للاغلبيّة العُظمى للتّغذيةِ الفكريّة والثّقافيّة والعقليّة، في عمليّة غسيل دماغ واسعة ومُبرمجة! وبمرور الزّمن ستتحّول هذه الاكاذيب والافتراءات والفبركات الى نصوصٍ ورواياتٍ مقدسّة في عقلِنا الباطن، لا يحقُّ لاحدٍ ان يُناقشَ فيها او يستفسر عنها أو يسأل او يُشكّك في مصدرِها!.
أنّهم يقتلوا فينا فُسحة الحوار المنطقي والنّقاش العلمي والرأي والرأي الآخر، وقيمة مبدأ {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} القرآني!.
انَّ مصيبةً عظيمةً ونازلةً خطيرةً تحلُّ بِنَا اذا أصبحت وسائل التّواصل الاجتماعي مصدرنا الوحيد للتّغذية الفكريّة!.
فالخزعبلات من الاكاذيب والفبركات والتّحليلات السّخيفة والآراء التّافهة تغزوكَ لحظةً بلحظةٍ {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} او رُبما تأتيكَ {قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} امّا الأفكار الرّصينة والرُّؤى المحترمة والآراء المعتبرة التي تصنع عندكَ [عَصْفاً ذِهْنِيّاً] فلا تصلُكَ ابداً واذا مرّت عليكَ فمرورَ الكرامِ!.
لم يُجبكَ احدٌ بعد الآن عن اسم الكتاب او الموسوعة او المجّلد او حتى عن اسمٍ معروفٍ ومُعتبرٍ وموثوقٍ بهِ اذا سألتهُ عن مصدر معلومتهِ او رأيهِ او ما الى ذلك، فلقد أَصبح الجوابُ جاهزاً اذا سألتهُ عن المصدر؛
الواتس آب، الفايبر، الفيس بوك!.
او ذيّلَ كذبتهُ بالعبارةِ [كما وصلني] أو [ذكرت قناة كذا وصحيفة كذا] وعندما تبحث عن المصدر تجد انّهُ هو الآخر كذبةً مُفبركةً لا أَساسَ لها من الصّحّة الا في مُخيّلة الكذّاب!.
والملاحظ انّهُ لا أَحدَ ينشر شيئاً مذيّل بهذهِ العبارة اذا كان يعنيهِ او يخصُّ جماعتهُ او حزبهُ او مرجعهُ او عشيرتهُ او رُبما حتّى منطقتهُ، ولكنّهُ يفعل ذلك اذا كان الامرُ يخصُّ غيرهُ!.
انّ هذا المصدر سبب التّسطيح الفكري والسّذاجة الثقافيّة وبلاهة التّفكير التي ابتُلينا بها، كما انّهُ سبب خفّة عقولِنا التي أنتجت الصنميّة وعبادة الشّخصية وكذلك ظاهرة [عِبادةِ العِجْلِ] و[القائد الضّرورة] و[السيّد القائِد] التي تضخَّمت اليوم في المجتمع بشكلٍ لم يعُد فيه احدٌ على النّقد والحوار والمساءلة والنّقاش والجهر بالرّأي الآخر!.
اضف تعليق