q

يتناول المؤرخ البريطاني هربرت فيشر تاريخ أوربا لاسيما الحديث وكأنها شعب واحد وهوية واحدة تتقاسم حكمه وأدارته حكومات متعددة أو منقسمة، فقد كان يرى أن المؤثرات كلها توحدت في صناعة تاريخ خاص لشعوب أوربا، فهو يتحدث عن الزيادة العامة للسكان في أوربا والتي بلغت في القرن التاسع عشر " 350 " مليون ولايعطي بيانات عن هذه الزيادات في دول أوربا كل على حدة، ويعزي هذه الزيادة الى سيطرة الانسان على الطبيعة، وبطبيعة الحال فهو يعني الانسان الاوربي.

ويعمم حديثه عن الزيادة في حجم المدن والاساطيل والجيوش الاوربية في هذا العصر، وكأن أوربا أمة واحدة منقسمة بحكوماتها حصرا. بل ويناقش المشاكل والحلول ضمن فضاء أوربي متوحد بطبيعته وهويته، فالحرية التي أستند اليها اعلان الحقوق الاميركي عام 1773م أخذت أشكال متعددة وكمؤثر واحد عند الاوربيين لكن مضامينها متفقة فهي دستورية عند ميرابو وثورية عند دانتون وشعرية خيالية عند شل ولامارتين وعملية عند كبدن ومغامرة عند غاريبالدي.

وبالنتيجة فان النضال الاوربي هذا قد انتهى الى تأسيس هيئات برلمانية في جميع ممالك ودول أوربا في نهاية القرن التاسع عشر، وهكذا تبدو أوربا متوحدة في حركتها التاريخية ونضالاتها الانسانية وتسير وفق صيغة من العمل والاستجابة الذي يعكس توحد هويتها في جذورها وثقافتها، وهو التضمين الذي يستشعره المتلقي وهو يقرأ تاريخ أوربا الحديث عند هربرت فيشر.

- نظرة تاريخية في حلم أوربا موحدة

نكتشف جذور الهوية الاوربية في أصول الثقافة الاغريقية والمسيحية وبينهما الرومانية، فالعقل الاغريقي، والقانون الروماني، والانسان المسيحي، هي أهم مكونات الشخصية الاوربية وهو ما منحها إمكانية أو حلم أوربا موحدة، والذي بدت صيغته واضحة في منظمات الاتحاد الاوربي، لكن خروج بريطانيا جاء ليقوض ذلك الحلم التاريخي ويعيد التساؤل من جديد حول إمكانية أوربا موحدة، أو كما أطلق عليها في مراحل من هذا الحلم " الولايات المتحدة الاوربية. " وتمتد تاريخية هذا الحلم الى القرن الخامس عشر الميلادي وإعلان ملك بوهيميا بوديبراد عام 1464م في وثيقة حملت إسم تراكتاتوس ودعا فيها الى وضع ميثاق سلام بين الشعوب المسيحية في أوربا، وتشكيل سلطة قضائية وهيأة برلمانية تضم دول أوربا.

وقد جاءت دعوته تلك على أثر سقوط القسطنطينية على يد الاتراك العثمانيين ومباغتة الخطر التركي للممالك الاوربية الشرقية، والذي بعث إحساسا قوميا لدى الاوربيين بضرورة توحيد أوربا بوجه الدولة العثمانية.

واذا كان سقوط القسطنطينية في العام 1453م مؤشرا لدى البعض على نهاية العصور الوسطى في أوربا، فان هذه العصور كانت فيها أوربا تخضع الى وحدة روحية قوامها الكنيسة المسيحية ورعاية البابا في روما لدولها وشعوبها، وكانت هذه الوحدة الروحية تعبير عن هوية هذه المجتمعات في هذه العصور والتي كانت دينية بامتياز، ورغم الانشقاق الحاصل في هذه الكنيسة المسيحية بين كاثوليك وبروتستانت، الا ان المسيحية ظلت تشكل الهوية الاوربية وصولا الى عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي وحتى عصور أوربا الحديثة بدءا من القرن الثامن عشر الميلادي أو ما أطلق عليه عصر الحداثة والتنوير، وقد كان قادة التنوير أغلبهم من المؤمنين المسيحيين والمنشقين عن الكنيسة.

وقد ظلت فكرة توحيد أوربا حلما يراود هؤلاء المفكرين ورجال دين مسيحيين كبار، فقد اقترح القس الفرنسي دوسان بيار في العام 1713م مشروعا لإقامة سلام دائم بين ملوك أوربا المسيحيين تمهيدا لإرساء وحدة أوربية تقوم على الهوية المسيحية، وقد انتقد الفاتيكان ورجال دين مسيحيين في أوربا في ستينات القرن العشرين عدم تضمين بيانات الاتحاد الاوربي التأسيسية ودستوره أي أفكار دينية–مسيحية تعبر عن جذور أوربا في المسيحية. ويبدو أن أوربا تخلت عن هذه الهوية أو أرادت أن تتخلى عنها منذ عصر التنوير وعلى يد فلاسفة تنويريين كان المبدأ المحرك لهم هو أنسنة التاريخ الذي أراد إحالة، أو أحال فعلا قيادة التاريخ من الكنيسة الى الانسان.

ولعل مشروع العقد الاجتماعي الذي التزمه فلاسفة ومفكرو أوربا في هذا العصر هو اقتراح بخروج اوربا من سلطة الكنيسة الى سلطة الملوك والامراء وانفصال السلطة الزمنية – السياسية عن السلطة الدينية الكنسية ضمن محاولتهم أنسنة تاريخ أوربا، ولذلك جاءت دعواتهم الى اتحاد أوربي وفق أسس ومضامين إنسانية تتعلق بالسلام الدائم ولا علاقة لها بالهوية المسيحية كأيديولوجيا لوحدة أوربا، لاسيما وأنها جاءت على أثر حروب أوربا الداخلية ومجازر الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت. وغالبا ما تؤمن الشعوب بأهمية السلام وضرورته بعد أن تذوق ويلات الحروب، هنا يتحول السلام الى حلم لكنه حلم مشروط باتحاد هذه الشعوب لضمان عدم تكرار الحروب.

ان الاتحاد بين الدول يكون هدفه السلام أو ضمان ديمومة السلام وتلك كانت فحوى أفكار ومشاريع السلام التي طرحها المفكرون الاوربيون التنويريون، فقد وضع جان جاك روسو كتابه " الحكم في السلام الدائم " في العام 1782م ودعا فيه الى إقامة فيدرالية أو كونفدرالية بين أمراء أوربا، ثم كتب الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانت في العام 1795م رسالته "من أجل السلام الدائم" داعيا أنظمة أوربا الجمهورية الى الوحدة، لأنها في رأيه هي القادرة على ضمان السلام في أوربا، وفي هذه الرسالة يتحدث كانت عن إتحاد دولي، ويتحدث عن تنظيم بين دول العالم أشبه بتنظيم هيأة الامم المتحدة الحديثة، إلا إنه كان يقصد دول أوربا باعتبارها في نظره وهو الاوربي بهويته وثقافته هي الدول التي تمثل هذا العالم.

وقد إستشرت تلك الرغبة في إتحاد أوربي لدى الكثير من النخب الفكرية والدينية والسياسية في أوربا بشكل يعكس إحساسا أوربيا بوحدة هويتها الاجتماعية والثقافية فقد دعا كلود هنري دوسان في العام 1814م الى إعادة "تنظيم المجتمع الاوربي" في رسالة تحمل هذا العنوان وجهها الى برلمانيي فرنسا وإنكلترا، وإقترح شكل كونفدرالي يقوم بين باريس ولندن وتكوين برلمان أوربي يعمل أو يمهد الى توحيد أوربا، وفي العام 1849م إقترح الاديب الفرنسي فكتور هيجو تأسيس الولايات المتحدة الاوربية وكان يتوقع هذا التوحيد لاوربا " لكي يصنع الاخاء الاوربي دون أن تفقد أي أمة خصائصها " وكان يراهن على ذلك اليوم الذي تتحول فيه ميادين المعارك في أوربا الى أسواق منفتحة على الافكار، وهو ما تحقق لاوربا بعد إن أرست السلام بين دولها وتخلت عن الحروب فيما بينها.

ولابد من الاشارة هنا الى أن أكثر دعوات الوحدة الاوربية بزغت في فرنسا وقد تحمس الفرنسيون بقوة لوحدة أوربا ولعلها من إفرازات حركة التنوير والحركة الانسانية التي ظهرت فيها بقوة في تلك الفترة، أو أن الحروب التي إستنزفت فرنسا في تاريخها هي التي تقف خلف دعواتها تلك، ثم نجد إختفاء تلك الاصوات الداعية الى الوحدة الاوربية وإختفاء دعوات السلام في الفترة التي إنشغلت بها دول أوربا بالاستعمار وفتوحاتها في الشرق وإمتلاكها القوة العسكرية الجديدة بعد الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر مما وفر لها ولشعوبها أمنا متماسكا من المخاطر الخارجية ونقلت حروبها من الداخل الاوربي الى الخارج الدولي من اجل توسيع مستعمراتها وهدفها في تأمين مصادر الطاقة وسعة أسواقها، حتى جاءت الحرب العالمية الاولى في العقد الثاني من القرن العشرين فاشتعلت الحروب الداخلية في أوربا من جديد مما حفز على تكرار دعوات إتحاد أوربا وإحلال السلام المشروط بهذا الاتحاد في هذه القارة التي أنهكتها الحرب.

فقد دعا الكونت النمساوي ريتشارد كودنهوف في العام 1923م الى تنفيذ فكرة الولايات المتحدة الاوربية–الفكرة القديمة، وداعيا الى إحتذاء النموذج الاميركي، ثم جاء العام 1926م لينعقد مؤتمر أوربي شارك فيه 2000 مندوب يمثلون 24 دولة أوربية ووافق المؤتمر على فكرة تنظيم حكم فدرالي يشمل كل أوربا. بعد ذلك دعا وزير خارجية فرنسا أرستيد بريان في العام 1926م أيضا أمام عصبة الامم المتحدة الى إقامة إتحاد أوربي ضمن هذه العصبة الدولية، واستقبلت دول أوربا هذا المقترح بارتياح وقبول، لكن صعود الاحزاب اليمينية النازية والفاشية في ألمانيا وأيطاليا في هذه الفترة أدى الى تقويض هذا الحلم الاوربي، وستستمر الاتجاهات القومية واليمينية في محاولاتها من أجل عرقلة إتحاد أوربي.

لكن ضغط الحرب والدمار الذي ألحقته بأوربا في الحرب العالمية الثانية في العقد الرابع من القرن العشرين أدى من جديد الى إحياء دعوات السلام في أوربا والطريق المؤدي إليه في إتحاد أوربي، فقد إنعقد بعد الحرب في العام 1947م مؤتمر في مونتنغرو وضم حركات محافظة وديمقراطية ومسيحية وإشتراكية، وأتفق المشتركون على إقامة ولايات متحدة أوربية، ثم أعقبه مؤتمرا أخر في العام 1948م وحضره عدد أكبر يمثلون 29بلدا أوربيا وقد أسهم هذا المؤتمر في إنشاء الجماعة الاوربية للفحم والصلب في العام 1950م وفي هذه اللحظة أنجزت بدايات أولى ومهمة في حلم أوربا واحدة والذي مضى عليه مايقارب ستة قرون منذ إعلان ملك بوهيميا في العام 1464م.

- إنجاز الحلم الاوربي

لقد إتسمت فرنسا في تاريخها الحديث ومنذ الثورة الفرنسية في العام 1789م بتلك الحيوية الفائقة في تحركها الاقليمي الاوربي والدولي العام، وكانت تراهن على أفكارها في إحداث تغيرات مهمة على صعيد أوربا والعالم.

ولذلك ليس مستغربا أن تبدأ فكرة الاندماج الاوربي وبوسائلها العملية في فرنسا، فقد أعتبر جان مونيه رئيس دائرة التخطيط الاقتصادي في الحكومة الفرنسية وهو الاب الروحي لفكرة الاندماج الاوربي وفق بعض الباحثين وكان يعمل في حينها مستشارا لوزير الخارجية الفرنسي روبرت شومان، فقد رأى مونيه أن فرنسا لا يمكن لها أن تنهض بأعباء بناء دولتها بمفردها بعد الحرب العالمية الثانية، ولذلك روج لفكرة السوق الاوربية المشتركة، وعلى أثر دعوته تلك وضعت خمسة دول أوربية هي فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا ولوكسمبورغ معاهدة الجماعة الاوربية للفحم والصلب في العام 1950م، وكانت إتفاقية روما في العام 1957م بعد إنضمام إيطاليا الى هذه الدول هي التي أنشأت الاتحاد الاقتصادي الاوربي للطاقة الذرية ثم أطلق عليها المجموعة الاقتصادية الاوربية، وفي العام 1972م إنضمت الى هذه المجموعة وكان إنضمامها قد شهد معارضة قوية في أيام الرئيس الفرنسي شارل ديغول الذي كان يرى في بريطانيا ممثلا وحاميا للمصالح الاميركية في أوربا. وقد توالى إنضمام الدول الاوربية الاخرى الى هذه المجموعة الاقتصادية، وأخيرا وقعت في العام 1992م معاهدة ماسترخيت التي أطلق عليها إتفاقية الاتحاد الاوربي وبلغ عدد الدول الاوربية التي دخلت الى هذا الاتحاد 12دولة في العام 1995م ثم بلغت 25دولة بعد إنضمام دول أوربا الشرقية اليها وبذلك أنجز الحلم الاوربي وتحققت وحدة أوربا.

واذا كانت فكرة الاتحاد الاوربي باتجاه البحث عن السلام الدائم للخلاص من الحروب الداخلية التي تأججت نارها في القرن السادس عشر الميلادي واستمرت الى القرن العشرين في الحربين العالميتين الاولى والثانية، لكن فكرة الاتحاد أخذت منحى أخر وبوسائل عملية بعد الحرب العالمية الثانية، وذلك باتجاه المصالح الاقتصادية وبناء إقتصاد أوربي يضمن لدول وشعوب أوربا إستقرارا دائما ورفاها في العيش وتنمية مستديمة، والاهم من ذلك إنجازها سلاما دائما في أوربا وهو مشروع تاريخي للتنويريين الاوربيين ورجال دين كنسيين حاولت عرقلته تاريخيا الاتجاهات القومية واليمينية، وهي التي تسببت بخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي بعد ان كان هناك من يعي من قادة أوربا عدم جدية بريطانيا ودخولها للاتحاد.

ثم نتذكر جيدا ترددها المستمر في الانصياع الى توحيد العملة الاوربية اليورو الذي عكس توجهات خاصة بالاقتصاد البريطاني، وقد كان موضوع الهجرة هو القشة التي قصمت ظهر الاتحاد الاوربي، إذ بعد إتخاذ دول الاتحاد موقفا موحدا إزاء الهجرة وإستقبال اللاجئين، كانت بريطانيا غير مستعدة لاحتواء أزمة اللاجئين والقبول بإيوائهم ومنحهم الاقامة، فكانت اقصر الطرق للخلاص من هذه الازمة بالنسبة لبريطانيا هو الخروج من هذا الاتحاد وبتسويغ دستوري بواسطة الاستفتاء الذي عبر عن هيمنة اليمين البريطاني وشكل إغراء قويا لعموم اليمين الاوربي والذي طالب أيضا بخروج دوله من الاتحاد.

ويشكل هذا أيضا إستمرارا للتوجهات القومية واليمينية التي عارضت في تاريخ أوربا الحديث فكرة الاتحاد الاوربي أو أوربا موحدة. ويبقى الخوف من تسلل الارهابيين ضمن المهاجرين ثم الكلفة المعيشية لهؤلاء المهاجرين وباستغلال واضح لليمين البريطاني هو ماشجع المواطنين البريطانيين على تأييد الخروج من الاتحاد الاوربي في الاستفتاء الذي شهدته بريطانيا مؤخرا. لكنه تعبير بنفس الوقت عن عالمية الازمة التي تسبب بها الارهاب والمعاناة التي يسببها للعالم كله.

..................................
للاستزادة يراجع:
1 – تاريخ اوربا الحديث/هربرت فيشر
2 – الاتحاد الاوربي في مطلع الالفية الثالثة/د. احمد نوفل سعيد
3- مقالة اوربا الاقل اوربية/برنار كاسان

اضف تعليق