مثل الاخرين كنت في سهرة حتى الصباح لمتابعة احداث محاولة الانقلاب العسكري في تركيا.. واقصد بالأخريين أولئك الذين تابعوا الحدث لحظة بلحظة، عكس اخرين غيرهم ناموا مع الدجاج في ساعة مبكرة ليصحوا في اليوم التالي على اخبار فائتة.. وما فاز الا النوّم..
انقسم العراقيون الى فريقين وهم يتابعون الحدث التركي بين عاجل يمضي سريعا، وراجل يأتي مسرعا.. فريق فرح بما يحدث وعده انتقاما الهيا لمن ساهم في دعم داعش الذي قتل ابناءهم وعمل على قطع المياه عن مزروعاتهم وماشيتهم ومبردات الهواء، وساند الاكراد في تمردهم على الحكومة (وهي نفس الحكومة التي يخرج الجميع في تظاهرات ضدها).. وفريق حزن لما يحدث وهو يتابع العاجل والراجل من الاخبار، حول نفس الرجل الذي لولا تدخله هو واخرين لما عاشوا مثل الفلسطينيين ويلات النزوح عن بيوتهم بسبب دعمه لداعش، ولما كانوا مضطرين لاستيراد الرقي الإيراني الصفوي بسبب قطع المياه عن مزروعاتهم..
فريقان منقسمان كان العراقيون ليلتها، وهم اشبه بمشجعين لفريقين يتابع كل جمهور فريقه، ويهتف بأسماء لاعبيه، ويتفاعل مع كل هجمة له. وهو يشابه الواقع من حيث انقسام العراقيين الى مشجعين لفريقين اثنين لثالث لهما وهما برشلونة وريال مدريد، ولا مجموعة ثالثة، وحتى ان وجدت تلك المجموعة (الدوري الألماني – الإنكليزي – الإيطالي) فانها في لقاءات الفريقين تميل الى تشجيع واحد منهما تبعا لصولات وجولات اللقاءات التي جمعت فريقه مع احد الطرفين..
وكثيرا ما تنشب نزاعات حادة، وتتسبب بخصومات شديدة بين مشجعي الفريقين خاصة في لقاء الكلاسيكو الشهير بينهما، تصل أحيانا الى حد القتل، من قبل مشجع اخر للفريق الخصم.. وقد تصل الى قتل جماعي من قبل طرف اخر ليس كارها للفريقين فقط، وانما كاره للحياة نفسها، كما حدث مع مشجعي ريال مدريد في احد المقاهي من قبل داعش، وهو نفس الطرف الذي دعمه رجل تركيا الذي حاولوا الانقلاب عليه..
ولو بقينا في هذا المستوى من التشبيه والتوصيف، أي لعبة كرة القدم، والحياة نفسها عبارة عن لعبة كبيرة فيها الخاسر والرابح، يكون العراقيون اشبه بفريق في مجموعة للتصفيات ينتظر فوز فريق من فريقين يلعبان اللعبة الأخيرة في التصفيات ليترشح العراقيون في المركز الثاني. وهم في هذه الحالة لا تهمهم هوية الفريق الفائز بقدر اهتمامهم بخسارة احدهما، فتراهم يعيشون حالتين متناقضتين، تشجيع كل فريق يهجم على مرمى الاخر.
بالانتقال الى مستوى ثاني خارج ساحة كرة القدم، ما الذي كان يمكن للعراق ان يستفيد منه بعد الانقلاب لو نجح أصحابه فيه، وازاحوا من دعم داعش؟ وهو الذي لم يستطع الاستفادة كل هذه السنوات السابقة حين كان الوضع التركي مستقرا. هل يمكن ان يلعب العراق بأوراق معينة والجانب الاخر في حالة اضطراب لا يهدأ ويحتاج الى فترة انتقالية قد تطول لسنوات؟ ليس لدى العراق أوراق ذات قيمة في جعبته.. اذن هو الخاسر الأكبر في الحالتين.
ماذا عن الاقتصاد؟
أيضا لم يستفد العراق من هذه الورقة طيلة السنوات السابقة، وهو الذي يستورد بالمليارات من تركيا (البان واجبان – ملابس – احذية – شركات بناء) وهو حين أراد ان يلعب بتلك الورقة من منطلق العاطفة والهيجان الشعبوي في تشجيع فريق ضد اخر، تهددت مصالح شركات الطيران العراقية حين أقدمت تركيا على بعض الإجراءات في منح الفيزا للعراقيين، ليتراجع العراق عن الكثير من قراراته حتى قبل تفعيلها.. وبقي يردد ساسته التصريحات المعهودة والتي تسبقها سين التسويف.
ماذا عن الاجتماع العراقي؟ ورحلات الاصطياف والاستجمام التي يقوم بها العراقيون ورحلات الاستطباب (من الطب) ويساهمون في تقوية الاقتصاد التركي الذي يدعم داعش الذي يقتل ابناءهم ويقطع المياه عن مزروعاتهم ومواشيهم ومبرداتهم؟
نحن امام نفس المشكلة الكروية، فلا موقف شعبي موحد تجاه كل ذلك، فشواطئ البوسفور وانطاليا افضل من طرق وشوارع تحت درجة الغليان.
ماذا عن التحليلات التي قدمها المحللون السياسيون العراقيون لهذا الحدث لحظة وقوعه وتصاعده؟
ينظم الى سابقاته، انفعال عاطفي وتمنيات وتشجيع، ومنهم من ذهب الى اعتبار ذلك عقابا الهيا كان منتظرا ومستحقا لاردوغان نتيجة دعمه لداعش التي يقتل ابناءنا ويقطع المياه عن مزروعاتنا ومبرداتنا.. مع نسيان كل الأسباب والمسببات الموجبة لذلك، وهو ما يشي بالعودة الى (الجبرية السياسية) التي رسخها معاوية بن ابي سفيان في حكمه..
فاتنا جميعا ان السياسة مع اردوغان وتركيا، او الملك سلمان والسعودية، او غيرها هي بالدرجة الأساس بحثا عن مصالح ومكاسب للدول والشعوب، وبما اننا في عصر التوحش والفوضى والأخلاق السائلة، فكل شيء جائز في السياسة طالما هي تحقق ما يريده الفاعلون السياسيون لأنفسهم او لمحكوميهم.
لكنه العراق السريالي، الغرائبي، العجائبي، الذي لا تنقضي مفارقاته وتناقضاته ومفاجآته.
حتى انقلاب اخر ربما في السعودية هذه المرة، هل يمكن حدوث ذلك؟ اسألوا المحللين السياسيين العراقيين وراقبوا المباراة.
اضف تعليق