"الديمقراطية الحاضرة ثوب مهلهل من الديكتاتورية"
الامام الراحل السيد محمد الشيرازي

 

لا يقتصر الخوف الذي يعم العالم هذه الأيام على الخوف من الجماعات الإرهابية وعملياتها في مشارق الأرض ومغاربها، ولا يقتصر على القوانين الجديدة للعمل والعمال في كثير من البلدان، وأيضا الخوف من التغيرات المناخية والبيئية، والخوف من صعود اليمين المتطرف في أكثر من بلد في العالم، وأنواع أخرى من الخوف تحاصر الانسان وتنهش من مساحة امنه.

لكن الخوف الأبرز والذي يختفي خلف جميع المخاوف الأخرى، ويحركها بسبب طبيعته السياسية بما تمثله من سلطة القرار السياسي، هو الخوف من الديمقراطية، بما وصلت اليه، وما أوصلت الاخرين من خلالها الى سلطة القرار السياسي، والذي انعكس وتبدى تأثيره على جميع عناوين الخوف التي يعيشها الانسان.

لعل العنوان الأبرز هذه الأيام، هو صعود المرشح الأمريكي دونالد ترامب عن الحزب الجمهوري، مستفيدا من خطاب التحريض والكراهية ضد الاخرين (لاتينيين ومسلمين)، وتراجع مداخيل الملايين من الأمريكيين.

وهذا ليس غريبا للمتابعين لما يحدث في العالم، وفي أمريكا على وجه الخصوص، فقد أمضى الحزب الجمهوري سنوات في التمهيد لما جاء به «دونالد ترامب». لذا فقد نجح ترامب في إقناع الناخب الأمريكي بأن الحدود الأمريكية تنتهك، وأن الاحتباس الحراري ليس إلا خدعة، وان المسلمين ينقلون ارهابهم الى داخل أمريكا، وغير ذلك من شعارات.

ولعل مضمون خطاب ترامب عند ترشحه عن الحزب الجمهوري، كان ديماغوجيا شعبويا بامتياز وينضح بالعنصرية ويهيئ لصعود فاشية جديدة، خلفا للمحافظين الجدد/مؤتمر الحزب الجمهوري يتوج ترامب وينتحر.

لم يكن ترامب وحده في ذلك، فالديمقراطية غير الليبرالية ـ باختصار ـ هي ديمقراطية تترجم مؤسساتها وجهات النظر السائدة في المجتمع إلى سياسات، لكنها غير ليبرالية؛ إذ لا تضمن حقوق الأفراد والأقليات، ولذلك أطلق عليها «ديمقراطية الأغلبية». وهي الأيديولوجية نفسها التي دافع عنها المجري «فيكتور أوربان»، والتي احتذى بها حزب «القانون والعدالة» البولندي،، فضلًا عن الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» الذي بدأ حملة تطهير غير مسبوقة في الجيش والقضاء والتعليم إثر محاولة الانقلاب الفاشلة التي فتحت أمامه "طريقا واضحا إلى السلطة المطلقة، ظل يُتهم لوقت طويل بأنه يتوق إليه".

مايحدث على امتداد الديمقراطيات في العالم وصفه «جيمس تروب»، الصحفي، وزميل مركز التعاون الدولي بنيويورك، والعضو بمجلس العلاقات الخارجية، في مقاله المنشور في مجلة «فورين بوليسي» عن أثر القادة الشعبويين في أزمة الديمقراطية الليبرالية، وانتشار الديمقراطية غير الليبرالية، بالعبارات التالية:

«النزعات المعادية للعقلانية تجلي الطريق أمام انتشار الديماغوجيين الشعبويين عبر الديمقراطيات الغربية»

فجميع أولئك القادة الذين ذكرت أسماؤهم، هم قادة شعبويون فازوا في الانتخابات عن طريق حشد المواطنين (أو بعبارة أخرى الأغلبية) ضد القيم الليبرالية، كالترويج لعداء العلمانية للقيم الدينية للأغلبية، أو تحقير طائفة من الدعاة للفردية للجماعية، أو قلق من المهاجرين يفوق الاكتراث للمواطنين أنفسهم، أو الاحتفاء بالسوق الحرة الذي يقوض سيطرة الدولة.

لكن لماذا هذا الصدام غير المتوقع بين الليبرالية الحاكمة والشعبوية المعارضة؟ السبب عجز الأحزاب الليبرالية التقليدي عن التجاوب مع الشعوب التي تحكمها. وبصورة خاصة الشباب. وعدم قدرتها على معالجة أزمة البطالة التي أفقدت الشباب الأمل في الديمقراطية الرأسمالية. وأدت عولمة الاقتصاد إلى هجرة المصانع الغربية إلى الدول الفقيرة، طمعا في ربح أكبر باستخدام الأيدي العاملة الرخيصة الأجور.

لقد لاحظ الفيلسوف الإيطالي «جورجيو أغامبن» أن الديمقراطيات الغربية تعيش اليوم مسارا معاكسا للديمقراطية الأولى (اليونانية) التي قامت على تسييس المواطنة بنقل الهوية الجماعية من مبدأ التمايز الاجتماعي إلى مبدأ المشاركة السياسية، في حين أن ما نعيشه راهنا هو نزع السمة السياسية عن معيار المواطنة، باعتبار أن المواطن لم يعد له أي دور فعلي في القرارات الحاسمة التي تصوغ مصيره وأصبح الهامش المتاح له محصوراً في مناسبات انتخابية موسمية شكلية لا تغير من الواقع شيئا. وقد اعتبر اغامبن أن هذا التطور يتلاءم مع الانتقال من المجال العمومي كإطار تداولي نقاشي مفتوح إلى مجال الرقابة والمتابعة الذي أصبح هو ميدان السياسة بصفتها إدارة دائمة للخوف لا تأمينا نهائيا منه.

وقد نبه الامام الشيرازي الراحل لهذه المآلات التي كانت تسير اليها النظم الديمقراطية في العالم في كتابه (الفقه – السياسة) حين كتب: (ان الشعوب في البلاد التي تسمى ديمقراطية، تعرف تلاعب الساسة بمقدرات الناس، وانهم ديكتاتوريون في اثواب مهلهلة من الديمقراطية، وانها تعرف ان الرؤساء انما يعملون لأجل انفسهم اكثر مما يعملون لأجل شعوبهم).

* هذا المقال يعبر عن رأي مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
http://shrsc.com/

اضف تعليق